عاقبة الظلم والظالمين
بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
إن اللهَ سبحانه هو السيدُ الأعظمُ، الذي خلقَ ورزقَ، وأحيا وأمَاتَ، الفعَّالُ لما يريد، الحاكمُ الذي لا مُعقِّبَ لحكمهِ، الذي سيَسأل الناسَ جميعًا ويحاسبُهم، ويثيبُهم ويعاقبُهم، ولا يملكُ أحدٌ أن يسأله عما يفعل ﴿لاَ يُسألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُوْنَ﴾ (الأنبياء: 23).
ومع هذه المشيئةِ المطلقةِ والقدرةِ غيرِ المحدودةِ فإنه سبحانه حرَّم الظلمَ على نفسه، وجعله بين الناس محرَّمًا "يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالموا"، ولم ينفِ القرآنُ الكريمُ عن الله صفةً كما نفى عنه صفةَ الظلمِ خاصةً ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ(46)﴾ (فصلت) ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)﴾ (يونس) ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)﴾ (الكهف).
ولذلك فقد أمر اللهُ تعالى عبادَه بالعدلِ والقسطِ ولو مع الخصومِ والأعداءِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)﴾ (المائدة)، وحذَّرهم أشدَّ التحذيرِ من الظلمِ وعواقبِه﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43)﴾ (إبراهيم)"اتقوا الظلمَ؛ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة" "اتقوا دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس بينها وبين اللهِ حجابٌ".
ولم يكتفِ القرآنُ الكريمُ بالوعيدِ بعذابِ الآخرةِ فقط، بل ضربَ الأمثلةَ العديدةَ بعاقبةِ الظالمين في الدنيا، فلم يرْوِ حديثًا عن قومٍ هَلَكوا بآفةٍ أشنع من آفة الظلم، فقومُ فرعون كانوا مثالاً للظلمِ السياسي والاجتماعي، وقومُ شعيب كانوا مثالاً للظلمِ الاقتصادي، وقومُ لوط كانوا مثالاً للظلم الأخلاقي، وهكذا.
تقديس الأخوَّة الإنسانية
ولم يقف الإسلام في كفاحه ضد الظلم في الأمرِ بالعدل والنهي والتحذير من عاقبة الظلم، بل سبقَ ذلك بتقريرِ وتقديسِ الأخوَّة الإنسانية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾ (الحجرات) هذه الأُخوَّة التي يقول فيها الإمام البنا- يرحمه الله-: "ولو آمن الناس بالأُخوَّة الإنسانية بينهم، تلك الأُخوَّة التي تربط القريب بالبعيد، والغني بالفقير، والصغير بالكبير، والتي تسوِّي بين الأمم والشعوب والأجناس والألوان في حق الحياة والعيش في يسرٍ ورخاءٍ، واعتقَدوا أن هذه الأُخوَّة بينهم أخوَّةٌ حقيقيةٌ، وهي أولى الروابط والأواصر بالتقدير والتقديس.. لألهَمَهُم هذا الإيمانُ شعورَ العطف والرحمة والتكافل في مطالب الحياة وحمْلِ أعبائها على السواء".
أسوأ من ظلم الجاهلية
ورغم كل هذا التراث الإيماني والقيمي والفكري والثقافي، إلا أن المسلمين- للأسف الشديد- تغافلوا عنه فيما بينهم، فَسَادَ بينهم الظلمُ والطغيانُ والاستبدادُ، وساروا سيرةَ الجاهليين الذين كانوا يفخَرون بالبغيِ والظلمِ وأكْلِ الضعيفِ ولو كان قريبًا لهم.
والفارقُ بين طغاة الجاهلية وطغاة عصرنا الحالي أمران:
* الأول أن طغاة الجاهلية كانوا يتمتعون- رغم طغيانهم- بفضيلةِ الصدق، فهم يصفون ما يفعلونه بأنه ظلمٌ وعدوانٌ، أما طغاةُ عصرنا فهم مجرَّدون حتى من هذه الفضيلة؛ إذ يزعمون أن ما يفعلون هو قمة العدل والإنصاف، ومنتهى الامتثال للدستور والقانون، وغاية إرادة الشعب مُمَثَّلا في نوابه.
* والثاني أن طغيان الجاهليين كان يتم من قبائل متنافسة أو متعادية، أما ما يحدث في عصرنا فيقوم به ولاةُ أمورنا، المنوط بهم حمايتنا، وتوفير الأمن لنا، وإقامة العدل بيننا، وتوفير الحياة الحرة الكريمة لنا في كل نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها.
