الإخوان والعدالة الإجتماعية .. الرؤية والواقع

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان والعدالة الإجتماعية الرؤية والواقع


إعداد : موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

بقلم/ السعيد رمضان العبادى

المقدمة

العدالة الإجتماعية من المبادئ الإنسانية العريقة التي يمتد وجودها إلى قِدَم عمر البشرية، فمنذ الفجر الأول للتاريخ وبداية الخلقة عرفتها البشرية بوصفها حاجة متأصلة في أعماق الوجود الإنساني فقبلتها وأذعنت لها وجعلتها اللبنة الأساسية لقوانينها وقضائها. وليس هناك من شيء أشد وقعاً على الفطرة البشرية وإثارة لنفرتها وكراهيتها، كهضم الحقوق التي يعاني منه الضعفاء والمظلومون، وليس هناك ما يخلّف العداوة والبغضاء في القلوب أشدّ من الظلم ومناوأة العدل.

إنّ افتقار المجتمع للعدالة كان -على الدوام- السبب الذي أدى إلى وقوع أغلب الثورات، ولذلك تزعّم جميع مصلحي التاريخ وقادة التحرر حركاتهم الإصلاحية مستهدفين إقامة العدل والقسط، والقضاء على كافة أشكال التمييز والظلم.

فتلقت الأُمم والشعوب تلك الدعوات الإصلاحية بكامل الرضا والقبول، فقد كانت متعطشة للعدالة مؤتمرة بأوامر أُولئك المصلحين، متطلعة لتحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل الذي هو ضالة الفطرة السليمة.

والأهم من كل ذلك أنّ العدالة تمثّل هدفاً دينياً ربانياً كان يشكّل محور رسالات الأنبياء، الذين ضحوا بالغالي والنفيس ولم يبخلوا بأرواحهم في سبيل تحقّق العدالة ونشرها بين أوساط الأُمة.

وكانت العدالة الإجتماعية أحد أهم العوامل التي قامت عليها ثورة 25 يناير فالمؤكد أن المتجمع المصري خلال الثلاثين عاماً الأخيرة كان هناك تفاوت طبقي واسع واشتدت الهوة بين طبقات المجتمع المصري خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة فكان شعار الثورة المصرية (عيش – حرية – عدالة إجتماعية) والملاحظ أيضاً أن أحد أهداف ثورة 1952 كان إسقاط الإقطاع فالشاهد الرئيسي أن العدالة الإجتماعية هي أحد محركات الشعوب للثورات والإصلاح وهذا ما تبنته جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها على يد الإمام البنا عام 1928 فكان لها دور خدمي واجتماعي على نطاق واسع وبالرغم من الاتهامات العديدة التي طالت الجماعة بعدم انحيازها للفقراء إلا أن التاريخ والواقع يثبت غير ذلك تماماً فالإمام البنا كان من أوائل من دعا إلى تطبيق مبدأ العدالة الإجتماعية وكذلك البرامج الانتخابية المتعاقبة للإخوان والأدبيات المختلفة التي كانت تركز وباستمرار على المطالبة والسعي لتحقيق العدالة الإجتماعية وهذا ما سنحاول تأصيله من خلال هذا البحث وسيكون منهج البحث هو تأصيل لمفهوم العدالة الإجتماعية بداية لدى الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي ثم التأصيل لرؤية ومنهج الإخوان في التعامل مع العدالة الإجتماعية .

مفهوم العدالة

اتفق معظم اللّغويون بشأن «العدل» على أَنّه يعني المساواة والتكافؤ. وقالوا بأنّ «العَدل» و«العِدل» مفردتان مترادفتان في المعنى، غير أنّ «العَدل» يختص بالأشياء التي يدرك تساويها بالبصيرة، في حين يستعمل «العِدل» في مجال تلك الأمور التي يدرك تساويها عن طريق الحس. والعَدل هو المساواة في الجزاء، والإحسان مضاعفة الثواب (1) .

قال ابن فارس: العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنهما متقابلان كالمتضادين: أحدهما يدل على استواء، والآخر يدلّ على اعوجاج.

والتعبير الأوّل: العَدْل من الناس، أَي الشخص ذو النهج المستقيم المرضي عند الناس المستوي الطريقة، يقال هذا عَدلٌ، وجمعه «عدول». والعَدِل الحكم بالاستواء، والعَدل: نقيض الظلم والجور.

التعبير الثاني: بمعنى الاعوجاج والانحراف، عَدَل، وانعدلَ، أي انفرج (2) .

كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (3) .

والعدالة في الشريعة تمثّل الاستقامة على الحق وغلبة العقل للهوى، أمّا العدالة عند الفقهاء فهي اجتناب كبائر الذنوب وعدم الإصرار على صغائرها ورعاية التقوى وملازمتها وترك المحرمات وفعل الواجبات، والابتعاد عن الأفعال الوضعية، ويصطلحون على ذلك بملكة العدالة (4) . أمّا المفكرون والحكماء والفلاسفة فلهم تعاريف مختلفة للعدالة، وهذا ناشئ من اختلاف الظروف التي كانت تسود المجتمعات والتي تحكم ذهنيات الأفراد. فقد كان للفلاسفة والحكماء إبان القرون الوسطى -مثلاً- عناية وأهمية فائقة بالطبيعة وتأثيرها على الأفراد والحكومات، الأمر الذي جعلهم يذهبون إلى أنّ العدالة تمثل السلوك الذي ينسجم والطبيعة ورعاية الحقوق الطبيعية.

فيرى هؤلاء الفلاسفة أنّ العدالة عبارة عن مبدأ مثالي، أو طبيعي، أو توافقي يتكفّل بتعيين الحق، ويوجب الإقرار به ورعايته عمليًّا (5) .

ولذلك يعتقد أرسطو بأنّ العدالة بمعناها العام إنّما تشمل جميع الفضائل، أمّا بمعناها الخاص، فهي فضيلة يتحتم بموجبها إعطاء كل فرد حقه. ثم أضاف الحقوقي الرومي «سيشرون» هذه العبارة- لذلك التعريف- وهي: «شريطة ألاّ تضرّ بالمصالح العامّة».

وقد عدّ الحقوقيون وحكماء الغرب تعريف أَرسطو مع عبارة سيشرون المكملة له من أنجح التعاريف التي ساقها الفلاسفة حول مفهوم العدالة (6) .

أفلاطون بدوره يرى أنّ العدالة وشيجة تؤدّي لالتحام أفراد المجتمع أو وحدتهم من أجل الانسجام والتنسيق (7) .

وقد أُضيف لمعنى العدالة في عصر النهضة: «ضمان مصالح الآخرين، وقيل بأنّ العدالة الإجتماعية تعني احترام حقوق الآخرين وإعطاء كل ذي حق حقه» (8) .

وقد وردت مثل هذه التعاريف في كلمات العلماء والمفكرين الإسلاميين أيضاً.

فقد عرّفها الطبرسي بأنّها تعني مماثلة الشيء لنفسه، أي المساواة، فقال: «هو(العدل) مثل الشيء من جنسه...» (9) .

أمّا ابن أبي الحديد فهو يعتقد بأنّ العدالة خلق متوسط بين الإفراط والتفريط فيقول: «العدالة هي الخلق المتوسط، وهو محمود بين مذمومين، فالشجاعة محفوفة بالتهور والجبن، والجود بالشح والتبذير... وعلى هذا كل ضدين من الأخلاق فبينهما خلق متوسط، وهو المسمى بالعدالة...» (10) .

وصرح الشيخ الأنصاري بأنّ العدالة تعني الثبات والاستقامة (11) ، وذكرها العلاّمة الطباطبائي قائلاً:

«العدالة هي المساواة والموازنة بين الأُمور بحيث يحصل كل على استحقاقه» (12) .

وقال في موضع آخر: «العدالة هي الحالة الوسطى بين الإفراط والتفريط» (13) .

الشهيد المطهري عرفها قائلاً: «العدالة تعني إعطاء حق كل ذي حق وعدم الاعتداء على حقه» (14) .

طبعاً فصل الخطاب -والأهم من كل ما ذكر- قول الإمام علي (عليه السلام) بأنّ العدالة إعطاء كل ذي حق حقه. فيقول (عليه السلام): «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (15) .

ثم وصفها في موضع آخر بأنها الإنصاف والاعتدال والابتعاد عن الإفراط والتفريط، و«وضع الأشياء مواضعها» (16) .

العدالة الإجتماعية .. رؤية فلسفية

منذ بزوغ فجر الخليقة والبشرية تئن من سياط الظلم والجور، وتتطلّع للعالم الذي لا يسوده التمييز والتجاوز والاعتداء.

وقد تطلّعت البشرية على مدى التاريخ بكافّة أفرادها وطبقاتها ومجتمعاتها، صغيرها وكبيرها، مؤمنها وفاسقها، رجالها ونساؤها، حتى ظالمها ومظلو مها، عالمها وجاهلها لإقامة العدالة وتطبيقها بين الناس، فهي صفة إنسانية قد استبطنتها فطرة الإنسان التي تأبى رفضها والتمرد عليها.

أضف إلى ذلك، فإنّ الصورة التي رسمها كافّة الحكماء والفلاسفة للمدينة الفاضلة كانت قائمة على أساس التكافؤ والمساواة، إلى جانب تطبيق العدالة الاجتماعية، التي تعدّ الركن الركين لتلك المدينة،وسنعرض هنا لآراء بعض الحكماء بهذا الخصوص.

سقراط «470- 399ق. م»

يعتقد سقراط بأنّ القانون والعدالة يمثلان دعامتي المشروع الذي يطرحه، والذي يتضمّن الحياة الأفضل.

ومراده من القانون، القانون الإنساني الذي يسود كل منطقة وحكومة، أمّا العدالة فهي الانصياع التام لذلك القانون (17) .

أفلاطون «427- 347ق. م»

لقد نحا أفلاطون منحى أُستاذه سقراط، وغامر وضحّى بحياته في سبيل نشر فلسفته في تلك الظروف السياسية المتوترة، وسعى جاهداً لتأسيس جمهوريته الحديثة -حكومة السماء على الأرض- أو مدينته الفاضلة على أساس أفكاره ومعتقداته. ولم يكن كتابة المعروف «الجمهورية» ليقتصر على النظريات المحصنة، بل كان يسارع مبادراً لإدخالها حيز التطبيق العلمي (18) .

كان يصطلح على الانسجام والتوافق والنظام الذي يسود عناصر المجتمع بالجمال أحياناً، أو عصر الفضيلة والخير، فيرى العدالة هي ذلك الخير والجمال (19) . ويعتقد بأن العدالة الإجتماعية تعني تفويض كل فرد بما يتناسب وإمكاناته وقابلياته (20) .

أَرسطو «384- 322ق. م»

أَرسطو هو الآخر يرى بأنّ العدالة نوع من التناسب (21) ، ويصرّح بأنّ الحكومة المثالية هي تلك الحكومة التي تهدف إلى إشاعة الرفاه والسعادة في ربوع المجتمع.

وليس هناك من أهمية تذكر لشكل الحكومة، إنّما المهم حماس ومعنويات واستقرار - قادتها - رموزها وعناصرها (22) ، الذين يضطلعون بمهمة تنفيذ القانون واستتباب العدالة وتهيئة أسباب الراحة للمجتمع.

ثم تبعهم سائر الفلاسفة والحكماء في تأكيدهم على مبدأ العدالة. فقد قال «ولتر»: يبدو لي أنّ العدالة من الحقائق ذات الألوية القصوى التي تحظى بقبول العامّة وإن أدّى ظاهرها لارتكاب أَعتى الجرائم (23) .

البنود الإحدى والثلاثون للميثاق الدولي لحقوق الإنسان هي الأُخرى استهدفت القضاء على الاعتداءات والانتهاكات، والتمييز العنصري، وإقامة النظام العادل الذي لا يسوده الظلم والعدوان. فقد تضمّـنت المطالبة بتوفير الحريات وإحقاق حقوق الأفراد على كافة الأصعدة والميادين (24) ؛ وإن كان الواقع العملي خلاف تلك المضامين، بحيث يعدّ الموقعون على تلك البنود أول من تطاول عليها ونقضها وانتهك حرمتها.

العدالة عند الفلاسفة الإسلاميين

أمّا على صعيد الفلاسفة المسلمين فيمكن الإشارة إلى الفارابي الذي عكف على دراسة المجتمع نظرياً وبيان متطلباته واحتياجاته في ظل الأجواء والظروف السياسية والإجتماعية السائدة آنذاك، فألّف عدّة رسائل ومؤلفات في المجال السياسي، أشهرها كتابه المعروف بـ«المدينة الفاضلة»، والذي شبّه فيه المجتمع بالجسد وزعيمه بالقلب الذي ينبغي أن يتحلّىّ ببعض الصفات -من قبيل القوة والحزم، والعزم والفطنة، والولع بالعلم ونصرة العدل- لأنه القائد الذي يدبّر سائر الأنشطة والفعاليات، ويمنحها النظام المطلوب (25) .

العدالة الإجتماعية في المنهج القرآنى

يمثل مفهوم العدل أحد الركائز الأساسية في الرؤية القرآنية فالعدل هو محور كل شئ ، وعليه ترتكز فلسفة التشريع، وحكمة التكوين، وبناء المجتمع، وحفظ الحقوق، وتعميق المبادئ الأخلاقية.

والعدل لا يقتصر على جانب دون آخر؛ بل هو مطلوب في كل المجالات والحقول، إذ يجب أن يعم العدل في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والحقوق، وبدونه لا يمكن أن ينعم المجتمع بالسعادة والأمن والاستقرار.

