زوجة مُعتَقَل ومديرة مصنع!!
[19-09-2004]
حوار: عبد الرحمن هاشم
مقدمة
أنصح كل زوجة رجل أعمال متدين بأن تتعلم منه العمل تحسبًا لأي ظروف!!
على الزوجة التي يُعتقل زوجها الصبر والاحتساب وكثرة الاستغفار
يومي يبدأ مع صلاة الفجر وينتهي في الواحدة صباحًا!!
قدوتي زوجة "البس" التي اعتُقِل زوجُها طوال أيام عبد الناصر فصبرت
اعتُقل زوجها ظلمًا وعدوانًا قبل أيام، فاستطاعت أن تدير العمل في غيابه بنجاح، أما طبيعة العمل فهي إدارة مصنع رخام وجرانيت.. إنها "منال أبو الفتح عبادة" زوجة الأخ المعتقَل حمزة صبري، التي تعطي نموذجًا طيبًا للمرأة العاملة، وصورةً مشرفةً لربة الأسرة الفاضلة؛ إذ أيقنت بسموِّ رسالتها تجاه أسرتها، واتخذت من الصبر منهجًا لغايتها، ومن الإخلاص سلوكًا وعنونًا لحياتها.
وبرغم الفترات التي يغيب عنها زوجُها أو يُغيَّب قسرًا وراء الأسوار فإنها تنزل إلى العمل والأمل يملأ كيانها لتدير مصنع زوجها، وبفضائل الإسلام كانت معاملاتُها داخل المصنع مع العمال والعملاء، وبأخلاقيات الأخت المسلمة الملتزمة اخترقت مجال عمل يصعُب على المرأة اختراقه، واكتسبت تقدير الجميع لها، لدورها في إدارة العمل برغم غياب زوجها؛ ولأنها كانت ولا تزال الأم التي تخفف عن أبنائها متاعب الحياة اليومية، فكان عليها أن تقوم مقام الأب ولا تنسى دورها مع أبنائها؛ حتى يعود زوجها المجاهد فيواصل الطريق إلى بر الأمان.
نص الحوار
- بدايةً : نريد أن نتعرف على نشأتك ؟
- نشأت في أسرة متوسطة الحال.. ستة أولاد وأم في غياب أب تُوفِّي وعندي 8 سنوات، وواصلت أمي مرحلةَ الكفاح إلى أن تخرجنا كلنا في الجامعات وتزوَّجنا، وأسرتي كانت أسرةً ملتزمةً، وأمنا كانت مؤمنةً صبورةً، وكانت تربيتها لنا بها نوع من الشدة الحانية، فكان لها أثر كبير في استقامتنا، وتعلمت على يد أخي الأكبر الالتزام.
البداية مع الحج
- متى ظهرت ملكة الإدارة لديك؟ ومن صاحب الفضل في تكوينها ؟
- لم أكن أتصور ما أنا فيه الآن، فقد كنت أحلم بأن أكون طبيبة، لكن مكتب التنسيق لم يوفِّ بحلمي، ودرجاتي كانت تؤهلني لدخول كلية الإعلام، لكن ميولي لم تكن للدراسات الأدبية، برغم أنني أحب القراءة والكتابة، فقررت دخول كلية عملية هي كلية العلوم (قسم جولوجيا)، وتخرجت فيها بتقدير عام جيد، وسرعان ما تزوجت واتفقت مع زوجي على أن أكون زوجةً وأمًا فقط.
- لكن واقع الحياة جعل زوجي يشجعني على الذهاب معه في سفرياته، فأحضر الصفقات والاتفاقيات مع العملاء، وكانت هذه البداية، وجاءتني فرص كثيرة للعمل لكن فضلت تربيةَ أبنائي، خاصةً أنهم صغار، أحوج ما يكونون إلى حضانة الأم، وثبت أن السنوات الأولى للأطفال هي الفترة التي يكتسبون فيها 92% من قيم الحياة، أي أهم فترة في التربية؛ لذا تفرغت فيها لأولادي، وبعد أن كبروا وتجاوزوا السنوات الست طلب مني زوجي أن أنزل إلى المصنع، وكان ذلك في عام 1997م.
