قصة الغلاف : مبادئ مصطفى كامل
بقلم: فتحي رضوان
قال الملك السابق لوزرائه: "لو أفرجتم عنه ... فإنه سوف يقتلني"
فلقد كانت قضايا "الاغتيالات" هي القاسم المشترك الأعظم في حساة ذلك الشاب اللذي يخفي ثورة جيل كامل وراء ذلك الهدوء العجيب الذي معدنه .. ووراء هذه الابتسامة البريئة الحلوة التي ترتسم دائما على شفتيه وكأنها صادرة من أعماق قلبه .. ووراء تلك الشعيرات البيضاء التي تكلل هامته كما يكلل الثلج قمم الجبال العالية على الرغم من أنه لا يزال في الحادية والاربعين من عمره.لقد اتهم فتحي رضوان و اعتقل في أكثر من ست قضايا للاغتيالات منها محاولة اغتيال مصطفى النحاس واغتيال أحمد ماهر واغتيال النقراشي و اغتيال أمين عثمان.
فمن يكون فتحي رضوان؟
لقد ولد في 14 مايو 1911 في المنيا وكان والده مهندس ري المنيا .. أما جده فقد كان ضابطا في الجيش التركي أحيل على التقاعد عندما بلغ السن القانونية ثم هاجر وتزوج من سيدة مصرية، وعاش حياته في بلدة المنير بالقرب من مدينة القناطر.
وفي هذه القرية اشترى قطعة من الارض بمعاشه ، كان يفلحها ويزرعها بنفسه ثم يوزع الايراد على القرويين ولذلك أحبه الفلاحون و أصبحوا يحاكمون إليه في منازعاتهم ومشاجراتهم ويقبلون حكمه.
وعندما مات اعتبروه وليا من أولياء الله الصالحين وشيدوا له ضريح لا يزال قائما حتى الآن ويعرف بإسم "ضريح الشيخ عثمان" ثم راحوا يحتفلون كل عام بمولده.
واسم وزير الدولة في شهادة الميلاد هو "السيد فتحي" .. ولذلك قصة طريفة فقد كانت والدته تتمنى من الله أن يرزقها بمولود ذكر، و في إحدى الليالي رأت في الرؤيا السيد البدوي و هو يحمل طفلا بين يديه قدمه إليها وقال لها: "سترزقين بولد .. فسميه فتح الله" فتفاءلت الام بهذه الرؤيا و ارادت ان تجمع بين اسم السيد البدوي و بين الاسم الذي ذكره لها في الرؤيا فسمته "السيد فتحي"
ومنذ اليوم الاول لميلاد فتحي رضوان وهو فريسة عدة امراض، فقد توالت عليه معظم الادواء فأصيب بالتيفود و الديفتريا والجدري والحمى القرمزية والروماتيزم.
وكان والده – وهو لا يزال حتى الآن في قيد الحياة – كثير التنقل بين مديريات الوجه القبلي شأنه في ذلك شأن الموظفين الآخرين .. و أخيرا عين في مديرية الجيزة "باشمهندس" للري .. فأقامت الاسرة الصغيرة – وكانت تتكون من ولد واحد هو فتحي رضوان و ثلاثة بنات – في منزل صغير في حي السيدة زينب تملكه بريمادونة مصر في ذلك الوقت "امليا ديان" المشهورة باسم "مليا" وكانت هي الممثلة الاولى في فرقة الشيخ سلامة حجازي.
وكانت اسعد اللحظات في حياة الطفل فتحي رضوان هي تلك اللحظات التي كانت تحضر فيها "مليا" بنفسها لتتسلم ايجار الشقة وتدعو الاسرة في بعض الاحيان إلى مسرح سلامح حجازي أو تجلس "لتدردش" عن نهضة المسرح وتاريخه وعن سلامة حجازي وفنه.
