قالب:مواقف من حياة الإمام البنا
ذهب الأمام الشهيد إلى مؤتمر بالمنزلة دقهلية وبعد الفراغ من المؤتمر ، و الذهاب إلى النوم ، توجه الإمام و في صحبته الأستاذ عمر التلمساني إلى حجرة بها سريران ، ورقد كل على سريره .
وبعد دقائق قال الأستاذ : أنمت يا عمر ؟ .
قال : لا .
وتكرر السؤال .
وتكرر الرد.
وقال الأخ عمر في نفسه إذا سأل فلن أرد .
وظن الأستاذ أن الأخ عمر قد نام . فتسلل على أطراف أصابعه ، وخرج من الحجرة ، وأخذ نعليه في يده ، وذهب إلى دورة المياه حافياً ، حيث جدد وضوءه ، ثم اتجه إلى آخر الصالة ، وفرش سجادة ، وأخذ يتهجد .
جاء مبعوث من السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام وقابل الإمام الشهيد وقال له :
إن الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية و الإجتماعية ، وهي تقدر جهودكم ونفقاتكم .. لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا ... ولفلان و فلان .. وهذا شيك بعشرة آلاف جينيه معاونة للجماعة. فتبسم الإمام الشهيد وقال :
إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجاً إلى هذه الآلاف.
فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ و الإمام الشهيد يرفض .. و كان بعض الإخوة يتعجبون ويتهامسون :
لم لا نأخذ المال و نستعين به عليهم .
فكان جواب الإمام الشهيد :
إن اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد .
و اليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب .
أننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا و بأنفسنا لا بأرواح غيرنا .
اتصل فؤاد سراج الدين في بداية بريقه بالإمام الشهيد وقال له : أريدك في أمر هام .
فقال الإمام : وما هو يا فؤاد باشا ؟
فقال الباشا : أريدك معي في وزارة الشؤون الإجتماعية .
فقال الإمام : أنا موظف أعمل بالحكومة في أي مكان أنتج فيه . و لكن لي شرط واحد يا باشا .
فقال الباشا : وما هو ؟
فقال الإمام : أن أنقل في نفس الدرجة و بنفس المرتب .
فقال الباشا : مستحيل فسيكون تحت أمرك من هو بدرجة مدير عام .
فقال الإمام : آسف يا باشا و أنا متمسك بشرطي .
فقال الباشا : أنا لا أستشيرك في الأمر ولكني أخبرك وسيصدر المرسوم الملكي بهذا الأمر .
فقال الإمام : سأعتذر ولن أحرج وسيكون الحرج لك والوزارة .
بقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله :
كان الإمام الشهيد يرفع من معنوياتنا :
دعاه أحد الإخوان إلى الغداء في عزبته على مقربة من شبين القناطر بلدتي ، ولم يدعني الداعي ، وأحب المرشد أن يشعره بالتقصير دون إحراج ... فجاء من القاهرة و أرسل من يستدعيني من المحكمة ، فجئت مسرعاً ، فقال متعجلاً : اركب .
قلت : إلى أين ؟
قال : لنتناول الغداء عند فلان .
قلت : ولكني لم أدع ، وفضيلتك تعرف حساسيتي في هذا المجال .
قال : أعلم حقاً ، ولكنني لا أستطيع أن أمر من شبين القناطر دون الأخ المسؤول عنها .
فكيف تريدني أن أتخطاك ؟
قلت : و لكنك أنت المسؤول عنا جميعاً ، وتجب طاعتك على من عداك .
قال : ذلك في الشؤون العامة .
أما هذه المسائل فمسؤول المنطقة هو صاحبها و الرأي فيها رأيه و لئن لم يراع رئيس الجماعة وضعية المسؤولين في الجماعة كان الأمر إلى الفوضى أقرب منه إلى النظام .
قلت : جزاك الله خيراً على هذا الدرس .
قال : فإما أن تركب و إما أن أرسل إلى الداعي ليحضر ويدعوك معنا .
قلت : إذاً لأركب .
