من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير (5)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

أَوْجز ما توصف به رسالة الإسلام أنها رحمة الله إلى خلقه، هذا ما وصفها به القرآن الكريم؛ حيث خاطب الله رسوله فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وهذا ما وصف الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسَه حين قال:"إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" (رواه الحاكم).


وهذه الرحمة تتجلى في أحكام الشريعة كلها، فهي كما قال ابن القيم رحمه الله: "الشريعة رحمة كلها، وحكمة كلها، وأي حكم تراه فيها خرج من الرحمة إلى القسوة، أو من الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة في شيء، وإن أدخله مَن أدخله بسوء التأويل".


وأجلى ما تتمثل فيه هذه الرحمة هو (التيسير) الذي بُنيت عليه الشريعة وأحكامها، وهو أمر جليٌّ لكل من قرأ القرآن والسنة، فإن الله تعالى لم يكلف عباده شططًا، ولا أرهقهم عسرًا، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم الْيُسَرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسَرَ﴾ (البقرة: 185)


أما النبي- صلى الله عليه وسلم- عندما بعث صاحبيه معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن أميرَين ومعلمَين وداعيَين أوصاهما بوصية جامعة مانعة، تعتبر من جوامع الكلم النبوي، فقال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (رواه البخاري)


معنى التيسير

التيسير هو: اتباع نهج التسهيل والتوسعة والسماحة، والتخفيف، والبعد عن التصعيب والتضييق والإحراج والإعنات الذي هزَّ مضمون كلمة (التعسير)، ولقد فطر الله الإنسان على حب اليسر والسعة وكراهية العسر والحرج، ومن رحمته أنه جعل اليسر محيطًا بهم قدرًا وشرعًا، فقال تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ (الطلاق: 7)، كما أن أحكام الشريعة الإسلامية أسست على اليسر لا على العسر، واليسر يعبر عنه في الشرع بالتخفيف، ونفي الحرج، والعفو، وبوضع الإصر والأغلال، والسماحة، والرخصة، ومن ثم فالتيسير مطلوب في الدين، مرغب فيه، بكل ما يعبَّر عنه من ألفاظ وعبارات، بل إن الأمة الإسلامية مأمورة به أمرًا مباشرًا من النبي صلى الله عليه وسلم.


معنى التعسير

أما التعسير فهو غير مرغوب فيه ولا محمود، بل منهيٌّ عنه، وقد رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- رجلاً في أحد أسفاره تبدو عليه المشقة والتعب والمعاناة، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" (رواه أبو داود)، ورأى رجلاً آخر في حالة من الجهد والإعياء، فسأل عنه، فقالوا: إنه نذر أن يذهب إلى الحجِّ ماشيًا، فقال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني" (متفق عليه)


وقد عبَّر القرآن الكريم عن التعسير بعدة ألفاظ منها: الحرج، والإعنات، والتنطع (والمتنطعون هم المتعمقون المبالغون في أقوالهم وأفعالهم)، والتشدد، ومجافاة السنة المحمدية في الوسطية والاعتدال.


مظاهر التيسير

للتيسير المطلوب مظاهر كثيرة في حياة الفرد والجماعة، ومن ذلك التيسير في التعامل بين الناس، كما حكى القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام في سورة الكهف، فالأصحاب والرفقاء يجب أن يتياسروا ولا يتعاسروا؛ حتى إن أخلَّ أحدهم بالشرط مرة، فينبغي أن يسامح، فإن لكل جواد كبوة ولكل إنسان هفوة.


التيسر في الدين

ولكن أعظم اليسر هو اليسر في الدين، ونفي الحرج والعنت عن الدين، حتى لا يصبح أغلالاً على الناس، وهذه هي مهمة العلماء والدعاة، وهي التي نركز فيها هنا، والتيسير المنشود في الدين يتضمن معنيين كبيرين هما:

1- تيسير الفهم الدين وأحكامه

إن مصادر الدين من قرآن وسنة، مصادر ميسرة للفهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسْرَّنَا الْقُرَآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر﴾ (القمر:17)، وكذلك كان بيان الرسول- صلى الله عليه وسلم- بيانًا سهلاً سلسًا ليس فيه ألغاز وتعقيد، ولكن المسلمين في العصور المتأخرة عقَّدوا المصدرين الميسَّرين بشروحهم وإضافاتهم، والأَوْلى بنا أن نرجع إلى السهولة الأولى ونعيد الدين إلى فطرته وبيانه الذي يخاطب العقل والقلب معًا، ويفهمه العام والخاص معًا.


ومن وسائل توخي السهولة واليسر: أن يكتب الدين بلغة سهلة مبسطة، تتجنب وعورة المصطلحات، وأن تكون لغةً تتوسط الإيجاز والإطناب، كذلك من الضروري مخاطبة العقل المعاصر باللسان الذي يبين له، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم﴾ (إبراهيم: 4)، واللسان في هذه الآية- في فهمي- أعمق وأوسع من مجرد مخاطبة العرب بالعربية، والإنجليز بالإنجليزية، بل يشمل مخاطبة العوام بلسان العوام، والخواص بلسان الخواص، ومخاطبة الإنسان في الشرق بلسان أهل الشرق، والإنسان في الغرب بلسان أهل الغرب، فلكلٍ لغته وعقليته.


ومن المطلوب هنا: التخفيف من كثرة الزوائد والتشعيبات والتعقيدات التي أضافتها العصور المختلفة، وخصوصًا في مجال العبادات، والتي أثقلت العلم الديني بتفريعات لم يعرفها الصحابة ولا سلف الأمة.