ومما يدل على أهمية العدل في المنظور القرآني أنه «تكررت مادة العدل بمشتقاتها ما يقرب من ثلاثين مرة في القرآن الكريم، ويشير هذا التكرار إلى عناية التنزيل المجيد بالحديث عن العدل» (26) .

فالعدل في القرآن قرين التوحيد، وركن المعاد، وهدف تشريع النبوة، وفلسفة الزعامة والإمامة، ومعيار كمال الفرد، ومقياس سلامة المجتمع.

والعدل القرآني عندما يتعلق بالتوحيد أو المعاد فإنه يعطي معنى خاصًّا لنظرة الإنسان إلى الوجود والعالم، وبعبارة أخرى نقول: إنه نوع من النظرة الكونية.

ولأهمية العدل في حياة الناس؛ فإن أهم هدف لبعث الأنبياء والرسل بعد تعريف الناس بالخالق جلَّ وعلا هو بسط العدل بينهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾ (27) ذلك لأن الاجتماع البشري لا يمكن أن يتأسس فيه روح النظام والقانون والمساواة إلا بتحقيق العدل والعدالة، ومن هنا جاء الأمر الإلهي بضرورة تطبيق العدل: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ﴾ (28) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (29) .

فالعدل هو جوهر الإسلام وروحه، وهو المحور الأساس لتطبيق أصول الدين وفروعه، وبتطبيقه تنعم البشرية بالسلام والاطمئنان والأمن والرفاهية والرخاء، أما عندما ينتفي العدل والعدالة من حياتنا، فإن نقيضه سيحل محله، وهو الظلم والجور، وهو أساس كل شر، وسبب كل شقاء، ومنبع الرذائل والفواحش، وجذر التخلف والتقهقر الحضاري ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ (30) .

في معنى العدل

أفضل تعريف لمعنى العدل هو: «وضع الأمور في مواضعها» الوارد عن أمير المؤمنين علي (رضى الله عنه) (31) ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها: العدالة بمعنى الاعتدال، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل ألوان التمييز، العدالة بمعنى رعاية الحقوق والاستحقاقات، وأخيراً العدالة بمعنى التزكية والتطهير.

وقال الراغب الأصفهاني: «عدل: العَدَالةُ والمُعَادلةُ لفظ يقتضي معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة، والعَدْلُ والعِدْل يتقاربان، لكن العَدْل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، وعلى ذلك قوله: ﴿أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً﴾ والعِدْلُ والعَدِيلُ فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعَدْلُ هو التقسيط على سواء» (32) .

فالعدل يعني العدالة، والعدالة تشمل الحكم والقضاء، وتشريع القوانين، والمساواة في مجال الحقوق، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ووضع كل شيء في موضعه المناسب له.

وقد عَبَّر القرآن الكريم عن العدل بثلاث كلمات هي: العدل، والقسط، والميزان، إلا أنه أحياناً تأتي كلمة القسط أو الميزان في القرآن الكريم بمعنى مغاير لكلمة العدل، ويُعرف ذلك من خلال سياق الآيات الكريمة وتفسيرها.

في معنى الظلم

نقيض العدل هو الظلم، ولذلك يمكن تعريفه بأنه: «وضع الأمور في غير مواضعها» وقد عَرَّفه الراغب الأصفهاني بقوله: «الظُّلْمُ عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه» (33) والظُّلْمُ يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز ولهذا يستعمل في الذنب الكبير وفي الذنب الصغير (34) .

والجدير بالانتباه هو استعمال القرآن الكريم كلمة (العدل) في المواضع المتعلقة بوظيفة العباد، وعدم استعماله هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى. وبالمقابل يلاحظ تعبير (نفي الظلم) عن الله بكثرة، وتعبير إقامة الله القسط ليس بقليلٍ أيضاً.

ذلك لأن الله سبحانه وتعالى عادل في كل شيء، والمطلوب من الناس أن يطبقوا العدل والعدالة في حياتهم، أما نفي الظلم عن الذات المقدسة فحتى لا يرتاب أحد من الناس أن الظلم الذي وقع عليه هو من الله، فالله عز وجل يريد العدل في كل شيء، والظلم لا يمكن أن يكون صادراً إلا من البشر.

والظلم -كما يرى بعض الحكماء- ثلاثة:

الأول: ظُلْمٌ بين الإنسان وبين الله تعالى وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال:﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (35) وإياه قصد بقوله: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (36) ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ (37) في آي كثيرة وقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى الله﴾ (38) ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً﴾ (39) .

والثاني: ظُلْمٌ بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ (40) إلى قوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (41) وبقوله: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ﴾ (42) وبقوله: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً﴾ (43) .

والثالث: ظُلْمٌ بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ (44) وقوله: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ (45) ﴿إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ (46) ﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (47) أي من الظالمين أنفسهم، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (48) .

وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهم بالظُّلْمِ فقد ظلم نفسه، فإن الظالم أبداً مبتدئ في الظلم ولهذا قال تعالى في غير موضع (49) : ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (50) ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (51) .

ولقبح الظلم والجور والاعتداء على الآخرين فإن القرآن الكريم يحدثنا عن هلاك وتدمير مجتمعات بكاملها نتيجة للظلم السائد بينهم، يقول تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾ (52) ، وقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ﴾ (53) .

وما ساد الظلم في مجتمع إلا وحلَّ معه الفساد والجور والاضطراب وانعدام الأمن والسلام، وما حلَّ العدل في مجتمع إلا وحلَّ معه الصلاح والخير والأمن والسلام والاطمئنان ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (54) .

مفهوم العدالة الاجتماعية.. رؤية قرآنية

توجد تعاريف عديدة لمفهوم العدالة الإجتماعية، وتختلف هذه التعاريف باختلاف أصحابها، فعلماء الأخلاق ينظرون إليها بوصفها خصلة أخلاقية تحفِّز على احترام حقوق الآخرين، وعلماء القانون يعرفون العدالة بسيادة القانون، وعلماء الفقه ينظرون للعدالة بوصفها شرطاً لصحة مجموعة من الأعمال كاشتراطها في إمام الجماعة، وللشهادة في عدة مواضع، وفي القاضي، وفي الفقيه المقلَّد.. وغيرها. وعلماء الاجتماع يركزون على أنه لا استقرار اجتماعي دون سيادة العدالة، وعلماء الفلسفة يرون أن فلسفة الوجود قائم على العدالة... وهكذا يربط علماء كل حقل من حقول المعرفة الإنسانية العدالة بمجالهم الخاص بهم. والصحيح أن العدالة تشمل كل ذلك وأكثر؛ فالعدالة هي محور كل شيء في حياتنا، وأصل للأصول الأخرى.

ويمكننا أن نعرف مفهوم العدالة الإجتماعية ـ بحسب الرؤية القرآنية ـ بأنها: رعاية الحقوق العامة للمجتمع والأفراد، وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع ما يستحقه من حقوق واستحقاقات، والتوزيع العادل للثروات بين الناس، والمساواة في الفرص، وتوفير الحاجات الرئيسة بشكل عادل، واحترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية.

والعدل وفق الرؤية القرآنية ملاك وميزان الخالق في تدبير أمر خلقه ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ﴾ (55) كما أن الحكم بالعدل والقسط في جميع مجالات حياة الإنسان أحد الأهداف الأساسية لبعث الأنبياء (عليهم السلام)، والغاية النهائية لجميع الأديان الإلهية ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (56) ، كذلك فتحقق العدل أحد وظائف الأنبياء ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ﴾ (57) ، بل إن أوامر الله تعالى قائمة بالعدل والإحسان ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاء وَالمُنكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (58) ، والقرآن حينما يأمر جميع الناس بالعدل يشدد على المؤمنين ذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ (59) ، كما أجاز القرآن القتال من أجل رفع الظلم وإبادة الظالمين ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (60) ، بل إن إقامة العدل واجبة حتى لو أدت إلى المواجهة مع العدو ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ (61) ، فالعدل أساس الثواب والعقاب يوم القيامة» ﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ (62) .

وقد ركَّز القرآن الكريم كثيراً على أهمية تطبيق العدالة في المجتمع، وبالرغم من أن القرآن الكريم قد أشار إلى مختلف أنواع العدالة فيما يقرب من ثلاثين مرة في القرآن الكريم؛ إلا أن العدالة الإجتماعية قد حظيت بأكثر من نصف الآيات التي أشارت إلى العدل، فالقرآن المجيد احتوى على ستة عشرة آية تختص بالعدالة الإجتماعية.

ذلك لأنه لا يمكن تحقيق العدالة في عديد من أنواعها دون وجود العدالة الإجتماعية، فهي التي توجد الأجواء المناسبة والأرضية الصالحة لتطبيق مبدأ العدل والعدالة في الأبعاد الأخرى، فالعدالة الإجتماعية تعتبر من أهم مكونات ومرتكزات العدل في الإسلام الحنيف.

أركان العدالة الإجتماعية

للعدالة الإجتماعية أركان وأسس وقواعد لا تقوم إلا بها، وهي مقياس لمعرفة إن كانت العدالة الإجتماعية مطبقة في مجتمع ما أم أن السائد فيه هو الظلم والجور والحرمان.

وأهم أركان العدالة الإجتماعية هي:

أولاً: المساواة بين الناس

خلق الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً من تراب، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ (63) ولذلك لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح.

ويكرر القرآن الكريم في مواضع عدة أن الجنس البشري كله خُلِق من تراب، ومن نفس واحدة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾ (64) . فالناس سواسية في أصل الخلقة والنشأة والمنبع، وقد أكد على ذلك رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «الناس سواسية كأسنان المشط».

فالإسلام يرفض التمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الانتماء المذهبي أو أي لون من ألوان التمييز بين الناس الذين خلقهم الله عز وجل جميعاً من نفس واحدة، ومن التراب.

والمساواة بين الناس -والتي تعدّ من أهم مكونات وأسس بناء العدالة الاجتماعية- تعني المساواة أمام الشرع والقانون، والمساواة في الفرص، والمساواة في تقلد المناصب العامة، والمساواة في الحصول على المكاسب والامتيازات، والمساواة في الحقوق والواجبات.

فما تعانيه المجتمعات في عالم اليوم من مشاكل مزمنة يعود -في جزء منها- إلى انتشار المحسوبيات في الحياة العامة، وانعدام تكافؤ الفرص بين الناس، والتمييز على أسس مختلفة، مما يؤدي إلى تأخر المجتمع، وغياب العدالة الإجتماعية.

فالمساواة تعني -فيما تعنيه- رفض التمييز على أسس عنصرية أو عرقية أو مذهبية أو ما أشبه ذلك، فالتنوع العرقي واللغوي والقبلي والقومي كلها تدخل ضمن وحدة الأصل الإنساني الذي نصَّ عليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (65) فالفخر والتفاضل إنما يكون بالتقوى، وليس بالنسب أو العرق أو القبيلة أو غير ذلك من أشكال الفروق الطبيعية بين البشر.

ولابد من التأكيد هنا على أن المساواة المطلوبة بين الناس -كل الناس- هو رفض التمييز والترجيح بينهم على أسس عنصرية. ومن جهة أخرى يجب مراعاة المساواة مع تساوي الاستحقاق، وإلا فإن مساواة العاجز بالنشيط في العمل، والمبدع بالبليد، والمفكر بالفلاح... ليس من العدالة في شيء؛ بل هو عين الظلم.

وقد أشار القرآن الكريم إلى رفض مثل هذه المساواة غير القائمة على أي منطق، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (66) فلا يمكن المساواة بين رجل أبكم وغير قادر على فعل شيء ولا يأت بأي خير، ورجل ناطق ويأمر بالعدل!

ويضرب لنا القرآن الكريم مثلاً آخر في عدم المساواة بين من يعمل الصالحات ومن يُفسد في الأرض، ولا بين من يتقي الله عز وجل ومن يفجر ويرتكب المحرمات، قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ﴾ (67) .

فالكثير من المجتمعات كانت ولا زالت تعاني من أشكال مختلفة من التمييز بين الناس على أسس عنصرية، وهذا هو عين الظلم الذي حاربه الإسلام، وشجبه القرآن الكريم، فعندما جاءت رسالة الإسلام رفض ما كان سائداً من التمييز بين الناس، وأعلن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الوداع: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: ليبلغ الشاهد الغائب».

كما ورد في حديث آخر بهذا المعنى ضمن الكلمات القصيرة ذات المعاني الغزيرة أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم».

فالتمييز بعناوينه المتعددة، وأشكاله المختلفة يمثل تحدياً كبيراً، وعائقاً قويًّا، أمام تطبيق العدالة الإجتماعية، وإن شعور بعض الناس بالغُبن والظلم يدفع بهم نحو ممارسة أفعال عنفية تهدد أمن المجتمع وسلامته واستقراره، وأنه لا حلَّ لذلك إلا بتطبيق مبدأ المساواة في كل الحقوق والواجبات، ولضمان هذا الركن الهام من أركان العدالة يجب وضع تشريعات قانونية، وقضاء مستقل وعادل للرجوع إليه عند انتهاك حقوق الناس من أي جهة كانت، وبذلك يتم حماية مبدأ المساواة من التعدي أو الانتهاك أو المس به.