في معسكر الدخيلة كانت ذكريات ودروس وعظات من ذلك :
أصدر الأخ مسعود أبو السعود قائد المعسكر قراراً بمعاقبة أحد الإخوة وذلك بصرف نصف رغيف فقط في وجبة الغداء .
ونزل الإخوان البحر وجاء وقت الغداء وكانت جلسة الأخ المعاقب بجوار الإمام الشهيد وتزاحمت العاطفة والجندية.
فأخذ الإمام الشهيد يجمع من الخبز من أمامه لكي يعطيه للأخ المعاقب ثم يضعه ثانية .
وتكرر هذا المشهد عدة مرات .
لقد دفعته العاطفة لجمع الخبز ..
ومنعته الجندية من تكسير الأمر ..
وقام الإمام و لم يذق لذة الطعام .
يقول الأستاذ عمر التلمساني :
كان الإمام الشهيد حلالاً للمشاكل في بساطة ويسر ناجحين .
في مركز من المراكز شعبة يرأسها ناظر مدرسة إلزامية وانتقل إلى هذا المركز أخ أكثر علماً من الناظر .
وبعد أيام قلائل قال الناظر للوافد الجديد : يا أخي إنها أمانة فأنت أحق بحملها مني فاقبل رئاسة الشعبة وارحمني يرحمك الله .
فرفض الأخ في إصرار قائلاً : إن أهل مكة أدرى بشعابها .
وصمم كل منهما على رأيه ، ورفع الأمر إلى فضيلة المرشد .
فقال لنائب الشعبة : لماذا تصر على أن يكون أخوك هو نائب الشعبة ؟
قال : إنه أعلم مني .
فقال الإمام : هب أنه قبل ، وزاول عمله فأخطأ فمن يصلح خطأه ؟
وأنت كما تقول دونه علماً ، فابق في مكانك فإن أخطأت أصلح لك خطأك . أليس هذا صحيحاً ؟
قال : بلى .
وانتهى الأمر بهذه البساطة ، وهذه الحنكة .
في مؤتمر الطلاب الذي انعقد بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938 م خطب الإمام الشهيد فتحمس أحد الإخوة من الطلاب فهتف بحياة حسن البنا – وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف – إلا أن الأستاذ المرشد وقف صامتاً لا يتحرك برهة ، فاتجهت إليه الأنظار في تطلع ... ثم بدأ حديثه في غضب فقال :
أيها الإخوان ، إن اليوم الذي يهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتي أبداً . إن دعوتنا اإسلامية ربانية قامت على عقيدة التوحيد ، فلن تحيد عنها .
أيها الإخوان ، لا تنسوا في غمرة الحماس الأصول التي آمنا بها ، وهتفنا بها : ( الرسول قدوتنا )
﴿ إن لله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾
في مدينة رشيد أقام الإخوان حفلاً بمناسبة ذكرى الإسراء و المعراج ، فتحدث أحد الإخوة المتحمسين فقال : إن مثلنا الآن من الأستاذ المرشد وهو يشير إليه كمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه .
وما كاد الأستاذ المتحدث ينتهي من هذه العبارة حتى قفز الإمام الشهيد إلى المنصة ثم اتجه إلى الناس قائلاً : إيها الإخوة ، معذرة إذا كان الأستاذ البالمتحدث قد خانه التعبير فأين نحن من تلامذة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم نزل إلى مكانه .
يقول الإمام الشهيد في مذكراته :عرضت على زملائي و انا طالب بدار العلوم أن نخرج للوعظ في المقاهي فعارضوا ... و كنت أخالفهم في هذه النظرة ، وكنت أعتقد أن كثيراً من رواد المقاهي فيهم خير .
وقلت لزملائي :
إن العبرة بحسن اختيار الموضوع فلا نتعرض لما يجرح شعورهم .
وبطريقة العرض فتعرض بأسلوب شائق جذاب .
وبالوقت فلا نطيل عليهم القول .
وقمنا بالتجربة فألقيت في أول ليلة أكثر من عشرين خطبة تستغرق الواحدة منها ما بين خمس دقائق إلى عشرة .