- وفي عام 1999م ذهب زوجي حمزة صبري حمزة لأداء فريضة الحج، وأدرْت العمل لأول مرة بمفردي، كأن الله عز وجل يريد أن أتدرب في هذه الفترة لكي أتحمل المسئولية في فترات اعتقال زوجي، فقد اعتُقل في انتخابات مجلس الشعب عام 2000م لمدة شهرَين ونصف الشهر، واستطعت أن أدير العمل في غيابه، وطبيعة العمل صعبة، فهو مصنع رخام وجرانيت وبلاط، وأغلب المعاملة تكون مع السائقين والصنايعية وحتى العملاء هم تجار شغَّالين في السوق، فالمعاملة من امرأة لهؤلاء تكون صعبةً جدًّا، لكن بفضل الله وبفضل الدعاء وقراءة القرآن وصلاة الحاجة وفقني الله لأواصل العمل وإدارته بمفردي، وتعلمت قيادة السيارة وأصبحت خبرتي في الحياة أفضل من الأول.
الاعتقال الأول
- كيف واجهت أزمة اعتقال زوجك ؟
- في الاعتقال الأول سنة 2000م كنت أقول لنفسي ولزوجي قبل مداهمة منزلنا ليلاً إنني سوف أنهار لو حدث لك اعتقال، ولو وجدت رجال الأمن وهم يأخذونك من بيننا سأكون في حالة ذهول.. لكن جاء الأمر على غير ما كنت أظن.
- فحينما جاءوا ليعتقلوا زوجي في المرتين الأولى سنة 2000م والثانية في 10 مايو 2004م أسرعت للبلكونة وصرخت في الناس أن الحقونا بيعتقلوا حمزة!! وكان رد فعل الناس والجيران في المرة الثانية أفضل بكثير من المرة الأولى فتجمَّع الجميع أسفل المنزل وكوَّنوا شبه مظاهرة بل مظاهرة كاملة، استخدم فيها الطوب والدعاء: "حسبنا الله ونعم الوكيل"..
- وظلت سيارات الشرطة تقذفها حجارة الجيران والأطفال إلى أن غابت عن الأنظار.. وكان رد فعل أولادي إيجابيًّا هو الآخر فكانت كلمة: "حسبنا الله ونعم الوكيل" ترجُّ أرجاء البيت بل الشارع كله، وقالت لي جارة إنها وهي تسمع هذه الكلمة مني ومن أولادي تحس أن العمارة كلها تهتز!!
- أذكر أن الشرطي وضع الرشاش في جانب ابنتي فنهرته بشدة وأجبرته على الخروج من المنزل، وكذلك ابنتي الكبرى وجدت أحد الضباط يخرج سيجارة ويضعها في فمه، فأخذتها منه وقالت له: النجاسة دي مش في بيتنا.. اتفضل اعملها برة.. أحمد ابني طلع في البلكونة يردد أمام الناس: "حسبنا الله ونعم والوكيل".. بيتنا امتلأ بالجيران، خاصةً السيدات لدرجة أن الضابط الذي يفتش في المكتبة صرخ، وقال اطلعوا برة مش عارفين نشوف شغلنا، فقالت له ابنتي آلاء: "اطلع أنت برة.. أنت ضيف غير مرغوب فيك"!!
- ووقفتُ أمام أحد الضباط وقلت له: "حسبنا الله ونعم الوكيل فيك وفي عيالك.. يا رب اللي بتعمله يقعد لك ولعيالك"، فبكى ونزل من الشقة ووقف يدخن سيجارة في الشارع.