ثانياً: التوزيع العادل للثروات

الركن الثاني والهام من أركان العدالة الإجتماعية هو التوزيع العادل للثروات بين الناس، ومن دون ذلك تنعدم العدالة الإجتماعية، وتختفي العدالة الإقتصادية من المجتمع، فلا عدالة إجتماعية من دون توزيع عادل للثروات على أفراد المجتمع، ومن دون إعطاء كل شخص ما يستحقه من مال تجاه ما يقوم به من أعمال منتجة، أو ما يستحقه بوصفه عضواً في المجتمع.

إن مشكلة المشاكل في عالمنا اليوم هو غياب أي توزيع عادل للثروات، وتركز الثروات عند فئة قليلة من الناس في حين تعيش الأغلبية في فقر مدقع، وبذلك يزداد الغني غنىً والفقير فقراً!!

ويشجع النظام الرأسمالي على تكوين الطبقات المتباعدة بين أفراد المجتمع، فنرى فئات من المجتمع تنام على مليارات الدولارات، في حين أنه توجد فئات أخرى -وهي الغالبة- تعيش إما بقدر الكفاية أو تحت خط الفقر.

ويحذر القرآن الكريم الذين يجمعون الأموال الطائلة، ولا ينفقون منها ما يجب عليهم فيها من واجبات مالية بعذاب أليم، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (68) كما ينهى القرآن الكريم عن أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ (69) وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (70) فالثراء إن لم يكن بطريق مشروع كالتجارة أو الصناعة أو العمل المنتج فهذا أكل لأموال الناس بالباطل، وهو ما يعبر عنه في عصرنا بـ(الثراء غير المشروع) أو الثراء غير القانوني الناتج عن غسيل الأموال، أو الاستيلاء على أموال الآخرين بالغصب والاستيلاء على ممتلكات الناس دون حق.

وفي مقابل تحذير القرآن الكريم من تراكم الثروات دون وجه شرعي، أو أكل أموال الناس بالباطل، يدعو الأغنياء والموسرين إلى دفع جزء من أموالهم للفقراء والمحتاجين والمساكين وذلك من خلال الزكاة والخراج والصدقات والكفارات والنذور وغيرها من وجوه الإنفاق الواجب أو المنذوب.

قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ﴾ (71) وقال تعالى: ﴿لَّيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلآئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ (72) ، وأمر القرآن المجيد بالإنفاق كي لا تتراكم الثروات بيد مجموعة قليلة من الأغنياء، قال تعالى: ﴿مَّا أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ (73) ، كما يحذر القرآن المبذرين للأموال، يقول تعالى: ﴿إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ (74) ، فالإنسان مسؤول عن اكتسابه للأموال، كما أنه مسؤول عن طريقة إنفاقه لها، وتزداد المسؤولية عندما يكون الإنسان مسؤولاً عن بيت مال المسلمين، لأن هذا المال هو حق لكل المسلمين، ويجب صرفه في الوجوه الشرعية، ووفق تعاليم الشرع والدين.

والتوزيع العادل للثروات يجب أن يرتكز على أمرين:

الاهتمام بالطبقات الإجتماعية الضعيفة

وهو الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم في عدة مواضع، وأن هؤلاء يستحقون الدعم والمساعدة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (75) كما أشار القرآن الكريم إلى أهمية الانتباه للفقراء المتعففين، يقول تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ (76) .

فالطبقات المحرومة والضعيفة وأصحاب الدخل المحدود بحاجة إلى دعم ومساعدة كي يستطيعوا أن يعيشوا بكرامة وعزة.

رعاية المساواة في الحقوق المتكافئة

ونقصد بذلك المساواة في توزيع الثروات مع تساوي الحقوق والاستحقاقات، فلا يفضل في الوظيفة نفسها وبالمؤهلات نفسها موظف على آخر، لأي سبب كان، كاللغة أو اللون أو المذهب أو العرق أو القبيلة أو ما أشبه ذلك من اعتبارات لا وزن لها في الدين.

ولكن مع إختلاف الإستحقاق والمؤهلات لا مانع من الاختلاف في العطاء (الراتب)، بل يجب عدم المساواة حينئذ؛ لأن إختلاف القابليات والقدرات العقلية، والمؤهلات العلمية والعملية، يستدعي إختلاف العطاء.

وما ورد من سيرة الإمام علي (رضى الله عنه) في المساواة في العطاء إنما هو في المال الذي يُعطى للفقراء من بيت مال المسلمين وليس مطلقاً، كما رفض الإمام التمييز في العطاء على أسس عنصرية أو قومية كالجنس والعرق واللغة والقبيلة وما أشبه ذلك، وبتعبير آخر: الضمان الاجتماعي للفقراء -في عهد الإمام علي- كان متساوياً، وهذا ما يجب أن يكون عليه الضمان الاجتماعي لكل الفقراء، فقد رُوي أن امرأتين جاءتا إلى الإمام علي (رضى الله عنه) فأعطاهما على حد سواء، فلما وَلّتا، سفرت إحداهما وقالت: يا أمير المؤمنين فضِّلني بما فضلك الله به وشرفك! قال: وبماذا فضلني الله وشرفني؟ قالت: برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: صدقتِ، وما أنتِ؟ قالت: أنا امرأة من العرب وهذه من الموالي. قال: فتناول شيئاً من الأرض، ثم قال: قد قرأتُ ما بين اللوحين فما رأيتُ لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً ولا جناح بعوضة.

أما للموظفين والعمال وغيرهم فالمساواة بين الجميع مع اختلاف القدرات والمؤهلات يعد من الظلم الذي يرفضه القرآن الكريم.

ونستكمل دور الإخوان في تحقيق العدالة الإجتماعية عبر مؤسساتهم من خلال الجزء الثاني من البحث


العدالة الاجتماعية عند الإخوان

بنت جماعة الإخوان المسلمين رؤيتها الإصلاحية للمجتمع على تحقيق العدالة الاجتماعية وكان هذا هدف رئيسي من تأسيس الجماعة وهو تحقيق مبادئ الإسلام وتطبيق شرعيته والقيام بأصول الإسلام ومن أهم أصوله هو المساواة وتطبيق العدالة الاجتماعية وقد عبرت أدبيات الإخوان ورؤاهم الفكرية عن رؤية الجماعة ووسائلها لتحقيق العدالة الاجتماعية.

وبالرغم من الاتهامات العديدة للإخوان المسلمون بتغييب العدالة الاجتماعية من رؤاهم الفكرية والسياسية إلا أن الواقع يكذب تلك الاتهامات الباطلة وهذا البحث يرصد من خلال منظور تاريخي مواقف الجماعة وقياداتها حول تطبيق العدالة الاجتماعية.

تمثل (نظرية العدالة الاجتماعية) الأساس الثاني للنظام الاقتصادي –كما يرى الإخوان- وترتكز عندهم على العقيدة والخلق إذ أن لها ثلاث قواعد هي: قاعدة التوحيد وشمول العدالة لكافة جوانب الحياة الإنسانية ، وقاعدة التكافل العام بين الأفراد والجماعات، وقاعدة مراعاة طاقات الفطرة الإنسانية. وأسس العدالة الاجتماعية عندهم ذات اتصال مباشر بالتربية إذ لا يمكن تحقيقها إلا بها وهى: الأساس الأول : التحرر الوجداني المطلق: أي أن تستند العدالة إلى شعور نفسي باستحقاق الفرد لها، وبحاجة الجماعة إليها، وطريق ذلك هو تربية الفرد تربية عقدية ونفسيه تؤدى إلى: تحرير الوجدان من عبادة أحد غير الله مقاومة الشعور بالخوف على الحياة والرزق والمكانة إعلاء القيم المعنوية على القيم المادية في نفسية الفرد تحرر وجدانه من الاستذلال لغرائز النفس العدالة الاجتماعية – في الواقع- ترتكز على هذا الأساس النفسي، العقدي الذي يبنى بطريق واحد وهو التربية الأساس الثاني: المساواة الإنسانية: بتربية الأفراد على مجموعة من القيم والمعتقدات: وحدة الجنس البشرى في المنشأ والمصير – تساوى الجميع في الحقوق والواجبات:أمام الله، والقانون في الدنيا وفى الآخرة، كرامة الجنس البشرى كله، ولا فضل إلا للعمل الصالح ويتكون هذا الأساس في النفس والعقل نتيجة للأساس الأول إذا تربى عليه الإنسان، ويؤدى تكوين الأساس الثاني- عن طريق التربية العقدية والمعرفية- إلى شعور الفرد بحقه في المساواة فيجاهد لطلبه. الأساس الثالث: التكافل الاجتماعي: بين الفرد وأسرته، وبين الفرد والجماعة، والعكس،ويتأتى ذلك عن طريق تربية اجتماعية الوجهه تنمية في نفوس الأفراد حتى (يشعروا) به ويعملوا لتنفيذه وتأسيساً على هذا فان أسس العدالة الاجتماعية لا يتأتى وجودها في نفوس وعقول الأفراد بدون التربية العقدية والنفسية والاجتماعية والمعرفية، أي أن التربية هي الوسيلة الأولى لتحقيق العدالة الاجتماعية إذ تؤدى في النهاية إلى تهذيب النفس، واستثارة الضمير البشرى من أجلها، وبذلك يقف الضمير حارساً للعدالة. جـ- والوسيلة الثانية لتحقيق العدالة في الواقع عندهم ، هى التشريع الذى يكفل تحقيقه بتنفيذ التشريعات الخاصة بالمال والعدالة الاجتماعية كجزء من سياسة الحكم المنوط بها ذلك، وبجانب ماتقدم في مطلب سياسة المال من مبادئ فإن الإخوان يؤكدون على المبادئ التالية التي تكمل تشريع العدالة الاجتماعية (في رؤيتهم)  مبدأ أن الفقراء من أولى السابقة في الإسلام- بالمال العام  إباحة الإسلام لولى الأمر حرية التصرف في المال العام لتحقيق التوازن في المجتمع  مبدأ (الرجل وحاجته) بجانب (الرجل وبلائه)  مبدأ الضريبة المتفاوتة حسب المقدرة والعجز  مبدأ عدم الحجز على الضروريات وفاء للضريبة، وعدم استيفائها بالقوة  مبدأ الضمان الاجتماعي العام لكل عاجز ولكل محتاج  مبدأ التكافل العام الذي يجعل كل أهل بلد مسئولين مسئولية جنائية مباشرة عمن يتلفه الجوع، يؤدون- طبقاً لها – (الدية) بوصفهم قتلة للذي أتلفه الجوع، وكذلك حق الجائع والعطشان أن يقاتل من فى يده الطعام والماء حين يخشى على نفسه التلف  مبدأ الإنظار عند العسره للمدين وتمثل هذه المبادئ جزءاَ من المضمون المعرفي الذي يتربى عليه الأفراد ،أيضاً. د- وبتحليل موقف الإخوان من العدالة الاجتماعية يتبين ما يأتي : أن الإخوان واجهوا قضية الصراع الطبقي ، بالدعوة إلى العدالة الاجتماعية واستندوا في ذلك إلى: النص الشرعي، وتجربة التاريخ الإسلامي الأول، واجتهادهم العقلي في ضوء ذلك. وأن للعدالة الاجتماعية أسساً عقدية وخلقية ونفسية يتم بناؤها في الإنسان عن طريق التربية التي تعتبر الوسيلة الأولى لتحقيقها، أما الوسيلة الثانية فهي وضع التشريعات الكفيلة بتحقيقها موضع التنفيذ، وتستند على عدة مبادئ عقدية واقتصادية، تمثل جزءاً من المحتوى المعرفي في التربية العقلية عندهم. وتمثل مبادئ سياسة المال ومبادئ العدالة الاجتماعية جزءاً من المعتقدات الأساسية في الذات السياسية عند عضو الإخوان، وهذه المعتقدات تؤثر في مشاعر وولاءات الفرد السياسية التي تتلخص في (الرغبة في تحقيق تلك المبادئ في الواقع- شعور العطف على المحتاجين...) وعلى هذا فهي توجه مشاركة الفرد سياسياً وتحدد غايتها.(1) الإصلاح في المجال الاجتماعي عند الإمام البنا لعل مجال الإصلاح الاجتماعي كان له النصيب الأوفر في اهتمام الإمام الشهيد.. وقد حدد بوضوح أن هدف الإخوان المسلمين أولاً هو الفرد المسلم في تفكيره وخلقه وعاطفته وعمله وسلوكه ذلك الفرد الذي يتذوق الجمال والقبح ويتصور الصواب والخطأ.. القوى الإرادة الصحيح الجسم ثم الأسرة كذلك ثم المجتمع كذلك.. وحدد أن النهضة في مجالها الاجتماعي تحتاج إلى أربعة عوامل الأول الإرادة والثاني الوفاء والثالث التضحية والرابع المعرفة بالمبدأ على هذه الأسس تقوم القوة الروحية التي تنشأ عليها المجتمعات وتتجدد فيها الحياة.. وعلى هذا النهج كانت خطوات الإصلاح الاجتماعي للإخوان المسلمين فكان الاعتناء بالقوة الروحية والأخلاقية للمجتمع فهذا هو نهج الإسلام العظيم، وهذا هو التاريخ في عظاته.

(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) نفوسًا قوية وقلوبًا خفاقةً ومشاعر غيورة وأرواح طموحة تستند إلى مثل عليا وأهداف سامية.