ولقد كان شعور السامعين عجيباً ، وكانوا دائماً بعد الخطبة يقسمون أن نشرب شيئاً ، فنعتذر لهم بضيق الوقت وبأننا نذرنا هذا الوقت لله .
وكان أسوتنا قول كل رسول : ﴿ قل لا أسألكم عليه أجراً ﴾ .
ونجحت التجربة مائة في المائة بفضل الله وتوفيقه(1) .
وكرر الإمام الشهيد هذا الأسلوب وحده في الإسماعيلية عندما تخرج ، وعين مدرساً هناك ، فنجح بفضل الله.
يقول الإمام الشهيدال في مذكراته :
مررت ذات يوم على شاطئ النيل وأنا تلميذ .. فلاحظت أن أحد أصحاب السفن قد علق في ساريتها تمثالاً خشبياً عارياً على صورة تتنافى مع الآداب ، وبخاصة و أن هذا الجزء من الشاطئ يتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء .
فذهبت فوراً إلى ضابط النقطة وذكرت له ما رأيت وأنا غاضب .. فقام الرجل على الفور ، وهدد صاحب السفينة ، وأمره بإنزال التمثال حالاً .
ولم يكتف الرجل بذلك بل ذهب في صباح اليوم التالي إلى المدرسة وأخبر الناظر الخبر في إعجاب وسرور .
فسر الناظر وأذاع الخبر على التلاميذ في طابور الصباح.
فأين سلوك كثير من النظار والضباط اليوم ؟!
يقول الإمام الشهيدا في مذكراته :
" ونحن طلاب في المدرسة الإعدادية كنا نصلي الظهر في المسجد الصغير المجاور للمدرسة.
وذات يوم مر إمام المسجد فرأى كثيراً من التلاميذ يزيد على ثلاثة صفوف أو أربعة .. فخشي الإسراف في الماء ، والبلى للحصير.
فانتظر حتى أتم المصلون صلاتهم، ثم فرقهم بالقوة مهدداً ومنذراً ومتوعداً ، فمنهم من فر ومنهم من ثبت .
وأوحت إلي خواطر التلمذة أن أقتص منه ولا بد .
فكتبت إليه خطاباً ليس فيه إلا هذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء ومن حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين }
وبعثت الخطاب بالبريد
ثم عرف الشيخ ممن جاءته هذه الضربة ، فقابل الوالد شاكياً...
فأوصاه بالتلاميذ خيراً.
وكانت له معنا مواقف طيبة بعد ذلك.
واشترط علينا أن نملأ صهريج المسجد بالماء قبل انصرافنا وأن نعاونه في جمع تبرعات للحصر .
فأعطيناه ما شرط.
يقول الإمام الشهيد في مذكراته :
"كنت أؤذن الظهر والعصر في مصلى المدرسة، وكنت أستأذن المدرس- إذا كان وقت العصر يصادف حصة من الحصص – لأداء الأذان...
وكان بعض الأساتذة يسمح وهو مسرور وبعضهم يريد المحافظة على النظام، فأقول له: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأناقشه مناقشة جادة لا يرى معها بداً من السماح حتى يتخلص منها ومني "
يقول الإمام الشهيد في مذكراته :
نظمت درساً بالمسجد في الإسماعيلية بين المغرب والعشاء ، وأقبل الناس ، وكان له أثر طيب .
ولكن أحد قدامى المشايخ المولعين بالجدل والحواشي وإحراج الوعاظ حاول إحراجي ذات مرة وأنا أقص قصة الخليل إبراهيم عليه السلام .
فسألني عن اسم أبيه ؟
فابتسمت . وقلت : إن اسمه (تارخ) وإن آزر عمه والقرآن يقول : إن آزر أبوه.. ولا مانع من ذلك في لغة العرب .. ونطقت بكلمة تارخ بكسر الراء.
فقال : لكن اسم أبيه تارُخ) بضم الراء لا كسرها.
فقلت: فليكن ، وهو اسم أعجمي على كل حال، وضبطه يتوقف على المعرفة بهذه اللغة ، والمهم العظة والعبرة.
وأراد الشيخ أن يستخدم هذا الأسلوب في كل درس ومعنى هذا أب يهرب العامة والمستمعون .