و سمع فتحي رضوان عن مصطفى كامل لأول مرة في مدرسة الجمعية الأهلية المصرية ، و كان ناظرها "محمود أنيس" أحد الذين اتهموا في قضية اغتيال بطرس غالي بالاشتراك مع الورداني و لكن التهمة لم تثبت عليه فأفرج عنه المستشار متولي غنيم لانه لم يجد وجها لاقامة الدعوى ضده.
ولكن الحكومة فصلت محمود انيس ففتح هذه المدرسة الأهلية ، ولما كان انيس صديقا حميما لوالد فتحي رضوان فقد ألحق بها نجله تشجيعا لصديقه، وكان ناظر المدرسة محمود أنيس ينتهز كل عام فرصة نهاية العام الدراسي فيقيم حفلا وطنيا كبيرا ويخطب فيه في الطلبة ويتحدث عن مزايا مصطفى كامل وعن دوره في الحركة الوطنية.
وعندما بدأت ثورة 1919 كان فتحي رضوان في السنة الاولى الابتدائية بمدرسة محمد علي.
إنه ما زال يتذكر ذلك اليوم الذي دخلت فيه اخته المنزل وهي تنشج بالبكاء فسألتها أمها: ماذا حدث؟
فقالت أخته: لقد أهانتني ناظرة المدرسة مسز كارتر الانجليزية .. كم كنت أود أن أصفعها.
فقالت لها أمها: ماذا قالت لك؟
قالت لي انك تلميزة مشاغبة ومن الافضل فصلك لانك تريدين أن تشعلي نار الثورة في المدرسة وانك بذلك تعرضين نفسك للطرد والفصل.
وماذا قلت لها؟
قلت لها.. أن وطني يجئ في المرتبة الأولى وأنه في حاجة إلى جميع مجهوداتنا .. أما أنت .. فاذهبي إلى وطنك واحتفظي بوعيدك ونصائحك لنفسك.
ويقول فتحي رضوان: وراحت انباء الثورة تتواتر إلى سمعي .. اعتقالات في كل مكان .. رصاص .. ثورة .. مدافع .. دماء .. اعتداءات من الانجليز على الارواح البريئة .. قطع خطوط السكة الحديد.
ولكني تعلمت دور الوطنية الاولى من المنزل .. بل من أمي بالذات .. كنت أعود من المدرسة .. فأجدها متجهمة الوجه .. ثائرة الأعصاب .. و في أحد الايام قالت لي أمي: يا فتحي .. ناد اخواتك و تعال.
وعندما عدت بعد لحظات مع شقيقاتي الثلاث ، وجدت أمي تجلس على أحد المقاعد وأمامها سلة كبيرة مغطاة ، وما كادت ترانا حتى قالت: هل أنتم جميعا هنا اجلسوا حولي.
ثم رفعت أمي غطاء السلة وأخرجت منها مجموعة من جريدة اللواء وبدأت تقرأ في صوت مرتفع خطب مصطفى كامل ومقالات مصطفى كامل.
و في إحدى الامسيات عدت إلى المنزل متأخرا فوجدت شقيقاتي وأمي وهن ينتحبن في صوت مسموع وأمامهن جريدة اللواء، وارتعدت لهذا المنظر فقلت في سذاجة: أمي .. ماذا حدث .. هل مات أحد؟
فقالت أمي: أجلس يا بني .. اني اقرأ لشقيقاتك وصف جنازة مصطفى كامل!
وفي المدرسة الابتدائية التقى فتحي رضوان بأحمد حسين .. وقاما بأول نشاط .. فلقد انشآ بالاشتراك مع عباس حلمي – وهو الآن بكباشي بالبوليس – جمعية أطلقوا عليها اسم "نصر الدين الاسلامي" وكانت هذه الجمعية تطبع منشورات وتوزعها على الطلبة وعلى رواد المقاهي تدعو فيها الناس إلى التقوى والولرع والعمل الصالح.