نقرأ له هذه الكلمات العبقرية فنفهم فهمًا كاملاً محيطًا معنى الإصلاح الاجتماعي في فكره ووعيه "قبل أن نتحدث إلى الناس في هذه الدعوة عن الصلاة والصيام الحكم والعبادات والنظم والمعاملات نتحدث إليهم أولاً عن القلبِ الحي والروح الحية والنفس الشاعرة والوجدان اليقظ والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة- الاعتزاز باعتناقها- الأمل في تأييد الله إياها) مذكرًا بقول الله عز وجل: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ (النمل). وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة وقوله سبحانه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم). وهذا الجانب في البعث والإحياء عند الإمام كان عظيمًا وكان يعول عليه كثيرًا في قيام النهضة فالدوافع النفسية والإلهامات الروحية هي في حقيقه الأمر حياة المجتمعات ويتوقف عليها تقدمها وتخلفها وكان يسميه (الروح الدافعة والقوة الباطنة) تلك التي تتحقق بها اليقظة الحقيقية في النفوس والمشاعر والأرواح مستلهمًا قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد). والإمام الشهيد هنا يتحدث على خلفية فهم عميق لسنن التاريخ في قيام الحضارات وانهيارها، مؤكدًا أنَّ الإخوان المسلمين يتحرون بدعوتهم الإصلاحية نهج الدعوة الأولى محاولين أن تكون دعوتهم صدى حقيقيًّا لها. كما كانت فكرة (مؤسسات الخدمة العامة) حاضرة بقوة في بُعد الإصلاح الاجتماعي عند الإمام الشهيد من بناء للمساجد وفتح المدارس والإشراف عليها وإنشاء الأندية وتوجيهها والإصلاح بين الناس و(التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين) وبناء المستشفيات والمستوصفات الطبية.. كانت الفكرة تقوم على التنظيم الجيد والجهود التطوعية مع الاستعانة بالخبرات والكفاءات.. وكانت (الشعبة) أشبه ما تكون بنموذج (المدينة الفاضلة) فيها المسجد والملعب والمكتبة وقاعة المحاضرات والتدريب وركن للترفيه والمسامرة يلتقى فيها أبناء الحي أو القرية أو النجع يتعارفون ويتدارسون ويصلون ويتحابون ثم ما تلبث كل هذه الهمم والطاقات أن تنتشر في المجتمع كله باعثة فيه (الروح الجديدة) الذي بشر بها الأمة.(2) العدالة الاجتماعية في كتابات الإمام البنا كان الإمام البنا وهو المدرس البسيط وقد عاش شظف العيش سواء في طفولته أو في شبابه وعاشر الفئات المطحونة وتلمس مشاكلها وعايشها فكان من أوائل من نادى بضرورة تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية لذا نجد العديد من رسائله ومقالاته التي تطرق فيها سواء إلى الاقتصاد الإسلامي أو المشاكل المجتمعية يطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية فيقول: لقد اختفت المثل العليا تمام الاختفاء، وغابت عن الأنظار والقلوب تلك الأهداف الجميلة التي نادى بها هؤلاء الناس ساعة العسرة، وجندوا باسمها قوى الأمم ضد الظلم والطغيان، فالعدالة الاجتماعية، والحريات الأربع، ومبادئ ميثاق الأمم.. إلخ هذه القائمة الطويلة العريضة من المبادئ السامية والأهداف المغرية أصبحت في خبر كان، ولم تعد لهؤلاء الساسة والزعماء "فلسفة راقية" يقودون بتوجيهها العالم إلا فلسفة المصالح المادية والمطامع الاستعمارية ومناطق النفوذ والاستيلاء على المواد الخام! وكل ذلك على صورة من الجشع والنهم لم تر الدنيا لها مثيلا ولا بعد الحرب العالمية الأولى. وأصبحت هذه المعاني وحدها محور التنافس بيت الدول المنتصرة (روسيا من جانب وأمريكا وإنجلترا من جانب آخر) وإن حاولت كل منها أن تستر جشعها ومناورتها بستار من دعوى المبادئ الاجتماعية الصالحة والنظم الإنسانية الفاضلة، باسم الشيوعية أو الديمقراطية، وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامع الاستعمارية والمصالح المادية في كل مكان. (3) كما يبين الإمام البنا في مؤتمر رؤساء المناطق والشعب عام 1945 أهم ملامح النظام الاقتصادي الإسلامي المبنى على المساواة والعدالة وتحقيقها لكافة أبناء الأمة فيقول الإمام البنا: لم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد، ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات، فانتقص من مال الغنى بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد، وزهّده في الترف والخيلاء، ورغّبه في الصدقة والإحسان، وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء، وقرر للفقير حقًّا معلومًا، وجعله في كفالة الدولة أولاً، وفى كفالة الأقارب ثانيًا، وفى كفالة المجتمع بعد ذلك. ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريرًا عجيبًا في دقته وشموله وآثاره ونتائجه، وأقام الضمير الإنساني مهيمنًا عليها من وراء هذه الصور الظاهرية. كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين، وقد فصلت الحياة التقليدية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصار بين الاقتصاد والإسلام، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها، والعمل على رفع مستوى المعيشة، والتقريب بين الطبقات، وتوفير العدالة الاجتماعية، والتأمين الكامل للمواطنين جميعًا، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله.(4 ) كما كان للإمام البنا موقف واضح من قضايا الإقطاع والفلاحين والتي كانت منتشرة بصورة كبيرة في العهد الملكي وقبل قيام ثورة 1952 فخطب موضحاً حال الفلاحين ومدى الظلم الواقع عليهم فيقول البنا تحت عنوان (الإخوان والإقطاع): الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان، فإذا لاحظنا إلى جانب هذا أن الأرض المصرية تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد ولهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي أضعاف غيرها من الأراضي التي تقل عنها جودة وخصوبة وأن عدد السكان يتكاثر تكاثراً مريعاً وان التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد الأربعة ملايين لا يملكون شيئاً ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ومعظم الباقي لا يزيد ملكه على خمسة أفدنة علمت مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة انحطاط مستوى المعيشة بينهم درجة ترعب وتخيف. ويضيف الإمام البنا : إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشاً في الشهر إلا بشق الأنفس فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل في الأسر المصرية عامة كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين وهو أقل بكثير ما يعيش به الحمار بل إن الحمار يتكلف على صاحبه (140 قرشاً خمس فدان برسيم و30 قرشاً حمل ونصف تبن و150 قرشاً أردب فول و20 قرشاً أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشاً) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان.(5) كما يتعجب الإمام البنا في أحد مقالاته عن مأساة الإقطاع ورؤوس الأموال الضخمة التي يتملكها مجموعة بسيطة من رجال الأعمال والإقطاعيين فكتب البنا متسائلاً تحت عنوان( كيف تملكوا هذه الأراضي؟): وهل في مصر مفخرة سوى الألقاب والرتب وذي إرث يكاثرنا بمال غير مكتسب بهذين البيتين يصف شاعر النيل إبراهيم حافظ هؤلاء السادة الذين وصلت أيديهم هذه الآلاف المؤلفة من الأراضي بدون جهد أو عناء ونالوا هذه الألقاب الضخمة لا لشيء إلا لأنهم ولدوا أبناء لمن تولوا فى يوم من الأيام أمرا من الأمور. أما كيف آلت إليهم هذه الثروات ووصلت إلى أيديهم تلك الأراضي فقد تم ذلك بعدة طرق وإلى القارئ لمحة عن ذلك: الإقطاع 1- أراضى الرزقة: وهذه الأراضي كان يقطعها السلطان إلى بعض الأتراك أو لكبار المصريين لا لشيء... إلا لأنه يريد هكذا. 2- أراضى الأبعاديات: وكان يقطعها محمد على إلى " الذوات" من الأراضي غير المزروعة حتى يمكن استصلاحها وكان ذلك بنظام السخرة الذي استغل فيه الفلاحون. 3- أراضى الأوسية( الوسية) وكان يمنحها السلطان إلى جامعي الضرائب وكانوا يدفعون إليه مبلغا معينا نظير قيامهم بتحصيل ما يشاءون من الضرائب, من الفلاحين وبالطريقة التي يرونها وكان الفلاحون يستخدمون في ذلك بدون أجر وكانت هذه الأراضي معفاة الضرائب. 4- مسموح المصطبة! ومسموح المشايخ: وكانت تعطى لمشايخ البلد أو الرؤساء. 5- الجفالك: وتطلق على مقادير كبيرة من الأراضي وكانت تعطى للأسرة الخديوية وفى عهد عباس باشا أعطيت كذلك لكبار ( الذوات) وهكذا تملكوا هذه الآلاف المؤلفة من الأفدنة على حساب الفلاح المسكين.(6) كما يقول الإمام البنا في حوار صحفي لجريدة روزا اليوسف فى اجابه له عن سؤال هل تستطيع الشيوعية أن تجد لها مكانا في البلاد الإسلامية؟ قال: في الإسلام ما يغنى الشعوب الإسلامية عن كل ما سواه من المبادئ.. وخصوصا وهو قد اهتم بالتقريب بين الطبقات، ورعاية المساواة والعدالة الاجتماعية وإشراب ذلك بروح العطف والتكافل.. ولو طبقت مبادئ الإسلام تطبيقا صحيحا، لما وجدت المبادئ الشيوعية أو غيرها أى مجال!(7) كما يقول الإمام البنا في حوار له مع مندوب جريدة (الإجبشن ميل) وحين تعرض الأستاذ البنا لمبادئ "هيئة الإخوان" قال: إنها ليست دعوة سياسية صرفة، ولكنها دعوة شاملة تنادى بمبادئ إصلاحية إنسانية عامة مستمدة من الإسلام الحنيف. وهذه المبادئ ستلزم بطبيعتها مقاومة الاستعمار أينما كان، والعمل على إقامة حكم صالح تتحقق به العدالة الاجتماعية بين الطبقات في مصر وغير مصر من الأقطار. ومن هنا شملت دعوة الإخوان الأغراض الوطنية أو السياسية كذلك، والمقصود في النهاية هو توفير الطمأنينة والخير والسلام للعالم كله. كما كتب الإمام البنا مقال له بعنوان (ليلة السلام ): ويوم اتخذنا السلام شعارًا لم نقف عند حدوده النظرية أو مدلولاته اللفظية، ولكن السلام الذي أراده الله لعباده في ظل الإسلام يقوم على دعامتين: على النظام الاجتماعي الكامل في القرآن الكريم الذي أنزله الله في ليلة السلام، فجاء يعلن الأخوة العالمية، ويرفع من مستوى النفس الإنسانية، ويكشف للبصائر عن حقائق الربانية، ويقيم دعائم العدالة الاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، وبين الضعيف والقوى، والفقير والغنى، والرجل والمرأة، ويشيع في المجتمع معنى التكافل الحق الذي يشيع في كل نواحيه معاني الحب والسعادة والطمأنينة والسلام، ومن قرأ القرآن وأنعم النظر في توجيهاته وشرائعه وأحكامه عرف صدق ذلك ومواضعه من هذا الكتاب الكريم الذي لم يدع خيرًا إلا أمر الناس به، ولم يدع شرًا يؤذيهم إلا نهاهم عنه ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ]النحل: 88 [.(8) كما كتب الإمام البنا في موضع آخر للرد على اتهام الثورات الإسلامية بفقدانها لتطبيق العدالة مقارنة بالثورتين الفرنسية والروسية (فيقول تحت عنوان ثورة) فيا أيها المنصفون، لا تظلموا الحقائق بجهلها أو بتجاهلها، واذكروا دائمًا أنه إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في الناس؛ فإن الثورة الإسلامية الكبرى قد أقرت ذلك كله من قبل ألف وسبعمائة سنة، ولكنها سبقت سبقًا لن تلحق فيه في أنها جملت ذلك وزينته بالصدق والعمل؛ فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ في الحياة اليومية العملية، وأضافت إليه بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الروحية والنفسانية؛ لينعم في الحياتين، ويظفر بالسعادتين، وأقامت على ذلك كله حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون. فهل بعد ذلك من زيادة لمستزيد؟ اللهم لا.(9) كما كتب الإمام البنا تحت عنوان أمانة الله والرسول ليؤكد على أهمية البعد الإنساني والاجتماعي في المنهج الإسلامي فيقول: وكل ما تحتاج إليه هذه البشرية من مثل عليا ومبادئ سامية، وخطط عملية دقيقة، وأوضاع حيوية سليمة.. كل ذلك قد تضمنته هذه الرسالة الإسلامية (أمانة الله ورسوله والمؤمنين)؛ فالربانية والأخوة العالمية والعدالة الاجتماعية والمشاعر الروحانية والعواطف الإنسانية، والرحمة والسلام والتعاطف والوئام.. كلها قد وضحت في هذه الشريعة، واستحالت بعد وضوحها إلى أعمال يومية، وخطط تطبيقية، وشرائع عملية تسوق المجتمع سوقًا إلى ما فيه خيره وسعادته في الدنيا والآخرة، وصدق رسول الله  إذ يقول: "والله ما تركت من خير إلا وأمرتكم به، وما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه".(10) كما كتب الإمام البنا ليوضح أن أهم أهداف التخلص من الاحتلال والهيمنة الغربية هو تحقيق العدالة الاجتماعية وأن الظلم الاجتماعي أحد أهم أسباب الثورات فكتب تحت عنوان مَطلع الفجرْ: ولنا مع قضايانا هذه السابقة, قضية أخرى لا تقل عنها خطرًا ولا تنقص أهمية, وهى قضية أوطاننا وديارنا, التي باغتها الاستعمار الغربي بعد أن بيت لها أجيالاً طويلة. فأحاط بها, وقيد حكوماتها وشعوبها وحال بينها وبين التقدم, وبلغ ذلك مداه في نهاية الحرب العالمية الأولى, إذ كانت مصر تحت الحماية البريطانية, وفلسطين والعراق في قبضة إنجلترا، وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش في يد فرنسا, وطرابلس وبرقة مع إيطاليا, حتى تركيا الأوروبية والآسيوية وهى دار الخلافة وقعت تحت نير احتلال الحلفاء، وأدى ذلك الاسترقاق والاستهتار بكرامات الأمم وحريات الشعوب إلى انفجار الثورات في كل مكان, واشتد النضال بين أصحاب الحق وغاصبيه حتى تحررت هذه الأوطان بعض الشيء، وتيقظت وعرفت طريقها إلى الجهاد والكفاح. وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهذه البلاد كلها تجاهد في صف الدول الديمقراطية إذ أقسم زعماؤها وأكد رؤساؤها أنهم إنما يكافحون في سبيل الحرية وإقرار العدالة الاجتماعية فى أرض الله وكان طبيعيًا وقد وضعت الحرب أوزارها أن يطالب المظلومون بحقهم، وأن يجاهدوا في سبيل تحرير أوطانهم.(11) كما قررت جمعية الإخوان العمومية في اجتماعها السنوي العاشر عام 1946 بعض القرارات الخاصة بالجماعة وأعضاءها لتفعيل التحرك بخصوص السعي لتطبيق العدالة الاجتماعية وإنهاء حالة الوضع الاجتماعي الفاسد من أهمها: -يعلن المجتمعون أن الإخوان المسلمين ليسوا حزبًا غايته الوصول إلى الحكم، ولكنهم هيئة تعمل لتحقيق رسالة إصلاحية شاملة ترتكز على تعاليم الإسلام الحنيف، تتناول كل نواحي الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي، وتسلك إلى كل ناحية سبيلها القانونية شكلاً وموضوعًا. -يقرر المجتمعون أن الوضع الاجتماعي في مصر أمام التطورات العالمية والضرورات الاقتصادية وضع فاسد لا يحتمل ولا يطاق، وأن على المركز العام للإخوان المسلمين أن يعلن برنامجه المفصل لإصلاح هذا الوضع، ولرفع مستوى الشعب أدبيًّا بالتربية والثقافة، وروحيًّا بالتدين والفضيلة، وماديًّا برفع مستوى المعيشة وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تفرضها الاشتراكية الإسلامية، والتي يحيا في ظلها العامل والفلاح والزارع والتاجر وكل مواطن حياة مريحة كريمة، ويعمل على تنفيذه في حزم وإسراع.(12) ويشير المستشار طارق البشرى في مقال له بعنوان (قراءة في كتابات الأستاذ حسن البنا مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة) إلى أسس النظام الاقتصادي في فكر الإمام البنا والذي يوضح دعوة الإمام البنا فيقول البشرى: - إن أي نظام اقتصادي يستمد من الإسلام، يعتمد على جملة من المبادئ والأسس، منها: اعتبار المال الصالح هو قوام الحياة، بما يتعين معه الحرص على هذا المال، وحسن تدبيره .وتثميره، وقد أشاد الإسلام بغنى الجماعة واستخدام المال فيما ينفع الناس ويرضي الله، فليس الزهد في الإسلام بما يعني تحبيب الناس في الفاقة والفقر، وذم الدنيا، وذم الغنى والثروة، إنما يراد به ذم ما يدعو إلى الطغيان والفتنة والإسراف، وما يدعم الاستعلاء والاستكبار، وما يعين على الإثم والمعصية والفجور والكفران بنعمة الله، والإسلام يلفت النظر إلى ما في الوجود من منابع الثروة ووجوه الخير، ويحث على العناية بها ووجوه استثمارها، لأن كل ما في الكون مسخَّر للإنسان يستفيد منه، وينتفع به. ومن هذه المبادئ والأسس: إيجاب العمل والكسب على كل قادر عليه، فالعمل من أفضل العبادات، وهو من سنن الأنبياء، كانوا يأكلون من عمل أيديهم، وأفضل الكسب ما كان من عمل اليد، والإسلام يزرى بالبطالة وبمن هم عالة على المجتمع لا يعملون، ولوكانوا ينقطعون انقطاعا لعبادة الله. والتوكل على الله لا يكون بالتبطل، إنما يكون بالأخذ بالأسباب والنتائج، فمن فقد أحدهما فليس بمتوكل، لأن الرزق والمقدور مقرون بالسعي الدائب. ومن هذه المبادئ والأسس: تحريم موارد الكسب الخبيثة، وتحديد الخبيث من الكسب بأنه ما كان بغير مقابل من عمل كالربا، وما كان بغير حق كالسرقة واختلاس مال الغير، فردا كان هذا الغير أو جماعة أو مالا عاما هو من حقوق الجماعة، أو كان هذا الكسب عوضا عن مال يضر، سواء كان عوضا عن محرمات كخمر وخنزير ومخدر، أو كان عوضا عن صفقات مالية أو تجارية من شأنها الإضرار بحقوق الجماعة وأوضاعها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ومن هذه المبادئ والأسس: تقريب الفوارق بين الطبقات، والحث على رفع مستوى المعيشة بين الفقراء، وتقرير حقهم في مال الدولة ومال الأغنياء، ووصف الطريق العملي لذلك. ومن ذلك تقرير الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين راحته ومعيشته كائنا من كان، ما دام مؤديا لواجبه، أو أن يكون عاجزا عن أداء هذا الواجب بسبب قهري لا يستطيع التغلب عليه. ومن ذلك ما يحض عليه الإسلام من تحريم الكنز ومظاهر الترف على الأغنياء، وما يحث عليه من الإنفاق في وجوه البر، وذم البخل والرياء والمن والأذى، وتقرير التعاون والقرض الحسن ابتغاء مرضاة الله تبارك وتعالى، والدولة في ذلك مسئولة عن إنشاء نظام يقوم بهذه الأسس وحمايتها، وهي مسئولة عن حسن التصرف في المال العام، تأخذه بحقه وتصرفه بحقه، وتعدل في جبايته.(13) العدالة الاجتماعية عند سيد قطب يمثل الشهيد سيد قطب أحد رموز الفكر الإسلامي ورموز جماعة الإخوان المسلمين ويعد كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام أحد أهم الكتب التي تناولت هذا الموضوع ويعد كمرجع أساسي في تأصيل مفهوم العدالة الاجتماعية والية تطبيقها في الإسلام وكان قطب بطرحه لرؤيته حول العدالة الاجتماعية في الإسلام مواجهة الأفكار الاشتراكية التي انتشرت خلال ستينات القرن الماضي وخاصة في ظل سيطرة الفكر الاشتراكي على رؤوس قيادات ثورة يوليو، وتكمن أهمية طرح الشهيد سيد قطب لمفهوم العدالة الاجتماعية في توقيت طرحه لهذا المفهوم الذي كان بمثابة بناء فكر اقتصادي إسلامي جديد مبنى على تحقيق المساواة والعدالة. طبيعة العدالة الاجتماعية عند قطب: يقول سيد قطب: أما عن طبيعة العدالة الاجتماعية في الإسلام، فلا يمكن إدراكها إلا ضمن التصور العام للإسلام حول الكون والألوهية والحياة والإنسان، وباعتبار أن الإسلام يمثل تصورا شاملا ومتكاملا يعالج مختلف مجالات الحياة. وهذا التصور الأصيل لا نجده عند "فلاسفة الإسلام" (ابن سينا، الفارابي، ابن رشد...) الذين قلدوا الفلسفة اليونانية ولم يتجاوزوها، إنما الأصل هو القرآن والحديث والسيرة: حيث تتجلى الصورة كاملة متناسقة.. الكون كله قائم بالقسط، والعدل بين مطالب الجسد ومطالب الروح، الفرد والجماعة، الدنيا والآخرة.... الفرد والجماعة والطائفة والأمة والجيل والأجيال كلها يحكمها قانون واحد ذو هدف واحد: أن ينطلق نشاط الفرد ونشاط الجماعة –غير متعارضين- لبناء الحياة وإنمائها، والتوجه بها إلى خالق الحياة.(14) ويضيف قطب: أي ليس للفرد طقوسه وللجماعة طقوسها، وليس للدنيا دين وللآخرة دين، وليست العبادة وحدها والشريعة وحدها، بل الإسلام وحدة متكاملة لا تقبل الفصل بين العبادة والمعاملة، أو بين العقيدة والشريعة أو بين الدنيا والآخرة....وعن هذه الوحدة الكبرى تصدر التشريعات الاجتماعية والاقتصادية. لهذا يرى سيد قطب أن العدالة في الإسلام هي "عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية".. وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة، لأن الحياة في الإسلام ليست علاقات مادية مقطوعة، وإنما هي "تراحم وتواد وتعاون وتكافل... بين المسلمين على وجه خاص، وبين جمع أفراد الإنسانية على وجه عام".

