فريضة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فريضة

بقلم / الإمام حسن البنا

﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).

هذه الرسائل السماوية هي مشاعل الهداية الربانية، حملها الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- إلى البشر؛ ليُنيروا للإنسانية الضالة التائهة طريقَها المظلم الموحش في بيداء الحياة، حين تلتبس عليها المسالك، وتشتبه أمامها الطرائق، ويعجز هذا البصيص من ضوء العقل ونور الفطرة عن أن يهديها سواء السبيل ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ (المائدة: 46)، ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الذي لَهُ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ﴾ (الشورى: 52- 53).

وإن هذه الشرائع السماوية والهداية الربانية لتشترك وتتشابه في أصولها الإصلاحية، التي جعلتها أساسًا للحياة الإنسانية الصالحة؛ من معرفة الله، والإيمان بالجزاء، والسمو بالنفس، والاعتزاز بالأخوَّة بين بني الإنسان، وتقديرٍ لمعاني الخير والشر؛ ليقبل الجميع على ما ينفعهم ويفيدهم، ويتجنَّبوا ما يؤذيهم ويضرهم، وليس في الشرائع السماوية ولا في قواعد الحياة الإنسانية الصالحة وراء ذلك مثقال ذرة من خردل ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13).

وإن الوسائل العملية لَتتشابه في كثير من الشرائع السماوية وتتقارب، وإن اختلفت الكيفيات والمظاهر؛ فالصلاة والصوم والذكر والتلاوة والإحسان والصدقة هي جميعها من وسائل التطهر، ومظاهر التدين في شريعة الله جميعًا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

وحين تواجه الشرائع السماوية الناس بتكاليفها العبادية، وفرائضها الدينية لا تقصد من وراء ذلك إرهاقًا ولا عنتًا، ولا تخالففيهم فطرةً طبيعيةً، ولا تصادم ضرورةً إنسانيةً أو اجتماعيةً أو فرديةً؛ بل هي إنما تقصد إلى تثبيت المعاني الروحية العليا في النفوس، وترمز إلى أسمى المشاعر والعواطف والأحاسيس، التي لا تستقيم بدونها حياةٌ بسواها، وتقيم من رقابة الناس لله، ورقابة الله على الناس، الديدبان (الرقيب) الحارس اليقظ، والدليل الخريت (الخريت: الماهر الذي يهتدي لأخراتِ المفاوز، وهي طرقها الخفية ومضايقها، انظر: لسان العرب 2/30) الفطن، الذي يكفهم عن نوازع السوء، ويقودهم إلى أهداف الحق والسلام.

وهذا الصوم الذي يطالعنا الليلة هلاله ﴿فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185) فريضة ربانية محكمة، يُقصَد بها وجه الله، ويُبتَغَى بها رضاه، "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به" (صحيح الإمام البخاري، كتاب الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم؟: 2/673 رقم 1805، وصحيح الإمام مسلم، كتاب الصوم، باب فضل الصيام: 2/807 رقم 1151).

وقد اختار صاحب الشريعة له هذا الشهر من العام أيامًا معدودات، وامتحن به الناس في ألصق الشهوات بنفوسهم، وألزم الضروريات لحياتهم، وأعنف الغرائز والعادات سلطانًا عليهم، فكفَّهم عن الطعام والشراب وما إليهما أكثر يومهم، ولم يجعل عليهم في ذلك رقيبًا إلا أنفسهم ومن إيمانهم باطلاع الله عليهم، وأيّ تربية للإرادة القوية والعزيمة الماضية أنفذ من هذه التربية؟! وأية وقاية أدق وأوفى من هذه الرقابة؟ ولأمر ما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك في قول الله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

وحسب المؤمن أن يتدرَّب تدريبًا عمليًّا على قوة الإرادة، ومضاء العزيمة؛ ليكون عضوًا نافعًا في الحياة، وإنسانًا صالحًا في المجتمع؛ فإنما يؤتَى الناس أكثر ما يؤتون من ضعف النفوس، ورخاوة العزائم، وانحلال الإرادات، والتقيُّد بقيود الوهم، والوقوف عند رسوم العادات، ويوم يتحرَّر الإنسان من قيد وهمه، وسلطان عادته ويملك أمر نفسه، يكون قد ملك بذلك كل شيء.

وإن لرمضان وفريضته، وإن لأيامه ولياليه وساعاته- وقد فضلها الله تبارك وتعالى، وكتب لها المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة- ما تُضاعَف به حسنات المحسنين، وتُفتح به أبواب القبول للمذنبين الخاطئين، متى تعرضوا لفيض فضل الله- تبارك وتعالى- على عباده في هذه الساعات المباركات.. حقًّا يجب ألا نغفل عنه، وألا نتهاون به، أو نتساهل فيه؛ فإنها والله فرصة لا تتاح إلا في العام مرةً، ومن يدري أين هو غدًا؟ والآجال والأقدار بيد الله العلي الكبير.

فيا أيها المسلمون..

أدُّوا فريضة هذا الشهر كاملةً غير منقوصة بالصوم والصون معًا؛ فلا تجرؤوا على معصية الله بالإفطار سرًّا أو جهرًا، ولا تبطلوا صومكم باللهو والعبث والإثم والعصيان، وتحرَّروا منهما معًا، وكم يكون جميلاً لو أن الحكومات الإسلامية جعلت مادةً صريحةً من مواد العقوبات في قانونها مؤاخذة هؤلاء المفطرين علنًا في رمضان بالعقوبة الرادعة الزاجرة.

وليذكر هؤلاء المفطِرون بحجَّة شدة الحر والنصب، وعدم القدرة على احتمال الصوم والتعب.. أن نار جهنم أشدُّ حرًّا لو كانوا يفقهون، وأن أهوال القيامة أطول عناءً وتعبًا لو يتفكرون؛ فليصبروا على قليل له انتهاء؛ حتى لا يحق عليهم القول بعذاب بئيس، لا يُفتَّر عنهم وهم فيه مبلسون، وإن لهم بعد ذلك- إن امتثلوا أمر الله تبارك وتعالى وبادروا إلى طاعته- أن يعينهم عليها، وييسِّر عليهم السبيل إليها في الدنيا، وأن يجزل لهم المثوبة في الآخرة؛ فإن الأجر على قدر المشقة، ولقد كان بعض الصالحين يتحرَّى اليوم الشديد الحر فيصومه تطوعًا، فيقال له: "هلاَّ تخيرت يومًا أقل من هذا عناءً؟"، فيقول: "يا سبحان الله! وعلام أستحق المثوبة إذن؟!"، وليذكروا قول الله تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).