وفي أحد الايام استدعى ناظر المدرسة - وكان اسمه محمد توفيق البرادعي – أعضاء هذه الجمعية وهددهم بالفصل إذا لم يكفوا عن طبع هذه المنشورات، ومن الطريف أن أحمد حسين وفتحي رضوان لم يحاولا أن يدفعا تهمة توزيع المنشورات عن نفسيهما ، بل دافعا عن فكرة الجمعية وعن أهدافها ومراميها .. في الوقت الذي تخلى فيه أعضاء الجمعية عنها و القيا عليهما كل المسئولية. و كان هذا أول اصطدام بين فتحي رضوان والسلطات المختصة بخصوص المنشورات التي تدعو إلى فكرة معينة.
التلميذ الصحفي
وفي مدرسة أسيوط برز فتحي رضوان كصحفي، فقد دعا الطلبة إلى اصدار مجلة للمدرسة على غرار مجلة الخديوية والسعيدية.. فكانت بذلك أول مجلة لمدرسة أقليمية خارج القاهرة.
كما كتب أول مقال له في جريدة اللواء المصري التي كان يصدرها الاستاذ أمين الرافعي عام 1925 وكان المقال حول تنقيح البرامج المدرسية وهو البرنامج الذي وضعه "علي ماهر" وزير المعارف في ذلك الوقت.
وكانت أول محاضرة القاها فتحي رضوان عن داروين ومذهب التطور في جمعية القلم التي كان يرأسها الاستاذ حافظ محمود.
حادث طريف
وقد حدث أثناء هذه المرحلة التي قضاها فتحي رضوان في مدرسة بني سويف أن قام الملك فؤاد بزيارة لمدارس الوجه القبلي .. و كان ضمن برنامج الملك زيارة مدرسة أسيوط. فانتدبت المدرسة فتحي رضوان لالقاء قصيدة عصماء من تأليف الاستاذ علي الجارم مفتش اللغة العربية في ذلك الوقت أمام الملك. وكان مطلع القصيدة:يا مالك ملك القلوب .. فكان خير المالكين.
و كان مقررا في الحفلة أن يزور الملك فؤاد الفصول .. ثم يقف في الشرفة الكبيرة المطلة على فناء المدرسة فيستعرض فرق الالعاب الرياضية والكشافة .. ثم ينزل الدرجات العريضة للشرفة .. وعنئذ يشق فتحي رضوان صفوف طلبة الالعاب الرباضية .. وعلى بعد خمسة أمتار من الملك يلقي القصيدة.
والذي حدث أن زيارة الفصول استغرقت أكثر من الوقت المحدد لها وبدأت الشمس تميل إلى المغيب والملك يستعرض الفرق الرياضية .. فما كادت الالعاب تنتهي حتى أسرع الملك في الخروج.
ولاحظ فتحي رضوان ذلك وكان حريصا على إلقاء القصيدة فخرج يعدو وراء الملك .. وكان من عادته وهو يجري أن يضع يده في جيبه و يخرج منديلا ابيض اللون .. ولكنه في ارتباكه هذه المرة وضع يده في جيبه ولم يخرجها .. فاعتقدت حاشية الملك أن فتحي رضوان يحاول ان يغتال الملك أو انه على الاقل اعتزم القيام بعمل ما.
وصرخ ناظر المدرسة – وكان اذ ذاك الاستاذ محمد رفعت – وقال للمدرسين: ماذا يريد هذه الولد .. امنعوه.
وقبل أن يمنعوه كان الطالب فتحي رضوان على بعد متر واحد من الملك والورقة ترتعش بين إصبعه وهو يقول: يا مالك ملك القلوب ....
مقلب
ومما يذكر أيضا ان الاستاذ لطفي السيد – وكان وزير المعارف وقتئذ – جاء لزيارة المدرسة .. و تفقد الدراسة فيها .. وكان المفروض أن يقف فتحي رضوان بالنيابة عن الطلبة فيلقي قصيدة عصماء كتبها ايضا الاستاذ علي الجارم.