إذن فللعدالة الاجتماعية – وفق سيد قطب – ركيزتان أساسيتان:

- 1 ركيزة الوحدة المطلقة المتناسقة بين مقومات الإسلام. - 2 ركيزة التكافل العام بين الأفراد والجماعات. فالوحدة الإسلامية ضد التجزيء والانتقاء، والتكافل ضد الظلم والطغيان، فلا يقبل الإسلام طغيان الفرد على الجماعة ولا يبرر ظلم الجماعة لفطرة الفرد وطاقت ومواهبه. لذلك أوجب حفظ كرامة الفرد ليستطيع أن يبدع ويستثمر كامل طاقته مقررا مبدأ تكافؤ الفرص والعدل بين الجميع، ولكنه ترك مجالا للمنافسة والتفاضل بالجهد والعمل. لهذا "لا يفرض الإسلام إذن المساواة الحرفية في المال، لأن تحصيل المال تابع لاستعدادات ليست متساوية، فالعدل المطلق يقتضي أن تتفاوت الأرزاق...مع تحقيق العدالة الإنسانية".(15) أسس العدالة الاجتماعية كما يراها سيد قطب:

حصر سيد قطب رحمه الله هذه الأسس في ثلاثة عناصر هي:

1- الحرية: التحرر الوجداني المطلق. 2- المساواة: المساواة الإنسانية الكاملة. 3- التكافل: التكافل الاجتماعي الوثيق. التحرر شعور نفسي باطن، قبل أن يكون تشريعا ملزما.... التحرر عقيدة تجمع بين الوجدان والواقع، بين التشريع والتنفيذ، وقد بدأ الإسلام بتحرير الوجدان البشري من عبادة غير الله، فلا عبادة لسواه، ولا حاكمية لغيره، حتى لا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فيشوه التحرر الوجداني بالضغط على الفرد وتخويفه وظلمه...

التحرر الوجداني من الجبن والخوف والشرك والطمع والكبر وعبادة المال والجاه والحسب والنسب –" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ويعرض علينا القرآن صورا كثيرة للتحرر الوجداني أو عدمه، كقارون مع فتنة المال والشراء حيث لم يتحرر.

أما المساواة فنابعة من الضمير ومصونة بالتشريع، انطلاقا من قاعدة: "وحدة الجنس البشري وفي المنشأ والمصير، في المحيا والممات، في الحقوق والواجبات: ص 85، أمام الله وأمام القانون. لهذا برئ الإسلام من العصبية الجاهلية والاستعباد والاستعلاء على الناس بالنسب والحسب والجنس، "كلكم من آدم، وآدم من تراب"... رجالا ونساء........... لكل الناس نفس الكرامة. أما التكافل الاجتماعي فلا يتأتى بالتحرر المطلق من كل التزام أو بالمساواة المطلقة التي لا شرط لها لأن هذا يحطم الفرد مثلما يحطم الجماعة. لذلك فالواجب اعتبار مصلحة الجماعة/المجتمع "القبعة الجماعية" عبر: التكافل: "بين الفرد وذاته، وبين الفرد وأسرته، وبين الفرد والجماعة وبين الأمة والأمم، وبين الجيل والأجيال المتعاقبة.(16) وسائل العدالة الاجتماعية كما حددها قطب حدد الشهيد قطب وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الوسيلة الأولى: سياسة الحكم لما كانت العدالة في الإسلام تقوم على ركيزتين:

1- التكليف القانوني داخل المجتمع

2- والضمير البشري داخل الفرد فهي عدالة شاملة، وتتطلب وسائل من نفس الطبيعة (شاملة)، أي: - وازع فردي: الرحمة، الصدقة، التسامح، العطف، الإيثار... (الضمير) - ووازع السلطة التشريعية: الأحكام القانونية والتنفيذ الحكومي... (الشريعة) وبهذين الوازعين حرَّم الإسلام الاحتكار والادخار والبخل والشح والربا وأكل أموال الناس بالباطل والرشوة والاكتناز. وبالتالي فلا عدالة شاملة إلا في إطار الحكم الإسلامي. وينتقد سيد قطب تلك المحاولة المنهزمة التي تبحث فقط عن التشابه بين الإسلام والنظم البشرية، لتجد سندا تقول من خلاله: حتى الإسلام قال كذا وجاء بكذا. والحقيقة أن الإسلام لا يقارن بنظام من تلك الأنظمة، فهو نظام مستقل متكامل... "إنه يقوم على أساس أن الحاكمية لله وحده. فهو الذي يشرع وحده. وسائر الأنظمة تقوم على أسس الحاكمية للإنسان، فهو الذي يشرع لنفسه" (17) وكما أن الإسلام ليس نظاما من الأنظمة البشرية فكذلك ليس هو خليطا منها "وليس مستمدا من مجموعها". وإن كان قد "يحدث في تطور النظم البشرية أن تلتقي بالإسلام تارة، وأن تفترق عنه تارة". إلا أنه يختلف عنها في الأصل والصميم. وبالتالي لا يجوز الحديث عن "اشتراكية الإسلام" و"ديمقراطية الإسلام"... يقوم نظام الإسلام -حسب سيد قطب- على فكرتين أساسيتين هما: 1- وحدة الإنسانية: في الجنس والطبيعة والنشأة، والمساواة المطلقة بين جميع بني الإسلام. 2- عالمية الإسلام: هو النظام العالمي العام "الذي لا يقبل الله من أحد نظاما غيره" ص78، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافة...لكن ذلك لا يعني إكراههم على الدخول في الإسلام بل هم أحرار، والحكم الإسلامي "يضمن للجميع المساواة المطلقة والتكافل التام" مسلمين وغير مسلمين.(18) وذلك لأنه ينطلق من قاعدتين أساسيتين هما:

أ‌- قاعدة الحاكمية: الحاكمية لله وحده في الخلق والمشيئة والمنهج والتشريع، وإلا وقع الناس في الشرك أو الكفر. "وبناء على هذه القاعدة لا يمكن أن يقوم البشر بوضع أنظمة الحكم وشرائعه وقوانينه من عند أنفسهم". ومنه على الحاكم والمحكوم استحضار الرقابة الإلهية في كل تصرف.
ب‌- قاعدة العدل: أي على الحكام أن يحكموا بعدل الإسلام {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وعلى أساس ذلك تجب طاعة المحكومين لهم، ولا طاعة في غياب الحكم بالعدل "لأن ولي الأمر في الإسلام لا يطاع لذاته، وإنما يطاع لإذعانه هو لسلطان الله واعترافه له بالحاكمية، ثم لقيامه على شريعة الله ورسوله...ثم تنفيذه لهذه الشريعة" وإلا لما استحق السمع والطاعة.