- وأحد الضباط لما خرج في البلكونة ووجد العدد الهائل من الجيران أصابه الذهول، وقال أطفئوا النور، ونزلوا بحمزة والنور منطفئ، والأهل والجيران والأطفال والشباب الكل يجري وراء سياراتهم بالطوب والحجارة ويقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
- فالخلاصة أننا واجهنا جريمةَ القبض على زوجي بالصُّمود والتحدي، والذي أعجبني هو إيجابية الناس، ووقوفهم بجوارنا أثناء مداهمة المنزل والقبض على عائله.
- بعد ذلك بدأنا نعايش الواقع فإذا سألني ابني معتز (سنة ونصف السنة) أين بابا؟! أقول له بابا في سجن طرة، فيقول لي: عاوز أروح لبابا في سجن طرة.. وأحيانًا أذهب به لزيارة والده، وحوَّلنا يوم الزيارة إلى يوم اجتماعي ترفيهي نحن وزوجات باقي المعتقَلين مع حمزة، نقضي اليوم هناك ومعنا المأكولات والمشروبات ونشاركهم أحيانًا في حفلات النجاح وحفلات السبوع؛ حيث أنجبت زوجة أحدهم فقاموا بعمل حفلة سبوع للمولود الجديد، فهم تكيَّفوا مع واقعهم داخل السجن، ونحن تكيَّفنا مع هذا الواقع حتى يأذن الله بفرجٍ من عنده.
- ما الذي دفعك للقيام بأمور وأعباء المصنع ؟!
- إيماني بأنني على حق، وأن زوجي على حق ولم نظلم أحدًا، فكان من الطبيعي أن نمارس حياتنا ونمشي في مصالحنا، خاصةً أن المصنع يفتح بيوت 40 أسرة و3 سائقين، هذا غير الإداريين وغير الأفرع التي لنا في البلاد الأخرى.. فيستحيل أن أقعد وأشرد هؤلاء؛ ولأن هذا في الأساس هدفُ من يعتقل زوجي، لدرجة أنهم حاولوا تشميع المصنع وإغلاقه، لولا رحمة الله علينا أنا وأولادي، وظللنا نبيت في المصنع وكذلك أهل زوجي خوفًا من الهجوم عليه.
يومي وصعوباته
- متى يبدأ يومك؟ ومتى ينتهي ؟
- يبدأ يومي من صلاة الفجر وبعد الصلاة أرتاح قليلاً، ثم أستيقظ في الثامنة لأعد الإفطار للأولاد، وأنزل للمصنع في التاسعة والنصف، وأظل فيه لصلاة العصر، ثم أطلع لأتغذي أنا والأولاد، وأنزل مرةً ثانيةً بعد المغرب، وللعلم المنزل أعلى المصنع، وأحيانًا أظل في المصنع حسب العمل إلى الحادية عشرة مساءً، ثم أطلع أجلس مع الأولاد وأنام في الواحدة صباحًا.
- ما أهم الصعوبات التي واجهتك وأنت في هذا العمل ؟!
- صعوبات المعاملة مع المصالح الحكومية والروتين الموجود، وكذلك بعض العمال في المصنع الذين لم يعتادوا على إدارة المرأة، وصعوبة استرداد الأموال المتبقية عند بعض العملاء، وبرغم أنني استطعت أن أسترد أموال للمصنع عند العملاء منذ سنوات لم يستطع حمزة استردادها، برغم كل ذلك نحاول الصبر، وأن نعامل الناس بالسلوك الإسلامي ما استطعنا والتغلب به على كثير من الصعوبات.
- هل بعد خروج زوجك ستواصلين العمل في المصنع ؟!
- ولمَ لا، الأولاد الآن كبروا، وطالما احتاج العمل إليَّ فسوف ألبِّي، بل أنصح كل زوجة رجل أعمال متدين وملتزم في هذا الزمان أن تتعلم منه العمل تحسُّبًا لأي ظروف!!