وقبل الزيارة قامت المدرسة باجراء عدة "بروفات" كان يقف فيها فتحي رضوان ويلقي القصيدة مرة ومرتين وثلاث مرات .. وعندما حان موعد الزيارة .. تقدم فتحي رضوان في خطوات جريئة واخرج القصيدة من جيبه .. ولكنه بدلا من ان يقرأها كورها بين اصابعه ورماها على الارض وارتجل كلمة نثرية قال فيها: يا وزير المعارف .. اعلم تماما اننا لا نحتفل بك لانك وزير .. فلقد كنت أول من علمنا أن الوظائف تقليد لا تخليد .. وانما نحتفل بك كصاحب "الجريدة" ورئيس تحريرها .. وانك علمت فيها هيكل ومصطفى عبدالرازق والدكتور طه حسين ومنصور فهمي.
وتستطيع أن تتصور ايها القارئ مدى الرعب الذي بدا على وجه الناظر وهو يستمع إلى طالب في الخامسة عشرة من عمره يخوض في السياسة ويتحدث عن طه حسين وهيكل كانداد و يحكم عليه حكم قاض مجرب!!
وما كاد الحفل ينتهي حتى اقبل لطفي السيد على هذا الطالب الجرئ ووضع يده على كتفيه وقال له : قل لي يا شاطر .. احنا صديقان .. انت ابن مين؟؟!!
والتحق الطالب "المناكف" بكلية الحقوق .. وكانت السنة الأولى التحضيرية في كلية الآداب .. وأراد أن يشبع هوايته الصحفية.. فأجر جريدة اسمها "الصرخة" مع بعض شباب الطليعة في جزب مصر الفتاة وكان فتحي رضوان يكتب فيها قصة مسلسلة اسمها "غيور" تعالج بعض المشاكل النفسية.
ولكن حدث أن اختلف فتحي رضوان مع صاحب الجريدة فامتنع عن اصدارها.
وكم كانت دهشته بالغة عندما تلقى انذارا من صاحب جريدة الصرخة يطلب فيها منه ارسال بقية القصة المسلسلة وإلا فان صاحب الصرخة نفسه سوف يكملها بنفسه و يبدل ابطالها ويشوه معالمها!!
وبدأ فتحي رضوان يخرج من المحيط الجامعي التعيق إلى المحيط الخارجي .. فدعا إلى عقد مؤتمر للطلبة الشرقيين .. يجتمع كل عام في عاصمة إحدى الدول الشرقية وتنظم فيه العاب اوليمبية شرقية.
وسافر فتحي رضوان إلى سوريا والعراق وتركيا وفلسطين .. وحدث أن ألقى محاضرة في الجامعة السورية يدعو فيها إلى فكرته وشرح أهدافها ومراميها .. فرفضت لبنان دخوله وقالت السلطات المختصة ان هذه الدعوة دعوة سياسية وطرد بالقوة.
وعندما عاد فتحي رضوان إلى القاهرة .. نشر بيانا وجهه إلى شباب مصر ودعاهم إلى أن يعملوا على تدعيم زعامة مصر.
وكانت الحكومة القائمة في ذلك الوقت هي حكومة اسماعيل صدقي.
وفهم صدقي أن فتحي رضوان بدعوته إلى تدعيم زعامة مصر إنما يرمي إلى تدعيم زعامة النحاس على مصر!!
فأصدرت الحكومة قرارا بحل المؤتمر وكانت لجنته العليا مكونة من علي ابراهيم رئيسا ومصطفى مشرفة واحمد أمين وعبدالوهاب عزام ومنصور فهمي أعضاء من الاساتذة.
أما الشبان فكانوا مجموعة غريبة من بينهم عبدالقادر الحسيني وموسى الحسيني واسعد طلسي وجميل المسلمي وعبد القهار المذكر ومصطفى الوكيل وعمر الدسوقي وغيرهم.