فتجد هؤلاء الحكام الذين هم وكلاء عن الشعوب في تحقيق مصالحها ودرء المفاسد عنها، والذين يُقسِمون على احترام الدستور والقانون وتحقيق أماني تلك الشعوب.. سرعان ما ينقلبون عليها، فيصادِرون حرياتِها، ويكمِّمون أفواهَها، ويتركون لبطانتهم نهبَ أموالها وبيعَ أصولها، وإذا ما انتهت مدةُ ولايتهم أو ولاية المجالس النيابية ابتدَعوا وسائلَ شيطانية لتزويرِ إرادة الأمة؛ ليظلوا قابعين على قلبها، ويستخدمون في ذلك القمعَ البوليسي وقوانين الطوارئ، التي تُجمِّد الدساتير، وتُعطِّل القوانين الطبيعية التي أقسموا اليمينَ على احترامها، ويغلون يدَ القضاء الطبيعي عن مباشرة ولايته، فإذا ما تكلم أحدٌ مستنكرًا فمصيره كما قال القائل:
إذا تكلمتُ فقعر السجن متكأ
- وإذا سكتّ فإن النفس لم تطب
بل لا يقف الأمر على ملء السجن بالمعتقلين المظلومين ولسنوات متطاولة بدون تحقيق ولا محاكمة، وإنما يتجاوز ذلك إلى التعذيب البشع، الذي قد يؤدي إلى الإصابة بالعاهات أو الموت، وهناك وسيلةٌ عجيبةٌ للقهر، وهي القهر بالقانون، فالقانون الذي هو أداةٌ لتحقيق العدل يتحوَّل في أيدي الظالمين إلى وسيلةٍ للقهر، فهم لا يكتفون بالظلم حسب الهوى ولكنهم يصوغون هذا الظلم قانونًا عامًّا، وهذا هو أبشع ألوان الظلم، بل إذا وقفت نصوص الدساتير نفسها حائلاً دون ظلمهم فإنهم سرعان ما يغيِّرونها حسب أهوائهم، فأدوات التزوير طوع بنانهم، وبذلك تتحوَّل الدساتير والقوانين من وثائق محترمة إلى ألعوبة خادمة.
زواج غير شريف
وإذا وُجد الظلمُ والاستبدادُ بأرضٍ ملأها الانحراف والفساد، وتزاوجت السلطة والثروة زواجًا غير حلال ولا شريف، وسقطت الشعوب في هُوَّةٍ سحيقةٍ من الفقر والتخلف والبطالة، وهذا السلوك من شأنه أن يدمِّر الأمم ويقضي على الحضارات، وقد يكون هذا التدمير سريعًا ظاهرًا يقضي على هؤلاء الطغاة مع دولهم، وما حدث لهتلر وموسوليني وصدام وسياد بري ودولهم أشهر من التفصيل فيه، وقد يكون بطيئًا أو غير ظاهر، فتنتكس الدول وتضعُف وتتخلَّف في مضمار الحياة وكافة شئونها، وتُضطَّر إلى تسوُّل المعونات والتفريط في السيادة الوطنية والتضحية بالمصالح القومية وتتحول إلى دول تابعة.
ويفقد الأفراد في هذه الدول ولاءَهم وانتماءَهم؛ نتيجةَ حرمانهم من معظم حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتفاوت الطبقي الرهيب، فيدفعهم ذلك إلى الحقد والبغض على المجتمع، ومن ثمَّ إلى السلبية والتفلُّت من الواجبات أو السقوط في هاوية إدمان المخدرات، أو يدفعهم الشعور بالظلم والقهر والحرمان إلى الخروج على المجتمع، وبالتالي تصبح هذه السياسةُ الجائرةُ البيئةَ الخصبةَ لظهور العنف والإرهاب، وكلا الأمرين- السلبية والتمرد- كفيلان بإضعاف الدولة وزعزعة استقرارها ومن ثمَّ تخلفها.
ظلم داخلي وظلم خارجي
والظلم- الذي باعَد بين الشعوب وحكامها وأقام بينهم سدًّا منيعًا من العداوة والبغضاء والكراهية، بحيث أصبح كلٌ منهما يتربَّص بالآخر- هو الذي دفع أولئك الحكام المستأسدين على أهليهم وإخوانهم وأبنائهم إلى الاستسلام والانصياع لأعدائهم، فتلاعَب بهم هؤلاء الأعداء واستخدموهم لتحقيق مآربهم، ومن تمنَّع منهم عن الانصياع أدَّبوه بالحصار والإذلال أو بالاجتياح والاعتقال، فأصبحت الشعوبُ فريسةً للظلم الداخلي والظلم الخارجي الذي جاء لتصفية حسابات تاريخية، ولمحاولة القضاء على الإسلام، وتفتيت أمته ودولته، وتمكين الصهاينة من رقبته، فقامت مظالم رهيبة في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان وغيرها، وقُتل مئاتُ الآلاف من المسلمين، واعتُقل عشراتُ الآلاف، وعذِّبوا في سجون الأمريكان أو بالوكالة في سجون الحكومات العربية في فظائع يَندَى لها جبينُ الإنسانية، وهُدمت المدنُ والقرى على سكانها، واغتُصبت الأراضي والدُّور من أهلها، في ظلمٍ لم يعرف له التاريخ مثيلاً، تحت دعاوى كاذبة، وباستخدام القوة القاهرة تارةً، والقوانين الدولية والأمم المتحدة تارةً أخرى، حتى صار العالم غابةً يأكل القوي فيها الضعيف، وتضاعَف الظلمُ الذي بدأ محليًّا ليصبح على رؤوسنا عالميًّا، وكأنه انشطارٌ نوويٌّ يبدأ صغيرًا ثم ينفجر فلا يُبقي ولا يذَر.