- وهل كنت تشاورين زوجك حين تقف أمامك مشكلة ما ؟
- أحاول أن لا أحمله شيئًا من أعباء الخارج، فيكفي عليهم ما هم فيه، حتى وهو يسألني عن مجريات العمل أقول له كل الأمور على خير حال، "بس خليك أنت فيما أنت فيه، ولا تشغل بالك، والحمد لله الأمور تسير على ما يرام".
نصائح وآمال
- الأخوَّة الحقيقية تظهر عند الشدائد.. فهل لاحظتِ تقصيرًا في هذا الجانب من قِبل أصدقاء وأصحاب زوجك، خاصةً في محنتكم هذه؟
- في البداية الكل كان يتصل بنا، ويتعاطف معنا، ويمد يد المساعدة لنا، لكنني في الحقيقة كنت أرفض وأبلغهم بأن الشغل- إن شاء الله- سيستمر، ولكل واحد مشاغله وارتباطاته الخاصة به، فلم أحب أن أشغل أحدًا معي حتى أهل زوجي.. وبعض الأصدقاء لا يزالون يتصلون بنا والبعض الآخر شغلته مشاغل الحياة.
- ما آمالك في الأيام المقبلة ؟
- أنا عندي أمل كبير في الله، وأرجوه أن يفرج الكرب، ويفك أسر المأسورين، ويحسن خلاصهم، وأملي كذلك أن شغلنا يكبر ويتسع وينجح، وهناك بوادر خير هلَّت نسماتُها علينا في هذه المحنة، وهي أن أحمد ابني الأكبر أخذ الأمر بجدية، ويقف معي طول اليوم في المصنع، ولم أكن أتصور أنه سيكون كذلك، فهذه المحنة بالنسبة له منحةٌ، وكذلك بناتي تركن المشاجرات التي كانت يوميةً بينهن واتجهْن لأخيهن الصغير (معتز) يعتنون به، خاصةً في أوقات عملي بالمصنع.
- متى تخرج المرأة المتزوجة للعمل ؟
- إذا احتاجت إلى العمل، أو احتاج إليها العمل، ويا حبَّذا بعد أن يتجاوز أطفالها سن الست سنوات؛ لأنهم قبل ذلك في أشد الحاجة إليها، فلا أؤمن بالحضانات ولا بالجدة، بل الأم هي التي يجب أن تربي وتغرس القيم في نفوس أولادها بيدها.
- ما نصيحتك لزوجات المغيبين خلف الأسوار ؟
- الصبر ثم الصبر ثم الصبر، والاحتساب عند الله، وكثرة استغفاره وذكره؛ مصداقًا لحديث الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب".
- "منال أبو الفتح عبادة" الأم، والزوجة العاملة.. ما حظ أقاربك وصلة الرحم منك ؟
- على قدر المستطاع أحاول أن أزور أقارب وأهل زوجي، وإن لم أستطع بنفسي أرسلت أولادي، وأحاول كذلك الترويح عن أولادي بالخروج للتنزه في الحدائق والتجمع على غذاء أو عشاء خارج المنزل، كما كان يفعل معهم والدهم.
- من مثلك وقدوتك التي تعتزين بها ؟
- زوجة الحاج أحمد البس- رحمها الله- فقد كانت قريبةً من قلبي، وكان زوجي يصحب زوجها باستمرار في سيارته، وهي قدوتي في الصبر والتحمل، فقد غاب عنها زوجها طوال أيام عبد الناصر، وصبرت واحتسبت وربَّت أولادها على خير وجه، وكذلك زوجة الأستاذ علي لبن- حفظها وحفظه الله- نعم الزوجة ونعم الزوج، وقبل كل ذلك أمهات المؤمنين زوجات النبي، خاصةً السيدة خديجة التي تحمَّلت سجن النبي في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات، فكانت خير المعينة، وخير الزوجة المواسية والمؤازرة، جمعني الله بها في جنته.. آمين.
المصدر
المصدر : إخوان أون لاين