بدأت حياة فتحي رضوان السياسية مع مشروع القرش .. فالذي حدث أن احمد حسين – صاحب المشروع – قد دعا بعض الذين تعاونوا معه في المشروع من الشبان وعرض عليهم برنامج الحزب فوافقوا عليه .. اما فتحي رضوان فانه رفض التوقيع على هذا البرنامج لانه كان يرى
– مع موافقته على مبادئ الحزب ، وهي خلاصة تجارب طويلة في الحقل المدرسي
– أن مشروع القرش مشروع قومي يستحق ان يستنفد جهود اعضائه بضعة أعوام .. وأنه ليس مشروعا اقتصاديا بحتا .. انما كان ذا أسس أدبية وروحية يتيح للقائمين عليه تنظيم الشباب والخطابة فيهم وتوجيههم .. وبمعنى أصح كان مشروعا بنائيا من الناحية السياسية.
وانه يكفي تقديم مشروعين قوميين ناجحين للرأي العام كمشروع القرش ومؤتمر الشباب العربي ليكونا دعاية حسنة للشباب الواعي الجديد .. وذلك بدلا من صبغ مثل هذه المشروعات بالصبغة الحزبية.
وقد حدث ما توقعه فتحي رضوان .. اذ قام ألوف بحملة شعواء ضد مضروع القرش بدعوى أن القائمين به ذوي اللون الحزبي .. فاستقال احمد حسين ثم استقال من بعده فتحي رضوان.
نشاط جديد
وكان أحمد حسين وفتحي رضوان قد فكرا من قبل في اخراج جريدة .. وكان من رأي فتحي رضوان ان تكون هذه الجريدة أدبية .. أما أحمد حسين فقد رأى أن تكون هذه الجريدة سياسية .. وأخيرا رأى الاثنان ان يوحدا جهودهما في جريدة واحدة وهي "الصرخة" اقرارا لمبدأ التعاون.
ثم ظهر بعد ذلك خلاف جديد في الرأي .. كان أحمد حسين يرى أن سياسة الجريدة يجب أن تتجه نحو مهاجمة الامتيازات الاجنبية التي كانت السبب الاول في بالء الاستعمار .. وكان فتحي رضوان يرى أن الاحتلال هو أصل البلاء .. وأخيرا اتفقا على أن يكتب كل منهما عن وجهة نظره.
وصدرت الجريدة الجديدة وكان اسمها الصرخة .. وفي 13 نوفمبر 1933 وبعد صدور ثلاثة أعداد .. صدرت الصرخة في عدد خاص كان يتضمن حملة شعواء على الاحتلال وعلى الانجليز وأعوان الانجليز وكان أكثر هذه المقالات بقلم أحمد حسين نفسه.
ولم ترق هذه الحملات لرجال الحكومة في ذلك الحين .. فأصدر النائب العام أمرا بالقبض على أحمد حسين وحافظ محمود رئيس التحرير المسئول وفتحي رضوان وأودعوا في قسم الموسكي.
ومن الطريف أن فتحي رضوان عندما سئل عن كاتب هذه المقالات أصر على أنه هو كاتبها .. و عندما سئل أحمد حسين أصر على أنه هم نفسه كاتبها.. فاضطرت النيابة أمام اصرار الاثنين إلى القبض على ثلاثتهم مدة 18 يوما .. وبعد معارضتين افرج عنهم.
ومنذ عام 1937 وحياة فتحي رضوان سلسلة من العواصف.
وكان أول عهده بالاعتقال في جريمة اغتيال .. في نوفمبر 1937 .. عندما قبض على أحد أعضاء مصر الفتاة في شارع عباس بمصر الجديدة بتعمة الشروع في اغتيال النحاس .. فقبضت الحكومة على جميع المنتمين إلى حزب مصر الفتاة.وأمضى فتحي رضوان في سجن الاستئناف شهرين ثم ما لبث أن افرج عنه.
