التغيير السياسي عند المودودي 4/5
بقلم: محمد سليمان
مقدمة
من هذا المنطلق يمكن إدراك المفارقة بين أفكاره وممارسته الأولى التي كانت أقرب إلى العزلة ومفاصلة الحياة السياسية ( تجربة الاعتكاف في دار الإسلام مثالا ) وأفكاره وممارسته السياسية اللاحقة الأقرب إلى التعايش مع قواعد الحياة السياسية ( ترشيح امرأة لمنصب الرئاسة، التحالف مع الأحزاب العلمانية )، ويمكن من خلال هذه الملاحظات إدراك بصمات الواقع على تفكير الرجل، والذي كان يسير في خط بياني صاعد نحو المرونة.
لقد نظر المودودي إلى التغيير السياسي على أنه تابع للتغيير أو الانقلاب الاجتماعي، وأن على الحركة الإسلامية العمل على بناء المجتمع قبل أن تبني السلطة، فالسلطة هي انعكاس لحالة المجتمع ، ولا سلطة إسلامية بلا مجتمع إسلامي .
لكن السؤال الذي أنهينا به الجزء السابق هو: كيف ينظر المودودي إلى عملية إقامة السلطة الإسلامية؛ بمعنى الانتقال من التغيير الاجتماعي إلى إقامة الدولة الإسلامية؟ فهل يقبل المودودي بالديمقراطية والانتخابات أم أنه يرفضها؟، وما هو موقف المودودي من العمل المسلح والتنظيمات السرية ؟ وهل يقبل المودودي التحالف مع الأحزاب العلمانية في إدارة الصراع الداخلي ؟ ..
لعل الأسئلة السابقة هي أبرز الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في هذا الجزء من خلال وضع السمات العامة الرئيسة - التي يمكن استخلاصها من كتابات المودودي - لمنهج التغيير وإقامة الدولة الإسلامية:
1-تغيير تابع:
إن التغيير السياسي يكون بعد الانقلاب الاجتماعي؛ فالمسلمون في هذه الحالة الحضارية عاجزون عن الوفاء بعوائد واستحقاقات الدولة الإسلامية، فهم يجمعون بين صفوفهم البر والفاجر، وعباد الشهوات واللذات، بل إن قضاة المحاكم الجاهلية لا يصلحون أن يكونوا قضاة في الدولة الإسلامية، ولا حتى خدما في محاكمها.
2- تغيير ديمقراطي:
إن إقامة الدولة الإسلامية تكون فقط عن طريق الخيار الديمقراطي، وعن طريق الانتخابات العامة، ولذلك يدعو المودودي الحكام إلى مراجعة أنفسهم وانتهاج الديمقراطية الانتخابية منهجا في الحكم.
وبالضرورة فإن الديمقراطية التي يتحدث عنها ليست الديمقراطية الليبرالية، وإنما هي الديمقراطية الانتخابية التي تفرز الخيار الشعبي المطلوب بمعنى: ما هي هوية الدولة التي يريدها الشعب؟، من هنا يمكن القول: إن المودودي كان ينظر إلى الديمقراطية على أنها الطريق الأفضل لإدارة الصراع الداخلي والفصل بين القوى المتنازعة في كثير من الدول الإسلامية حول هوية الدولة وخياراتها السياسية والاجتماعية، لكنه يميز الدولة الإسلامية على أنها لها سمات مختلفة عن الصورة الديمقراطية السائدة في الغرب، ويرفض تلك الصورة ويعتبرها من الصور الجاهلية.
يقول المودودي : " أما كيف يتأتى هذا التغيير ؟ فليس له من سبيل في نظام ديمقراطي، إلا خوض معارك الانتخابات، وذلك أن نربي الرأي العام في البلاد، ونغير مقياس الناس في انتخابهم لممثليهم، ونصلح طرق الانتخابات ونطهرها من اللصوصية والغش والتزوير، ثم نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين، يحبون أن ينهضوا بنظام البلاد على أسس الإسلام الخالص " ( انظر المودودي ، بين يدي الشباب ، مكتبة الرشد ، الرياض) .