2- تيسير العمل بالدين وشرائعه

ذلك التيسير في تقديم الفقه، وتقريبه إلى العقل المسلم المعاصر غير المتخصص، أي إلى جمهور المسلمين، وهذا هو الشق الأول من التيسير، أما الشق الثاني فيتعلق بالتيسير في أحكام الفقه ذاتها، بحيث يسهل على المسلم المعاصر تنفيذها والالتزام بها في العبادات والمعاملات وسائر شئون الحياة، وليس معنى التيسير الإتيان بشرع جديد من عند أنفسنا، أو نبتدع لهم في الدين ما لم يأذن به الله، والمقصود بالتيسير هنا: جملة من الأمور منها:


مراعاة جانب الرخص

فنراعي جانب الرخص في الشريعة إلى جانب العزائم، فلا ينبغي أن نعامل الناس كلهم بمستوى واحد، ولا يطالب الضعفاء بما يطالب به الأقوياء، فقد قبل النبي- صلى الله عليه وسلم- من بعض الأعراب الاكتفاء بالفرائض الأساسية وحدها، مع حلفه أنه لا يزيد عليها ولا ينقص، ومع هذا قال:"أفلح إن صدق" أو "دخل الجنة إن صدق" (البخاري)، وقال في بعض الأحوال: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" (البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" (رواه ابن حبان).


وقد قال الإمام سفيان الثوري- رضي الله عنه- عن الفقه: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد"، والثقة تكون في الفقه والدين معًا.


تقديم الأيسر على الأحوط في زماننا

إذا كان التيسير مطلوبًا دائمًا، كما أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو ألزم ما يطلب في عصرنا هذا؛ نظرًا لرقة الدين في أنفس الكثيرين، وغلبة النزعات المادية، وتأثر المسلمين بغيرهم من الأمم؛ نتيجة لشدة اتصال العالم بعضه ببعض، وهذا ما عبَّر عنه علماؤنا في العصور المتأخرة بـ(تغير الزمان)، وجعلوه سببًا من أسباب تغير الفتوى، فقد قال العلامة "ابن عابدين": "إن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان: لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاًَ: للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد"، والمنهج الذي أراه في الفتوى والتدريس والتأليف هو: التيسير في الفروع، والتشديد في الأصول؛ لذا فينبغي أن نختار في الفتوى لجماهير الناس الأيسر لا الأحوط، والحجَّة في ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا" (متفق عليه)، والدارس لفقه الصحابة والسلف يلحظ أنه كان يتجه غالبًا إلى الأيسر؛ وفقه من بعدهم كان يتجه غالبًا إلى الأحوط.


التضييق في الإيجاب والتحريم

ومن التيسير المطلوب: التضييق والتحري البالغ في تكليف الناس بالأحكام، وخصوصًا في مجال الفرض والتحريم، وقد كان السلف يتحرَّجون من التحريم- ومثله الفرضية- إلا أن يكون معهم دليل لا شبهة فيه، وإلا نزلوا من الفرض إلى الواجب، ومن الحرام إلى المكروه، وهذا هو مذهب الحنفية الصريح؛ ولهذا كثر في كلامهم مثل قول: "يعجبني كذا"، أو "أستحب كذا"، ولا يصرح بالوجوب إلا ما علم جزمًا بوجوبه، ويبدو للمتأمل في القرآن والسنة أن الإسلام كان حريصًا على تقليل التكاليف، وتوسيع منطقة العفو، رحمةً بالمكلفين غير نسيان.


التيسير فيما تعم به البلوى

ومن أهم ما ينبغي التيسير فيه: ما تعم به البلوى من أمور العبادات والمعاملات، فإذا كان هناك بعض المذاهب شدد في شئون الطهارة مثلا، كمذهب الإمام الشافعي، فليس هناك موجب لإلزام الناس به، لما قد يترتب عليه الحرج عند جماهير المسلمين وخصوصًا في الريف والقرى، وكثيرًا ما يكون الضيق ناشئًا من التقيد بمذهب معين، ولو تحرروا إلى باحة المذاهب الأخرى، وأقوال الصحابة والسلف، وإلى النصوص والقواعد العامة، لوجدوا في باحتها الفسيحة ما يخرجهم من الضيق إلى السعة ومن العسر إلى اليسر، ومن الكلمات التي لها دلالتها قول بعض السابقين: "هذا أرفق بالناس".

ومن جوانب التيسير فيما تعم فيه البلوى؛ الإشارة إلى الرأي المخالف الذي لم يأخذ به الكاتب أو الكتاب- ولو في الحاشية- لأنه قد يكون قويًّا في نظر غيره، ومن فوائد ذلك التعريف بأن المسألة لها أكثر من رأي أو وجهة نظر، ومن ناحية ثانية فإن الأمور الاجتهادية القابلة لتعدد الأنظار، واختلاف الاجتهادات لا يجوز أن يعتبر من يأخذ بوجهة منها مرتكبًا لإثم ينكر على صاحبه؛ ولهذا قالوا: لا إنكار في المسائل الاجتهادية.


ولا يعني التيسير فيما تعم فيه البلوى أن نحل المحرمات المقطوع بها، مثل الربا، أو الخمر أو المخدرات ونحوها، مما جاءت به نصوص محكمات لا يجوز إهمالها أو إنكارها.


مراعاة قواعد الشرع الميسرة

ومما يدخل في قواعد التيسير: الرجوع إلى القواعد الشرعية، التي أصَّلها الفقهاء من جميع المذاهب، وكلها تعين على قبول التيسير والاستغناء عن الإعنات والتعسير، ومن هذه القواعد: الضرورات تبيح المحظورات، ويتمِّمها: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، والحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، والمشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، والتكليف بحسب الوسع، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، ويرتكب أخف الضررين وأهون الشرَّين.


المصادر

  1. من كتاب "الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد" بتصرف يسير
  2. إخوان أون لاين