ومما يذكر أن رئيس المحكمة وقتئذ فكر في أن يجدد في الاساليب القضائية ، فكان يرى أن ملف القضية ليس سرا على المحامين والمتهم وحدهم كما جرى التقليد فيما بعد ، بل كان يراه ايضا سرا على قضاة المعارضة .. فكان القضاة يجتمعون في حجرة رئيس المحكمة ويسمعون مرافعات جماعية عن جميع المتهمين ثم يصدر الرئيس بعد ذلك قرارا برفض المعارضة أو بالحبس بالنسبة لجميع المتهمين دفعة واحدة.
وكان عام 1939 هو مفترق الطرق في حياة فتحي رضوان السياسية .. فقد انفصل عن حزب مصر الفتاة انفصالا فعليا .. و أن اتخذ هذا الانفصال شكله الرسمي في عام 1942 .. وكان سبب الاستقالة هو احتجاج فتحي رضوان على أحد تصرفات أحمد حسين.
وتفصيل القصة هو أنه حدث أثناء اعتقال أحمد حسين في عام 1942 ان سمع جزءا من قصة 4 فبراير فهم منها أن النحاس انقذ البلاد من كارثة محققة وانقذ العرش من الاعتداء عليه .. فأرسل خطابين سريين احدهما إلى مصطفى النحاس والآخر إلى مكرم عبيد سكرتير الوفد يثني فيهما على النحاس ويؤيده في موقفه.
وعلى الرغم من سرية الخطابين فقد نشرهما الوفد في جريدة المصري .. ولذلك رأى فتحي رضوان أن يقدم استقالته لأن تصرف أحمد حسين لم يكن يتفق مع حقيقة الموقف في 4 فبراير .. كما انه كان يتنافى مع التقليد الصحيح للأحزاب.
وانحصر بعد ذلك نشاط فتحي رضوان في المحاماة والقضايا السياسية فترافع في قضية المنشورات لمحمود العيسوي وفي قضية مدحت عاصم وهي قضية منشورات ايضا وقضية الشيخ توفيق الملط وهي قضية احراز مواد مدمرة.
وفي عام 1944 انضم إلى الحزب الوطني .. فقد كان من رأي سليمان حافظ ومصطفى مرعي أن يدعما الحزب بعناصر جديدة .. وقد مهدا لهذه الفكرة عند حافظ رمضان الذي ما لبث ان قبل الفكرة وانضم إلى الحزب : فتحي رضوان ونور الدين طراف وحسين ابو زيد وزهير جرانه ومصطفى المنزلاوي وغيرهم ممن كونوا فيما بعد اللجنة العليا للحزب الوطني عندما وجدوا ان مجال التعاون بينهم وبين الجيل القديم ضيق عسير.
ومما يذكر ان هؤلاء السبان لعبوا دورا خطيرا في حياة الحزب الوطني .. فلقد بدأوا بمجرد انضمامهم يغذون فكرة استقالة حافظ رمضان من وزارة أحمد ماهر حتى نجحوا في ذلك بسبب تضارب سياسة هذه الوزارة مع سياسة الحزب الوطني.
فقد حدث عندما عرضت فكرة إعلان الحرب على المحور .. ان اجتمع الحزب وقرر معارضة هذه الفكرة .. وكتب حافظ رمضان استقالته احتجاجا على دخول مصر الحرب .. وسلمها إلى فتحي رضوان .. فقدمها بدوره إلى أحمد ماهر ثم ما لبث ان طبعها في منشورات سرية ووزعها على لجان الحزب الوطني في جميع انحاء مصر!!