ففكرت في العلاج : فدعوته إلى المنزل وأكرمته وأهديته كتابين .. فسُرّ الشيخ سروراً عظيماً.
وجعل يواظب على الدرس ، ويدعو الناس إليه بإلحاح وكف عن الجدال ، وصدقت الكلمة الطيبة : " تهادوا تحابوا".
يقول الإمام الشهيد في مذكراته :
" إن من فضل الله تبارك وتعالى أنه يطمئن ويسكن نفوس عباده ، وإذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب .
فلا زلت أذكر أن ليلة اكتحان النحو والصرف للإلتحاق بدار العلوم ، رأيت فيما يرى النائم أنني أركب زورقاً مع بعض العلماء الفضلاء .. فتقدم أحدهم وقال لي : أين شرح الألفية لابن عقيل ؟
فقلت : ها هو ذا .
فقال : تعال نراجع فيه بعض الموضوعات.
هات صفحة كذا ، وصفحة كذا .. وأخذت أراجع موضوعاتها.
وفي الصباح جاء الكثير من الأسئلة حول هذه الموضوعات.
فكان ذلك تيسيراً من الله تبارك وتعالى.
والرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن والحمد لله رب العالمين".
حقد أحد الزملاء الطلاب على الإمام الشهيد لتفوقه في الدراسة ففكر في حيلة يعيقه بها عن الامتحان.
فانتهز فرصة نوم جميع الطلاب ، وأخذ يصب زجاجة من صبغة اليود المركزة على وجهه وعنقه ، ثم تظاهر بالنوم ولكن الإمام ألهمه الله أن يقوم مسرعاً إلى دورة المياه ليغسل وجهه وعنقه .
وكان أذان الفجر ، فنزل مسرعاً إلى الصلاة . وكان تحقيق في الصباح في هذه الكارثة. واكتُشف الجاني واعترف بجريمته ....
فأخذ عقابه من الزملاء وهموا بتبليغ النيابة وإدارة المدرسة ولكن الإمام تذكر أنه قد نجا، وهذه نعمة تستحق الشكر وليس الشكر إلا بالعفو والصفح {ومن عفا وأصلح فأجره على الله}.
فجعل الله هذه الحادثة خيرا وبركة إذ كانت سبباً لانتقال الأسرة كلها من المحمودية إلى القاهرة.
دعي الإمام الشهيد إلى حفل في مدينة الزقازيق .
وكانت الإضاءة بواسطة الكلوبات ،فهوى إلى الأرض محشرجاً مدخناً ، يكاد ينفجر ، ولو انفجر لدمر السرادق ،ولكان الحريق مروعاً .
وهرول الناس مبتعدين عن هذا الكلوب الخطر .
وفي كل بساطة ، وثقة ، وشجاعة ، وهدوء ، ترك الإمام المنصة ، وأخرج مدية الجوالة من جيبه ، وتقدم إلى الكلوب في غير هرولة ، وفصله عن السقف ، وحمله إلى خارج السرادق .
وعاد الهدوء والأمن واستكمل الحفل على خير وجه.
حين صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر عاد 1948 م في عهد النقراشي وكان ما كان من محنة وبلاء واعتقال وإيذاء .
حينئذ ذهب بعض الشباب إلى الإمام الشهيد ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة .
فنهاهم بشدة عن هذا الأمر ، وأوضح لهم عاقبته الوخيمة وذكرهم الإمام الشهيد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان حين اختمصت امرأتان على طفل وليد ... وادعت كلتاهما بنوته ... فحكم بشطره نصفين بينهما ، وبينما وافقت المرأة التي لم تلد على قسمته، عز ذلك على الأم الحقيقية ، وآلمها قتل فلذة كبدها ، فتنازلت عن نصيبها فيه لقاء أن يظل الطفل متمتعاً بحياته ..
ثم قال لهم الإمام الشهيد : إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام .ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته. فتحملوا المنحة ومصائبها ، وأسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاؤوا ، حرصاً على مستقبل وطنكم ، وإبقاءً على وحدته واستقلاله .