الوسيلة الثانية: سياسة المال تقوم سياسة المال في الإسلام على تحقيق العبودية لله وحده، وذلك بالخضوع لشرعه حتى تتحقق مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وذلك باعتماد وسيلتين اثنتين يقوم عليهما الإسلام "في تحقيق أهدافه جميعا" هما: - التشريع: أي التشريع المالي الذي يرمي إلى تحقيق المجتمع الصالح. - التوجيه: أي توجيه التداول المالي لتطوير الحياة البشرية إلى الأحسن.

لهذا يحفظ الإسلام المِلكية الفردية ويعاقب الاعتداء عليها بأشد العقوبات، لكنها ليست حرية مطلقة على حساب مصلحة الجماعة، بل هي حرية تصرف وانتفاع تصب في بناء المجتمع التكافلي التكاملي الذي يحارب الترف والحرمان في نفس الوقت (الزكاة، الصدقة...)، وتخضع لمقومات الشرع سواء في تملك المال أو صرفه (التوسط بلا إسراف ولا تقتير)، أو تنميته (تحريم الربا والاحتكار..). ويخلص سد قطب رحمه الله إلى أن سياسة المال في الإسلام تقوم على قاعدتين هما:
أ- قاعدة الاستخلاف: المال مال الله، والناس مستخلفون فيه بشرط حفظ شريعة الله فيه، وكل تجاوز للشرط نقض للاستخلاف.
ب- قاعدة التملك المشروط: للفرد حق التملك والاستثمار بشرط الخضوع للشرع وبشرط التكافل الجماعي.

الشهيد سيد قطب ومعركته مع الإقطاع كان للشهيد سيد قطب بعض الكتابات الأخرى التي تناولت قضايا متعلقة بتطبيق العدالة الاجتماعية وإنهاء الإقطاع وخاصة في ظل تؤخر مجلس قيادة الثورة في إنهاء الإقطاع فكان للشهيد قطب جولة لدعم الثورة لمحاربة وإنهاء الإقطاع فكتب مشيداً بقرار مجلس قيادة الثورة بإنهاء الإقطاع فكتب تحت عنوان (تصحيح للأوضاع(: أن ما تم صبيحة يوم الأحد الماضي كان تصحيحا للأوضاع. تصحيحا لا مفر منه. فقد كان عجيبا أن تقوم الثورة لإزالة عهد الإقطاع, ثم يبقى أمراء الإقطاع طلقاء يحاربون الثورة مطلقي اليد, وفى أيديهم المال والنفوذ المأجورون. وكان عجيبا أن تقوم الملوثون والمفسدون والمرتشون طلقاء, يشترون الصحافة ويبثون الفتن والدسائس, ويطلقون الإشاعات والأراجيف. وكان عجيبا أن تقوم الثورة لإصلاح أداة الحكم, ثم يبقى الرجال القدامى الذين فسد على أيديهم الحكم, يصرفون الأمور بعقلية الروتين, يفتحون أبوابهم وصدورهم لكل من يريد تعويق حركات الإصلاح.(19) كما نشرت مجلة الدعوة تحت عنوان (أموال تحديد الملكية) من أهم أغراض تحديد الملكية الزراعية تقريب مستويات المعيشة بين الطبقتين الكادحة والمترفة وذلك برفع مستوى الأولى وتخفيض مستوى الثانية بحيث يهبط الفارق المادي الذي هو عنوان التفاوت بين الطبقات وهذا يحقق عدة نتائج طيبة أبرزها. 1- تخفيف وطأة الحرمان الذي يدفع الطبقة الكادحة إلى التبرم والسخط وكراهية النظم القائمة . ب- انعدام الجرائم التي تدفع إليها المسغبة كالسرقة والزنا والاتجار بالمحرمات. جـ- صيانة فائض الدخل الذي يبدده الأغنياء لا في الكماليات فحسب بل فيما يقوض المجتمع ويتلف أفراده كالخمر والميسر والحفلات الماجنة والسهرات الخليعة. د- القضاء على طغيان رجال الإقطاع فماذا يكون الحد المناسب للملكية الذي يتحقق به تقريب مستويات المعيشة؟(20) كما نشرت أيضاً بعنوان (أين قانون تخفيض إيجارات المساكن.؟) في مطلع العهد الجديد أذيع بين الناس أن الوزارة ستصدر قانونا ستخفض به إيجارات المساكن, باعتبار هذه الإيجارات العبء الأكبر على مالية الموظف والتاجر ومتوسط الحال, وأنه لا معنى لبذل الجهود لتوفير 20 قرشا في الشهر في السكر, أو قرشين في البترول أو ملاليم, وعلى المستهلك عبئ عدة جنيهات تدفعها مرة واحدة. تقضم ماليته قصما يذهب بها ويربكها إلى آخر الشهر.. وقد سبقت إحدى الجرائد الحوادث فحددت النسب... ثم قيل بعد ذلك أن القانون سيدرس وحتى الآن لم يدرس القانون ولم نسمع عنه شيئا.. إننا لا نريد لهذا العهد الكريم الذي اتسم بالسرعة والجراءة والنشاط ألا يذكرنا بالعهد القديم البائد... نريد هذا القانون الذي لن تصلح الأمور إلا به فأصدره. (21) العدالة الاجتماعية عند د مصطفى السباعي يعتبر العالم السوري د مصطفى السباعي أحد رموز الفكر الإسلامي الحديث ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين بسوريا وكان كتابه اشتراكية الإسلام أحد الأسس الراسخة في تأسيس فكر الاقتصاد الإسلامي المبنى على تحقيق العدالة الاجتماعية، فقد دعا السِّباعي إلى التَّكافل الاجتماعي لسدِّ حاجات الفقراء واليتامى والمسنين والغارمين وأبناء السبيل، وكان يرى أن تنهض الدَّولة بكفالة هؤلاء، وإن لم تكفِ مواردها، فلها أن تصادر ما هو ضروري ولازم للحياة الكريمة، في المجتمع الإسلامي المتَّصف بالتَّكافل والعدل، وعلى الدَّولة أن تقضي على كل الأسباب التي تحول دون ذلك. كما كان له دور بارز في إنشاء لجان لجمع التَّبرعات والإعانات وتوزيعها على المحتاجين، وكوّن (اللَّجنة التَّعاونية) لجنة دائمة تسعى لتحقيق هذا الغرض. وتبنَّى د السباعي مفهوم الاشتراكية الإسلامية عندما كان عضواً في الجمعية التَّأسيسية، ثم كوّن (الجبهة الاشتراكية الإسلامية) في البرلمان، منطلقاً من أن الإصلاح والعدل الاجتماعيين يمثلان ركيزتين أساسيتين للفكر الإسلامي الذي يدعو إليه الإخوانُ المسلمون ويتبنونه. وكان له في البرلمان، وفي أثناء وضع الدُّستور السُّوري مناقشاتٌ فعالةٌ لقانون العمل، وكان تأثيره كبيراً في النَّص على حقوق العمَّال، وضمان مصالحهم، وتحسين ظروف عملهم،كما خاض معارك ضاريةً ضد الإقطاع والإقطاعيين الذين كانوا يمثِّلون نسبةً كبيرةً في البرلمان، واستطاع هو زملاؤه في الجبهة تحقيق مكاسب مهمةٍ للفلاحين، من حماية مصالحهم، ورفع مستواهم، وتوزيع أراضي الدَّولة عليهم، كلُّ ذلك لتحقيق استثمار أرض الوطن استثماراً صالحاً، ولإقامة علاقات اجتماعية سويَّة بين أفراد المجتمع. اشتراكية الإسلام كما يراها السباعي يعبر الشيخ مصطفى السباعي عن الدلالة العامة المشتركة لمصطلح الاشتراكية بقوله (لقد سميت القوانين والأحكام التي جاءت في الإسلام لتنظيم التملك وتحقيق التكافل الاجتماعي باشتراكية الإسلام). ثم يحدد خصائص اشتراكية الإسلام في النقاط التالية : إن اشتراكية الإسلام ليست اشتراكية الدراويش والزهاد، كبعض الصوفية وفقراء الهنود، الذين ينفرون من المال والتملك، جبنًا منهم عن تحمل أعباء الحياة ومسؤولياتها، وإنما هي اشتراكية حضارية إيجابية بناءة، تقيم أكمل مجتمع حضاري متمدن. وان اشتراكية الإسلام تحارب الفقر والجهل والمرض والخوف والمهانة. وان مستوى المعيشة في اشتراكية الإسلام مستوى مرتفع. وان اشتراكية الإسلام تشرك الشعب مع الدولة في تحقيق التكافل الاجتماعي، كما في نظام نفقات الأقارب. وان اشتراكية الإسلام تحارب الترف والبذخ واللهو الماجن في السلم والحرب. وان اشتراكية الإسلام تُخضع الحكومة لإرادة الشعب، لا العكس. وان اشتراكية الإسلام توسّع دائرة التكافل الاجتماعي، ومن ثم فهي أكثر ضمانًا لكرامة الإنسان وسعادته. وان اشتراكية الإسلام ليست نظرية ولا عاطفية، بل هي عملية. كما يحدد د السباعي الفرق بين اشتراكية الإسلام وبين الرأسمالية في أنهما يتفقان في إعطاء الفرد حق التملك، والتنافس في الإنتاج. ويختلفان في أن حق التملك في اشتراكية الإسلام يخضع لمصلحة الجماعة، وفي الرأسمالية تخضع الجماعة لمصلحة رأس المال. كما يختلفان في أن التنافس في الاشتراكية الإسلامية يشيع الحب والتعاون في المجتمع، وفي الرأسمالية يشيع العداء والخلاف والاضطراب. وان الرأسمالية ملطخة بدماء الشعوب، والاستعمار، والاستعباد، واللصوصية، والاستغلال. ولاشيء من هذا في اشتراكية الإسلام. أما موقفه من الدلالة الخاصة المتفردة للاشتراكية فيتمثل فى تحديده الفرق بين اشتراكية الإسلام وبين الشيوعية والتي حددها في النقاط التالية: إن اشتراكية الإسلام تنسجم مع الفطرة الإنسانية في إباحة الملكية الشخصية. وان اشتراكية الإسلام تبيح التنافس، أما الشيوعية فترى أنه يجرّ البلاء على المجتمع. وان اشتراكية الإسلام تقوم على التعاون، والشيوعية تقوم على الصراع وحرب الطبقات، مما يؤدي إلى الحقد. وان اشتراكية الإسلام تقوم على الأخلاق، بخلاف الماركسية. وان اشتراكية الإسلام تقوم على الشورى، والشيوعية تقوم على الاستبداد والدكتاتورية والإرهاب. ومن أقوال د السباعي (الجهل بالدين مرتع خصيب لضلالات الشياطين، والفقر في الدنيا مرتع خصيب لمؤامرات المتربصين، وفقدان العدالة الاجتماعية مرتع خصيب للثورات والبراكين، ومخالفة دين الله مرتع خصب للهلاك المبين.(" ويقول د السباعي: إن الذين ينكرون أن يكون الإسلام عدالة اجتماعية، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ، وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، وطبقها بإشرافه، وأقام على أساسها أول مجتمع ينشؤه، وأول دولة يبنيها؟(22) مظاهر العدالة الاجتماعية والإنسانية عند السباعي يعرض د السباعي بعض مظاهر البعد الإنساني في الحضارة الإسلامية ومن أهمها المساواة وهى أحد أسس العدالة الاجتماعية فيقول د السباعي: وأما النزعة الإنْسَانيَّة في تشريعنا الحضاري، فإنَّك لتلمس ذلك واضحًا في كل باب من أبواب التَّشريع: - في الصَّلاة: يقف الناسُ جميعًا بين يدي الله، لا يُخصَّص مكانٌ لملك أو عظيم أو عالم. - وفي الصَّوم: يجوع الناسُ جوعًا واحدًا، لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف. - وفي الحجِّ: يلبس النَّاس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويُؤدُّون منسكًا واحدًا، لا تَمييز بين قاصٍ ودانٍ، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة. فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني، وجدت الحقَّ هو الشِّرعة السائدة في العلاقة بين النَّاس، والعدل هو الغَرَض المقصود من التشريع، ودفع الظُّلم هو اللِّواء الذي يحمله القانون؛ ليَفِيء إليه مضطهدٌ ومظلومٌ. فإذا انتقلت من ذلك إلى القانون الجزائي، وجدت العُقُوبة واحدة لكل من يرتكبُها من الناس، فمَن قَتَل قُتل، ومن سَرَق عُوقِب، ومن اعتدى أُدِّب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالمًا أو جاهلاً، والمقتول أميرًا أو فلاحًا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدى عليه أعجميًّا أو عربيًّا، شرقيًّا أو غربيًّا؛ فالكلُّ سواءٌ في نظر القانون؛ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178]. ويسْمُو التَّشريع إلى أرفعَ من هذا، حين يُثبت الكرامة الإنْسَانية للنَّاس جميعًا، بقطع النَّظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم؛ فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70]، هذه الكرامة هي التي تضمن للنَّاس جميعًا حقهم في الحَيَاة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعًا، ومن واجب الدَّولة أن تكفلها لهم على قدم المُساواة بلا استثناء.(23) العدالة الاجتماعية عند الشيخ محمد الغزالي كتب الشيخ الغزالي أقدم وأحد أشهر ثلاثة كتب ظهرت بالعربية عن فلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي؛ أما كتاب الغزالي فهو (الإسلام والمناهج الاشتراكية)، وأما الكتابان الآخران فهما (العدالة الاجتماعية في الإسلام) لسيد قطب، و(اشتراكية الإسلام) لمصطفى السباعي. وقد جاءت الكتب الثلاثة إبان صعود المد الفكري الاشتراكي في العالم العربي في الأربعينيات وما بعدها، وتميزت ثلاثتها بالأصالة الفكرية والإضافة إلى الفكر الإسلامي، وذلك على الرغم من أن مصطلح (الاشتراكية) ظهر في عنوانيْ كتابين منها، بينما آثر سيد قطب نَحْتَ مصطلح (العدالة الاجتماعية) الذي شاع استخدامه بعد ذلك. ومع أن آراء الغزالي الاقتصادية قد تشعبت لتشمل قضايا المساواة، والحرية، والكرامة الإنسانية، إلا أننا سنقصر هذا العرض على ما يهم الناس عادة عند التطرق لقضايا الاقتصاد وتنظيم الحياة الاقتصادية، وفي هذا المقام فإن أهم ما يهم هو: حق العمل: الذي يكتسب في ظل النظام الإسلامي أهمية خاصة، إذ إنه الحق الذي تترتب عليه حقوق الملكية، وهو كذلك هدف مقصود من غايات الخلق، وتكليف من تكاليف الرسالة . ولحكمة عليا جعل الإنسان يكدح لابتغاء الرزق: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ (الأنبياء:8). ويقرر الإسلام لكل أفراد المجتمع حق اختيار نوع العمل الذي يوافق مواهبهم، ونوع التدرب الذي من حقهم أن يحصلوا عليه، بيد أن العمل قد قيد بأطر تشريعية تمنع الغش فيه والسرقة والاحتكار والاستغلال وسائر أنواع الكسب الحرام. حق الأجر: ويقرر الغزالي أن العمل سلعة مثله مثل أية سلعة أخرى. والسلع جميعاً تترك في ميدان السوق لقانون العرض والطلب، وقلَّما تتدخل الدولة لتحديدها: " ونحن نرى أن الموظفين والعمال أصحاب خبرة ودراية ومهارة، وأن الخدمات التي يؤدونها للمجتمع لا تعدو أن تكون هي الأخرى سلعاً يرتفق الناس بها، ولا يستغنون عنها. فهل تترك هذه المواهب والمنافع المقرونة بها، في مهب الريح ترتفع وتنخفض دون ضابط عدل؟ لا!! إن الجهد البشري الذي يبذله موظف أو عامل في إنجاز أمر من الأمور، أو إتقان سلعة من السلع، له عوض مالي يمكن جعله ثمناً مقبولاً له، فإذا تدخلت ظروف مصطنعة لبخس هذا الثمن أو المغالاة فيه، فإن العدالة التي قررتها الشريعة فمنعت المتبايعين في الأسواق عن التغرير والخداع والاحتكار، تنتقل هنا لتمنع كذلك الغلو والحيف، أو الجشع والانكسار. والواقع أن الخدمات العلمية والفنية واليدوية يجب أن تلقى مقابلاً مجزئاً، لا يشعر معه الموظف أو العامل أن جهده أُهدِر، وأن مواهبه بيعت بثمن بخس". فالدولة الإسلامية ملزمة – إذن- بحماية العمال ضد تغول الرأسماليين الذين أثبت لهم التاريخ طبيعة الجشع والاستغلال. حق الملكية: والملكية تثبت عادة اكتساباً عن العمل، ولكن الإسلام لا يمنع وسائل التملك الأخرى كالميراث والهبة، ولكن يبقى العمل هو وسيلة التملك الأساسية، ومن هنا تنتفي وسائل السخرة والاستغلال والاحتكار والربا. وقد احترم الإسلام حق الملكية ووضع الضوابط الكثيرة لحمايته وتعزيزه، إذ : " أنه أثقل هذا المبدأ بالواجبات الاجتماعية النبيلة حتى يكون المال في يد صاحبه مصدر خير له وللناس".

