الحج: رحلة في ظلال التوحيد
16-01-2005
بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب*

أمام أعيننا هذه الأيام أمة واحدة يجمعها الإسلام من شتى بقاع الأرض في صعيد واحد، حول بيت الله، أسرعَتْ شوقًا إلى ربها وطمعًا في رحمته، وهي تزيد عن المليونين.
وحين نرى ذلك لا نملك إلا أن نتساءل هل هو بُعيد ذلك اليوم الموعود، الذي ستنهض فيه هذه الأمة وتأخذ وضعها بين أمم الأرض..؟ إنه يومٌ حتميٌ وضروريٌ مهما بدا اليوم على السطح من معوقات وحواجز، ومهما طالت الليالي، فهذا الحشد الضخم حول بيت الله يطوف بالكعبة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويسارع إلى منى، ويقف بعرفات، يرفع الأكفَّ، والألسنةُ تلهجُ بالدعاء، والعيون تفيضُ بالدموع، والقلوب تهتز خوفًا من الله- عز وجل.
لا بد أن يستقر في نفسك- وأنت تشاهد كل هذا- أنَّ الحج يحيي الآمال في المستقبل القريب بعودة هذه الأمة إلى موضع الريادة والسيادة، وأنها عائدةٌ إلى ربها، ملتزمةٌ بشرعه، عاملةٌ بكتابه، وأن الظلم والظلام والظلمات- التي يُحاول الأعداء أن يفرضوها عليها- ما هي إلا زبد.. دائمًا يذهب جفاءً.. وأما ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
الإخلاص
ماذا يجب أن يكون عليه الحاج..؟ يقول الحق سبحانه وتعالى "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ" (البقرة: 196).. إنَّ تجريد القلب من كل دخيل، وإخلاص النية من كل خاطر سوء أمور حتمية لإقامة هذه الفريضة على أصدق أسس التوحيد والعبودية لله، وهذه الجوانب مطلوبة من الحاج منذ انبعاث الهمة إلى ما أراد الله لعبده المؤمن من كرامة؛ حتى ينتهي من كل المناسك والشعائر، ولا يفهم من هذا أنه يباح للمسلم أن يترك هذه الدروع التي تحميه وتحفظه من شياطين الجن والإنس بعد فراغه من أداء نسكه، فإنَّ التجرد والإخلاص لله عزيمة المؤمنين في كل وقت، بل في كل لحظة.. قال الله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر: 99).
لكن إذا كانت زيارة بيت الله معناها أن ينسلخ المرء من دنياه ظاهرًا وباطنًا، ويقبل على سيده ومولاه وليس في قلبه مثقال ذرة منها، ولأمر ما لا يدخل الحاج على الله في بيته إلا وقد تجرَّد حتى من ثيابه، فأولى أن تنصرف الهمة لتجريد القلب إلا من لباس التقوى.
وفي الحرَم وفي جوار البيت الشريف فإنَّ الحق سبحانه أغير مَن أن يترك عباده يدعون صدورهم وقلوبهم وعقولهم ميدانًا لما يلقي الشيطان من خواطر الإثم، فأنذرهم- سبحانه وتعالى- أن مثلهم في هذا الجوار المقدس غير شأنهم في أي مكان آخر على ظهر الأرض، وأنَّ كلَّ همٍّ أو إرادة سوءٍ تخطرُ على بالهم سيعاقب الله عليها أشد العقاب، يقول سبحانه وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" (الحج: 25).
والإلحاد هنا ليس معناه الشرك والزيغ عن العقيدة الصالحة، وإنما معناه الميل على لون من ألوان الإثم، ومجرد الهم والإرادة في هذا الميل يُوجب لصاحبه عذاب جهنم، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ومن هنا كان عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- يفرُّ من مكة ويقيم بالطائف، ويقول: مَن لنا بأداء حق الإقامة في بيت الله الحرام، وهو الذي يقول: "..رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (المؤمنون: 100،99).
إنَّ هذا البيت الحرام منطقة الأمن والأمان، في الزمان والمكان، إنها منطقة السلم والسلام، إنها منطقة المران للنفس البشرية لتصفو وترقَى فتتصل بالملأ الأعلى، ألا ما أحوجَ البشريةَ المتصارعةَ إلى جُرعة روحية من منطقة الأمان، ترد إليها وعيَها وحريتَها وكرامتَها وحقيقتَها.
وجميع العبادات في الإسلام هي في الحقيقة أمورٌ تعبدية فرضها الله على عباده، وهم يؤدونها امتثالاً وطاعةً وعبوديةً لله- عز وجل- جاء في الأثر: "يا عبادي إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستعين بكم على دفع أمر عجزتُ عن دفعه، ولكني خلقتكم لتعبدوني طويلاً، وتذكروني كثيرًا، وتسبحوني بكرة وأصيلاً"، لكنَّ حكمة العليم الخبير اقتضت ألا تخلوَ من مقاصد ومنافع، هي ممارسة عملية لمبادئ الإسلام وأهدافه؛ تثبيتًا لقواعده، وتدريبًا للمؤمنين على الاستجابة لأمر مولاهم، مهما كلَّفهم ذلك من جُهْدٍ ومَالٍ.