الأقدار
وقد لعبت الاقدار دورا عجيبا في حياة فتحي رضوان .. وفي اعتقاله كان كل ما حدث يقع في مصر يعتبر فتحي رضوان مسئولا عنه .. عزيز المصري يهرب بطائرة مع اثنين من الطيارين هما : حسين ذو الفقار وعبدالمنعم عبدالرؤوف فيقبض عليه .. وما كاد يفرج عنه بعد يوم واحد حتى يقبض على عزيز المصري في منزل المثال المعروف عبدالقادر رزق .. وتشاء المصادفات ان يجد البوليس في جيب عبدالقادر خطابا من عزيز المصري باسم فتحي رضوان فيعتقل مرة اخرى .. وما كاد يفرج عنه بعد يومين حتى يأمر الحاكم العسكري باعتقاله للمرة الثالثة ستة أشهر أمضى بعضها في سجن الاجانب والبعض الآخر في معتقل الزيتون.
ويغتال أحمد ماهر في البرلمان .. وتشاء المصادفات أن يكون فتحي رضوان داخل البرلمان .. وتشاء المصادفات ايضا أن يدعوه اسماعيل صدقي مع النائب السعدي عبدالمنعم ابو زيد للانصراف معا والركوب في سيارته فيخرج .. وذلك قبل صدور الاوامر بإغلاق الابواب ومنع جميع الموجودين من مغادرة دار البرلمان بما فيهم كبار الموظفين ورجال البوليس سواء منهم من كان بثيابه العسكرية أو المدنية.
ويعلم وزير الداخلية أن فتحي رضوان في داخل البرلمان .. فيأمر بالقبض عليه وعندما يبحثون عنه داخل البرلمان لا يجدونه فيثبت في يقينهم انه اشترك في الاغتيال وأن اعوانه في الجريمة قد استطاعوا ان يهربوه من البرلمان.
ويقبض على فتحي رضوان في منزله ويستدعيه النائب العام .. وفي داخل الغرفة يجد فتحي رضوان رئيس الوزراء وكبار رجال الأمن وبعض الوزراء .. و يوجه إليه النائب العام السؤال التالي: أين كنت في ذلك اليوم؟
ويقول فتحي رضوان في بساطة : كنت في البرلمان
وتعلوا الدهشة جميع الوجوه .. فقد كانوا يعتقدون أنه سينكر لأنه لا يمكن ان يقامر برأسه إلى هذا الحد ويعتقل فتحي رضوان ثلاثة أشهر.
وتشاء المصادفات مرة أخرى ان يكون وزير العدل حافظ رمضان .
ومرة ثالثة تلعب المصادفات دورا جديدا .. فقد حلت جمعية الاخوان المسلمين في ديسمبر 1948 ووقف الحزب الوطني يعارض في اجراء الحل ويعتبره اجراء غير دستوري .. ويحاول طبع هذا البيان فتصادره الرقابة .. وتشاء المصادفات ان يتخذ حسن البنا من مكتب فتحي رضوان مكانا مختارا يأتي إليه كل ليلية و ان يكون للاخوان المسلمين يد في اغتيال النقراشي .
وتقبض الحكومة على الاخوان المسلمين وتضعهم في المعتقالت .. وتشاء المصادفات ان يهرب بعضهم عبر حدود مصر إلى ليبيا .. ويكون بينهم أحد الاخوان واسمه محمد الشربيني.
و يلتقي رئيس الوزراء بمصطفى مرعي فيقول له : اننا مضطرون للقبض على فتحي رضوان .. فقد ضبطنا مكالمة تليفونية بينه وبين ذلك الهارب الذي يدعي الشربيني.
ومرة أخرى تشاء المصادفات ان يكون لفتحي رضوان في مكتبه وكيل اسمه الشربيني.
وبعد
و بعد .. ان الشاب الثائر الذي كانوا في الماضي القريب يدفعون به إلى أعماق المعتقل ليبعدوا نار ثورته عن هشيم الرأي العام يتربع اليوم على مقعد وزارة الدعاية في وزارة الثورة
- المصدر :قصة الغلاف : مبادئ مصطفى كامل osama mourad