ففيه حق للفقراء المحرومين من الزكاة، وفيه حقوق أخرى للمجتمع غير الزكاة، وهو مجرد استخلاف على المال، المحتاج إليه أحق من التلوي عليه في بعض الأحيان، كما عبر سيدنا عمر بن الخطاب عند استنكاره لسلوك بعض الناس عند حرمانهم ابن السبيل من الماء، فقال: " إن ابن السبيل أحق بالماء من الثاوي عليه ".

والضمان الاجتماعي مبدأ قديم قدم الدولة الإسلامية، قرره رسول الله عندما كفل الفقراء والمعدمين، وقرر لهم حق (العطاء) الثابت في بيت المال، بما يكفي حاجاتهم، يدفع عوزهم، وإذا كانت الدول جميعاً، بما فيها أشدها تطرفاً وغلواً في الرأسمالية، قد رأت أهمية مستوى حياتهم، فإن هذا المبدأ قد تقرر من قديم الزمان في الإسلام، وما كان سوى اشتقاق طبيعي من مبدأ العدل الإسلامي العام؛ وما كان الإسلام ليحتاج إلى أن يكتشف، اكتشافاً متأخراً، أن مبدأ فائض القيمة بما يؤدي إليه من إفقار متزايد للفقراء، وتوسيع لهوة التباين الطبقي في المجتمع، يمكن أن يولد شرارات الثورة والاحتراب الاجتماعي؛ فقد كفى الإسلام المسلمين شر بلايا تلك التجربة الوبيلة، وبالتالي عصم مجتمعاتهم من أن تنشأ فيها صور الإقطاع والظلم الطبقي الفادح كما اعترف بذلك بعض المنظرين الماركسيين. وبما أن الدولة الإسلامية مكلفة بإرساء قواعد المساواة والعدل، فإنه لا ينتظر منها أن تقف تلقائياً في صف أصحاب الملكيات وأرباب العمل، كما تفعل الدولة الليبرالية، وإنما عليها أن تصغي إلى العمال والمستخدمين وتمكنهم من الضغط على مستخدميهم لاستيفاء حقوقهم وامتيازاتهم. وهنا لا يمانع الشيخ الغزالي من أن تنشأ نقابات مهنية قوية في المجتمع المسلم، تكون بمنـزلة جماعاتِ مصالح ومراكز ضغطٍ، تعمل في سبيل انتزاع حقوق منسوبيها. وإن كان الغزالي لم يفصل كثيراً في موضوع النقابات – وهو تفصيل ليس مطلوباً منه بالطبع- فإنه يمكن القول إن فكرة إعطاء النقابات حظاً من القوة التي تستطيع بها التأثير في عملية اتخاذ القرار، إنما هو فرع من عملية الشورى في المجتمع المسلم، وهي العملية التي تتوخى توزيع القوة توزيعاً عادلاً في المجتمع، وبداية ذلك إنما تكون بتخفيض قوة الدولة والرأسماليين، وتزويد الطبقات المسحوقة بشيء من أدوات الضغط لتمكينها من الإسهام في صياغة القرار.(24) ويعرض د محمد عمارة في مقاله (الشيخ الغزالي‏..‏ أم كارل ماركس؟‏!‏) مقارنة فكرية بين الشيخ محمد الغزالي وبين كارل ماركس مؤسس الفكر الاشتراكي الشيوعي حول مفهوم العدالة الاجتماعية وتبنى الشيخ الغزالي لها فطرح د عمارة بعض رؤى الغزالى فى العدالة الاجتماعية من منظور إسلامي فكتب: كانت العدالة الاجتماعية هي أولي الفرائض الغائبة في بلاد الإسلام.. ولقد احتلت هذه القضية مكان الصدارة لدي عدد كبير من رموز الحركة الإصلاحية الإسلامية من جمال الدين الأفغاني.. ومحمد عبده.. وحسن البنا.. وحتى الشيخ محمد الغزالي.. ومن بعده سيد قطب, لقد جعل الشيخ الغزالي رحمه الله ـ من قضية العدل الاجتماعي أولي معاركه الفكرية, التي أفرد لها أول مؤلفاته: الإسلام والأوضاع الاقتصادية 1947, وكان سيد قطب أول من لفت الأنظار إلي هذا الكتاب. ولأن هذه القضية قد غابت ـ أو كادت ـ عن برامج الأحزاب الإسلامية المعاصرة, كان من الواجب تذكيرهم ببعض ما كتب الغزالي في هذا الموضوع.. لقد قال: لقد رأيت ـ بعد تجارب عدة ـ أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة, والأعمال الصالحة, والأخلاق الفاضلة!!.. انه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدي اذا كانت معدته خالية, أو أن تكسوه بلباس التقوي اذا كان جسده عاريا!.. انه يجب أن يؤمن علي ضروراته التي تقيم أوده كإنسان, ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان.. لذلك, لابد من التمهيد الاقتصادي الواسع, والاصلاح العمراني الشامل, اذا كنا مخلصين حقا في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين, أو راغبين حقا في هداية الناس لرب العالمين.. إن بعض ذوي الآفاق المغلقة يتوهمون أن إدخال العوامل الاقتصادية في الرذائل والفضائل جنوح إلي التفكير الشيوعي القائم علي النظرة المادية المحضة للحياة, واستهانة بالقوي الروحية السمية.. وهذا التوهم خاطئ, فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحي.. بيد أن ذلك لا يعني إغفال المشاهد المحسوسة, من تولد الرذائل الخطيرة في المجتمعات المصابة بالعوز والاحتياج, بل إن الاضطراب الاقتصادي في أحوال كثيرة جدا قد يكون السبب الأوحد في نشوء الرذيلة وشيوعها, والحديث النبوي الذي يلمح فيه نبي الإسلام ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي أن المعاصي توقع فيها الضوائق المادية ـ حديث: إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلي الكذب.. يضع أيدينا علي طرف الحقيقة التي بدأ الناس يفهمونها الآن كاملة! إن بقاء كثير من الناس صرعي الفقر والمسكنة, هو هدف أكثر الحكومات المتتابعة, في العصور السابقة واللاحقة, إذ إن تجويع الجماهير هو بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام, ومن هنا انتشر الفقر في الشرق, وسخر الدين ورجاله لحمل الناس علي قبوله واستساغته, وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعني تفسيرا مستقيما, نسي الناس معه حقوقهم وحياتهم, وجهلوا دنياهم وأخراهم, وحسبوا الفقر في الدنيا سبيلا إلي الغني في الآخرة!! إن هدف الديانات والرسالات هو قيام التوازن بين الناس بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم.. وقيام الناس بالقسط ـ العدل ـ هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبدا, وقد قال بعض علماء الأصول: إن مصالح الناس المرسلة, لو وقف دون تحقيقها نص تم تأويل النص, وأمضيت المصالح التي لابد منها وللحكومة ـ من وجهة النظر الدينية ـ أن تقترح ما تشاء من الحلول, وأن تبتدع ما تشاء من الأنظمة لضمان هذه المصلحة, وهي مطمئنة إلي أن الدين معها لا عليها ما دامت تتحري الحق, وتبتغي العدل, وتنضبط بشرع الله فيما تصدره من اقتراحات وقوانين. إن المال الذي يكفي لإذهاب الغيلة, واستئصال الحرمان, وإشاعة فضل الله علي عباده, يجب إخراجه, مما عظم ـ من ثروات الأغنياء, ولو تجاوز بعيدا مقادير الزكاة المفروضة, لأن حفظ الحياة حق إسلامي أصيل, ومقادير الزكاة ليست إلا الحد الأدنى لما يجب إنفاقه, وقد ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم ـ إن في المال حقا غير الزكاة ـ رواه الترمذي. وبعد هذا التحليل الاجتماعي الإسلامي للقضية الاجتماعية.. وبعد عرض فلسفة الإسلام في الثروات والأموال.. وضع الشيخ الغزالي برنامجا اجتماعيا واقتصاديا ـ سبق به الحزب الشيوعي المصري وطالب الحكومة بتنفيذه, لإقامة العدل بين الناس.. وفي هذا البرنامج طالب ودعا إلي: 1 ـ تأميم المرافق العامة, وجعل الأمة هي الحاكمة الأولي لموارد الاستغلال, وإقصاء الشركات المحتكرة لخيرات الوطن, أجنبية أو غير أجنبية, وعدم إعطاء أي امتياز فردي من هذا القبيل. 2 ـ تحديد الملكيات الزراعية الكبري, وتكوين طبقة من صغار الملاك تؤخذ نواتها من العمال الزراعيين. 3 ـ فرض ضرائب علي رؤوس الأموال الكبري, يقصد بها تحديد الملكية غير الزراعية. 4 ـ استرداد الأملاك التي أخذها الأجانب وإعادتها إلي أبناء البلاد, وتحريم تملك الأرض المصرية علي الأجانب تحريما مجرما. 5 ـ ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون بها, بحيث تكون لهم أسهم معينة مع أصحابها في الأرباح. 6 ـ فرض ضرائب تصاعدية علي التركات تنفق في أوجه الخير علي النحو الذي أشار إليه القرآن, إذ يقول: وإذا حضر القسمة أولو القربي واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ـ النساء8 ثم ختم الشيخ الغزالي بنود هذا البرنامج الاجتماعي الاقتصادي بقوله: إنه لو لم يبق لكل فرد من أفراد الشعب إلا قوته الضروري لما جاز أن تتراجع الدولة في تحقيق هذا البرنامج الذي تعلن به الحرب علي الظلم والجهالة والاستعمار. هكذا تحدث الشيخ الغزالي حديث الفيلسوف الاجتماعي والخبير الاقتصادي, الذي تربي في مدرسة القرآن والذي أعلن أن مالك المال هو الله, وأن الناس ـ كل الناس ـ مستخلفون في هذا المال, وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه] ـ الحديد7, لقد ثار الشيخ الغزالي ضد ترك الأمة أموالها ـ وأموال الله للسفهاء ـ مع أن القرآن ينهي عن ذلك, ويقول:, ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل لكم قياما] ـ النساء.5 لقد كان الشيخ الغزالي واحدا من فلاسفة العدل الاجتماعي في القرن العشرين.. ولقد قال قبل وفاته: إن عندنا في الإسلام نظريات اقتصادية لو عرفها الأوروبيون لطلقوا كارل ماركس وداسو عليه بالنعال ـ كما فعلوا الآن, وأن النظام الرأسمالي المنتعش الآن ستهلكه جراثيمه وتلحقه بالنظام الشيوعي!(25) العدالة الاجتماعية غاية الدولة الإسلامية في فكر الإخوان كان للمرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني رؤية خاصة في مفهوم العدالة الاجتماعية فيرى التلمسانى أن تحقيق وتطبيق العدالة الاجتماعية كان هدف رئيسي وراء الفتوحات الإسلامية فيقول التلمسانى: كما أنه في شرع الله مقاومة الاستعمار والاستغلال، وما دخل المسلمون بلدًا، فأرغموا أهلها على ترك عقيدتهم أو أموالهم، بل أبقَوْا كل فرد على ما كان عليه من دين أو دنيا، وكل ما فعله المسلمون في البلاد التي دخلوها هو إقامة العدالة الاجتماعية الصحيحة الكاملة بين الجميع. وغير المسلمين لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. حتى الجزية منعوا أخذها من الضعفاء والفقراء والمساكين، وجعلوها على القادرين في رفق وهوادة. وهذا مما جعل أهل كل بلد دخلها المسلمون يدخلون في دين الله أفواجًا من تلقاء أنفسهم، بلا ضغط أو إكراه.(26) كما يبين د عبد المنعم أبو الفتوح في أحد النشرات الجامعية (نشرة صوت الحق) التي تم توزيعها على طلاب الجامعات في السبعينات أن غاية الرسل هي إقامة نظام اجتماعي عادل وتحقيق عدالة الاجتماعية منبعها الإيمان بالله ورسله: للدولة الإسلامية القائمة إلى أساس هذا الدستور غاية ذكرها الله تعالى في كتابه في مواضع عديدة منها قوله:-" لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس" الحديد (25) والآية قد بينت ما تبعث الرسل لأجله, وهو أن الله قد أراد ببعثهم أن يقيم في العالم نظام العدالة الاجتماعية على أساس ما أنزل عليهم من البيانات وما أنعم عليهم في كتابه من الميزان أي نظام الحياة الإنسانية العادل. وقال في موضع آخر:" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" الحج(41) وقال :" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" آل عمران (110) فمن تدبر هذه الآيات اتضح له أن الدولة التي يريدها القرآن ليس لها غاية سلبية فقط بل لها غاية ايجابية أيضا أي ليس من مقاصدها المنع من عدوان الناس بعضهم على بعض وحفظ حرية الناس والدفاع عن الدولة فحسب, بل الحق أن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الصالح الذي جاء به كتاب الله.(27) خاتمة الجزء الثاني ذكرنا في هذا الجزء من البحث نظرة ورؤى لبعض قيادات الإخوان التنظيمية والفكرية ورؤيتهم لمفهوم العدالة الاجتماعية وكيف وصل الاهتمام بتحقيق العدالة الاجتماعية إلى القول بأن الهدف الرئيسي من إرسال الرسل بالإضافة إلى تحقيق الوحدانية والربوبية هو تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية وإنشاء مجتمع متكامل مبنى على مفاهيم العدالة والحرية والمساواة. وسنعرض في الجزء الثالث من البحث استكمال لرؤية جماعة الإخوان المسلمين من خلال برامجها الانتخابية وبياناتها السياسية حول العدالة الاجتماعية وآليات تطبيقها في المجتمع المصري.