والحج ينطوي على مقاصدَ نبيلةٍ، ومنافعَ عظيمةٍ، وتوسيع لآفاق المسلمين.. يقول المولى سبحانه وتعالى: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" (الحج: 27-28).
لذلك يُعتبر هذا اللقاء في موسم الحج- الذي يلتقي فيه المسلمون على اختلاف شعوبهم وألوانهم وأجناسهم وتباعد ديارهم وأقطارهم- مؤتمرًا إسلاميًا عالميًا، يجب على جميع أفراده أن يتعارفوا ويتعاونوا ويتشاورا، وينظروا في مشكلاتهم، ويفصلوا في قضاياهم، ويتبادلوا الآراء، والأفكار فيما يُحيط بهم.
أولاً: مع أهل الرباط
يا حجاج بيت الله.. يا أيها المسلمون في كل مكان.. إنَّ من أول الأمور التي يجب أن نعيش فيها يجب أن يرتفع المسلمون جميعًا إلى مستوى الأحداث الخطيرة التي تمر بالعالم العربي والإسلامي، فالمؤامرات والعدوان، ومحاولات طمس العقيدة، ومحاولات تغييب الهوية وتمزيق الأمة.. يحتاج منا جميعًا إلى استعداد وإعداد، وطريق الجهاد أصبح هو الطريق الوحيد الضروري لردع الظالمين ودفع العدوان، والجهاد أبعد مدى وأوسع دائرةً من القتال بالسيف، قال رجل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله.. ما الإسلام؟ قال: "أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان: قال وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال الهجرة، قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال فأي الهجرة أفضل؟ قال الجهاد، قال وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عُقر جوادُه، وأهريق دمه".
فاذكروا في صباحكم ومسائكم أهل الرباط والجهاد في الأرض المقدسة، اذكروا حماة الأقصى وجند الإسلام في كل مدينة وفي كل قرية، وفي غزة، وفي يافا والرملة، في حيفا وعكا، اذكروا الرجال في كل مخيم، وأكثِروا من الدعاء لهم والبذل لهم والدفاع عنهم، في سجودكم وصباحكم ومسائكم.. اذكروا أن الحق- تبارك وتعالى- وضعكم في مرتبة عالية، وأثنى عليكم فقال: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110)، ويقول تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة: 143).
ثانيًا: اذكروا- وأنتم في رحاب الله- الشباب المؤمن الذي يدافع عن أرضه أرض الإسلام في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان، وفي كل أرض إسلامية، يدافعون عن دينهم وأعراضهم وأمتهم، من قُتل منهم فهو شهيد حقًا، بذلوا أرواحهم وهم راضون في سبيل الله، ما دامت نياتهم خالصةً لله، وما داموا مضطرين لهذا العمل، فلا بد من وقفةٍ صامدةٍ أمام أعداء الله المعتدين المصرين على عداوتهم، المغرورين بقوتهم وبمساندة القوى الكبرى الظالمة لهم.
ثالثًا: اذكروا في هذه الأيام الأبطال الشهداء الأبرار
والحق أنَّ إطلاق كلمة "انتحار" على جهاد هؤلاء الأبطال خطأ جسيم وضلال كبير، وجرأة على الله ورسوله؛ فإنَّ الذي يقوم بالدفاع عن عرضه وماله وأهله ودينه بطل فدائي وشهيد عظيم.. إنسان كله أمل في رحمة الله، وهذا المجاهد أصبح عقبةً لأعداء الله ورسوله.. جعل الطغاة والبغاة من الصهاينة يقفون عاجزين أمام هؤلاء الأبطال، الذين باعوا أنفسهم لله، ووضعوا رءوسهم على أكفهم وابتغوا الشهادة في سبيل الله.
رابعًا: يحلو للبعض من القاعدين أن يردد كدليل على أن جهاد الشهداء باطل "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة: 195).. والحق أن ما ذكره الفقهاء والعلماء في معنى الآية يختلف تمامًا عن هذا الفهم: يقول الإمام الجصاص في أحكام القرآن: عن يزيد أبي حبيب عن أسلم أبي عمر أنه قال: غزَونا بالقسطنطينية- وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد- والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس مه مه، لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري- رضي الله عنه-: "إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر دين الإسلام، قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، فأنزل الله تعالى:"وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195) فالآية تحذير للقاعدين والمتساقطين على الطريق مَن ترك الجهاد في سبيل الله.
خامسًا: فضل هذه الأيام ومنزلة الأعمال الصالحة فيها:
عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة. فقال رجل: هن أفضل أم عدتهن جهادًا في سبيل الله؟! قال: هن أفضل من عدتهن جهادًا في سبيل الله".
- عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين، ومن علماء الأزهر الشريف.