مبعث هذا الظلم
هذا الظلم المقيت إنما مبعثه أزمة المبادئ والعقائد والنفوس والأرواح، أزمة الإيمان، فالذين يستبيحون دماء الناس وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم وأوطانهم بهذه الطريقة البشعة، إما أنهم لا يؤمنون بالله وعدالته ورقابته لهم وإحاطته بما يعملون ولا باليوم الآخر والحساب والجزاء، وإما أنهم تغافلوا عن هذه الحقائق وتعامَوا عنها حتى صاروا هم والأولون في الواقع العملي سواءً.
وكذلك مبعثه فقدان الإحساس الإنساني والتدني إلى مستوى أدنى من الوحوش، فالوحوش تفترس لتقتات، ولا تتلذذ بتعذيب ضحاياها، كما أنها غالبًا لا تعتدي على جنسها، أما هؤلاء الذين يرتدون أفخرَ الثياب ويتعطَّرون بأغلى العطور ويتشدَّقون بأحلى العبارات عن الحريات وحقوق الإنسان، ثم يسحَقون إخوانهم في الإنسانية أو الدين أو الوطن، فهؤلاء ليسوا بشرًا، فقد تجردوا من هذه الصفة من قديم.
وكذلك مبعثه الأنانية والمادية والسادية والاستعلاء الكاذب، فهم في الحقيقة مغتصبون للسلطة، فاقدون للشرعية، جشعهم للمال والترف والجاه بلا حدود، ومن هنا فإن استعدادَهم للبطش بكلِّ من يقف في طريقهم أو حتى ينصحهم بخطأ مسلكهم وخطر منهجهم على الأمة فاقَ كلَّ تصور، وكلما زادَ شعورُهم بالنقص لإحساسهم بأنهم مغتصبون كلما ازداد بطشهم.
ولهؤلاء نقول: إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وإن ما أنتم فيه إنما هو ابتلاءٌ لكم من الله، وإنما هي أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)﴾ (النساء).
وإنكم إن تكونوا حكامًا صالحين محبوبين خيرٌ لكم ألفَ مرة من أن تكونوا حكامًا مرهوبين مبغوضين، تتصاعد دعوات الملايين كل لحظة بالخلاص منكم، وتشيِّعكم لعناتهم صباح مساء، وإنه من الخير لكم أن تكونوا في أحضان شعوبكم، تحوطكم بقلوبها، وتفديكم بأرواحها، من أن تكونوا تحت أمر أعدائكم، يذلونكم ويستعملونكم في أذى أوطانكم وأهليكم وأمتكم، وأن تأتوا يوم القيامة ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله- بصفتكم أئمةً عادلين- خيرٌ من أن تأتوا ملوَّثين بدماء إخوانكم، ذممكم منفوخة بالحرام من أموالهم، شرفكم مجروح بانتهاك أعراضهم.
وعلى الشعوب ألا تركن إلى القدَر انتظارًا للخلاص من الظلم، بل يجب عليها أن تكون أداةً لهذا القدر، وذلك بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتصبر على ما يصيبها ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104)﴾ (آل عمران) ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(17)﴾ "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
فعلى الشعوب أن تتحرك لاستعادةِ حرياتها وحقوقها، وفرضِ احترام دساتيرها وقوانينها العادلة، وعلى قادةِ الفكر والرأي بصفة أخصّ ألا يهدأ بالُهم إلا بانتزاعِ كافةِ الحقوق المغصوبة ورفعِ الظلم عن المظلومين المهضومين؛ حتى تتقدمَ أمتهم وتقفَ في مصافِّ الأمم المحترمة، على أن يكون كل ذلك بالوسائل التي يقرُّها الشرع، فلا يصح أن تُواجَه جريمةٌ بجريمة ولا إرهابٌ بإرهابٍ.. ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105).