المصادر

(1) لسان العرب 1: 436، الراغب، المفردات، مادة عَدَل، ترجمة وتحقيق غلام رضا خسروي الحسيني 2: 565، تهذيب اللغة 2: 218، مقاييس اللغة 4: 247، المحكم 2: 13.

(2) مقاييس اللغة، ابن فارس 4: 246-247، مادة: عدل.

(3) سورة الأنعام: 1.

(4) جامع الشتات: 699، الشهيد في الذكرى: 230، مستمسك العروة الوثقى 1: 46، تحرير الوسيلة 1: 10.

(5) جميل حليبا، الثقافة الفلسفية، ترجمة منوچهر صانعي دره بيدي: 460.

(6) كليات الحقوق 1: 205، الحقوق الفطرية: 310.

(7) تاريخ الفلسفة السياسية 1: 109.

(8) الثقافة الفلسفية: 461

(9) مجمع البيان 1: 103.

(10) شرح نهج البلاغة 18: 216 و 272.

(11) المكاسب، رسالة العدالة: 326.

(12) المصدر السابق 12: 253.

(13) تفسير الميزان 6: 219.

(14) دراسة مباني الاقتصاد الإسلامي: 16.

(15) نهج البلاغة، الخطبة 37: 81، تحقيق الدكتور صبحي الصالح.

(16) التنمية السياسية عن الإمام علي (عليه السلام)ع: 7.

(17) عظماء الفلاسفة 1: 80.

(18) هنري توماس، الوقائع الفلسفية الخالدة: 40.

(19) المصدر السابق 43.

(20) تاريخ الفلسفة السياسية 1: 109.

(21) عظماء الفلاسفة 1: 298.

(22) الوقائع الفلسفية الخالدة: 63.

(23) عظماء الفلاسفة 2 : 465.

(24) الحقوق الفطرية: 359.

(25) تاريخ الفلسفة في الإسلام: 655.

(26) موسوعة أخلاق القرآن، د. أحمد الشرباصي، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1405هـ - 1985م،ص22.

(27) سورة الحديد: الآية 25.

(28) سورة الأعراف: الآية 29.

(29) سورة النحل: الآية 90.

(30) سورة الحج: الآية 45.

(31) نهج البلاغة، ج 4، ص 762، رقم 432،

(32) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م، ص 329.

(33) المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م، ص 318.

(34) المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م، ص 318.

(35) سورة لقمان: الآية 13.

(36) سورة هود: الآية 18.

(37) سورة الإنسان: الآية 31.

(38) سورة الزمر: الآية 32.

(39) سورة الأنعام: الآية 21.

(40) سورة الشورى: الآية 40.

(41) سورة الشورى: الآية 40.

(42) سورة الشورى: الآية 42.

(43) سورة الإسراء: الآية 33.

(44) سورة فاطر: الآية32.

(45) سورة النمل: الآية 44.

(46) سورة النساء: الآية 64.

(47) سورة البقرة: الآية 35.

(48) سورة البقرة: الآية 231.

(49) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م، ص 319.

(50) سورة آل عمران: الآية 117.

(51) سورة البقرة: الآية 57.

(52) سورة الأنبياء: الآية 11.

(53) سورة الحج: الآية 48.

(54) سورة الأنعام: الآية 82.

(55) سورة الرحمن: الآيات 6 - 8.

(56) سورة الحديد: الآية 25.

(57) سورة الشورى: الآية 15.

(58) سورة النحل: الآية 90.

(59) سورة النساء: الآية 135.

(60) سورة الحج: الآية 39.

(61) سورة المائدة: الآية 3.

(62) سورة الأنبياء: الآية 46.

(63) سورة الروم: الآية 20.

(64) سورة النساء: الآية 1.

(65) سورة الحجرات: الآية 13.

(66) سورة النحل: الآية 76.

(67) سورة ص: الآية 28.

(68) سورة التوبة: الآية 34.

(69) سورة النساء: الآية 29.

(70) سورة البقرة: الآية 188.

(71) سورة الذاريات: الآية 19.

(72) سورة البقرة: الآية 177.

(73) سورة الحشر: الآية 7.

(74) سورة الإسراء: الآية 27.

(75) سورة التوبة: الآية 60.

(76) سورة البقرة: الآية 273.

(1)التربية السياسية عند الإخوان المسلمين د عثمان عبدالمعز رسلان ص 217-219 (2)د. أبو الفتوح يكتب عن: الإصلاح في فكر الإمام البنا – موقع إخوان ويكى http://www.abolfotoh.net/fotoh-articles/fotoh-political/item/518-%D8%AF-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD-%D9%8A%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7.html (3)رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي (4 )مؤتمر رؤساء المناطق والشعب ومراكز جهاد الإخوان المسلمين على مستوى القطر المصري 2شوال 1364ه- 8 سبتمبر 1945م (5)(من خطاب للإمام الشهيد حسن البنا في يناير 1941) الدعوة السنة الأولى العدد الثالث والعشرين 3 يوليه 1951 ص8 (6)الدعوة "العدد 39- السنة الأولى –الثلاثاء 13 صفر سنة 1371 – 13 نوفمبر سنة 1951 (7)جريدة روزا اليوسف – العدد 946، 31/7/1946 (8)جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 96 – صـ1 – 26رمضان 1365هـ / 23أغسطس 1946م. (9)جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 117 – صـ1، 4 – 23شوال 1365هـ / 19سبتمبر 1946م. (10)جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الثانية – العدد 483 – صـ1، 5 – 15محرم 1367هـ / 28نوفمبر 1947. (11)الإخوان المسلمون اليومية، العدد (1)، السنة الأولى، 3جمادى الآخرة 1365ه- 5مايو 1946م، ص(1)، ولقد كتب هذا المقال بمناسبة صدور العدد الأول من جريدة الإخوان المسلمين اليومية. (12) الإخوان المسلمون اليومية، العدد (101)، السنة الأولى، 5شوال 1365ه- 1سبتمبر 1946م، ص(1، 3، 6) (13) موقع رابطة أدباء الشام http://www.odabasham.net/show.php?sid=14378 (14) العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 26. (15) المصدر السابق ص 29. (16) المصدر السابق ص 53. (17) المصدر السابق ص 76. (18) المصدر السابق ص80 (19) الدعوة السنة الثانية – العدد 82 الثلاثاء 19 ذى الحجة سنة 1371 – 9 سبتمبر سنة 1952 (20) الدعوة السنة الثانية – العدد 82 الثلاثاء 19 ذى الحجة سنة 1371 – 9 سبتمبر سنة 1952 (21) الدعوة السنة الثانية – العدد 82 الثلاثاء 19 ذى الحجة سنة 1371 – 9 سبتمبر سنة 1952 (22) كتاب السيرة النبوية دروس وعبر - مصطفى السباعى ص45 (23) كتاب "مقتطفات من كتاب: من روائع حضارتنا" للدكتور مصطفي السباعي (24) نظرات في فكر الرواد - محمد وقيع الله موقع سودانايل http://sudanile.com/2008-05-19-17-39-36/81-2009-01-07-09-53-16/10447-------5-8.html (25) محمد عماره -الشيخ الغزالي‏..‏ أم كارل ماركس – موقع الرابطة العراقية‏ http://www.iraqipa.net/07-2011/21-31/a2_25Aug2011.htm (26) عمر التلمساني، المخرج الإسلامي من المأزق السياسي الراهن، (دار النشر والتوزيع الإسلامية) القاهرة، 1991م، ص: 49 - 55. (27) نشرة صوت الحق صادرة عن الاتحاد العام لطلاب جمهورية مصر العربية (أمين لجنة الإعلام والنشر عبد لمنعم أبو الفتوح)