3-تغيير علني وسلمي:
إذا كان المودودي يدعو إلى تبني طريق الانتخابات في الوصول إلى السلطة أو في تغييرها، فإن هذا الخيار يقتصر على العمل ضمن النظم الانتخابية التي تسمح للحركات الإسلامية بالنشاط السياسي والمشاركة في الانتخابات، وحرية التأثير على الرأي العام، لكن كيف يكون التغيير في حالة الأنظمة الاستبدادية أو التي تقف في وجه الحركات الإسلامية وتحول بينها وبين الممارسة السياسية؟
حتى في هذا الإطار يرفض المودودي أيضا اللجوء إلى العمل العسكري والعنف أو القيام بجمعيات سرية، ويدعو الشباب المسلم ويخاطبهم مؤكدا على وجوب العمل العلني السلمي، قائلا: " وأود أن أوجه لكم في الختام نصيحة أن لا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف فذلك لا يجدي شيئا، ومحاولة للوصول إلى الغاية بأقصر الطرق، إن هذا الطريق أسوأ عاقبة وأكثر ضررا من كل صورة أخرى"، ويقول : "أما إذا استعجلتم في الأمر وقمتم بعمل الانقلاب بوسائل العنف، ثم نجحتم في هذا الشأن إلى حد ما، فسيكون مثله مثل الهواء الذي دخل من الباب ليخرج من الشباك".
والبديل الذي يقدمه للشباب بدلا من العمل المسلح والعنف لمواجهة الأنظمة هو الاستمرار في الإصلاح والدعوة والعمل الاجتماعي والمنهج السلمي، حتى وإن اتخذت الحكومات إجراءات قمعية ضدهم، والتحلي بالصبر والهدوء فإن هذا كفيل بجذب قلوب الناس إليهم، وتأكيد لمصداقية خطابهم لدى الرأي العام، مما سيؤدي إلى انضمام الناس إليهم وزيادة القاعدة الإسلامية في المجتمع، وتنامي الضغط على الأنظمة لتفتح المجال أمام العمل السياسي الإسلامي وفي النهاية تبني الشريعة الإسلامية.
4-تغيير أبيض:
إذا كان التغيير السياسي عند المودودي أبيضا وليس أحمرا؛ أي خال من العنف والدماء، فإنه أبيض من ناحية الالتزام بقواعد أخلاقية صارمة تقوم على الصدق والشفافية ورفض أساليب الأحزاب السياسية الأخرى بما تمتاز به من اختلاق الدعايات السياسية وتشويه الخصوم والأعداء السياسيين، فهو يلزم الحركة الإسلامية أن تلتزم دستور الأخلاق في القرآن، وألا تحيد عنه مهما كانت المبررات.
من هذا المنطلق يرفض المودودي منطق "الغاية تبرر الوسيلة"؛ الذي يتبناه نظريا وعمليا أغلب السياسيين الغربيين ، وتنطلق منه الأحزاب السياسية في إدارة حملاتها الانتخابية وصراعاتها الداخلية، يقول : " ولا تردوا الكذب بمثله أبدا ولا تستعملوا سلاح المكر والتضليل والخيانة لكسب المعركة، ولا تتخلوا أبدا عن خصلة الكرم والنبل ضد خصمكم مهما تمادى في الغي وسوء التصرف معكم".
5- مرونة التغيير وتعدد أدواته:
على الرغم من أنه يلزم الحركة الإسلامية بمنهج واضح ومراحل معينة في التغيير - انطلاقا من قراءته وفهمه لمنهج التغيير الذي اتبعه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإلزامية هذا المنهج في نظر المودودي – إلاّ أنه في سياق هذه المراحل يقبل المرونة ومبدأ السعة في الحركة انطلاقا من عدة قواعد فقهية معروفة: لا ضرر ولا ضرار، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، الضرورات تبيح المحظورات..الخ.
ومن الأمثلة العملية التي توضح هذه السمة: تحالف المودودي وحزبه السياسي في الانتخابات مع أخت الرئيس الباكستاني السابق علي جناح ضد الحكم العسكري، بل وترشيحه لها لحكم باكستان، على الرغم من معارضة رؤية المودودي الشرعية لتولي امرأة شؤون السياسة والحكم.
ومن الأمثلة كذلك: قبوله بالتحالف مع العلمانيين من خلال انضمام حزبه إلى "جبهة الدفاع عن باكستان الديمقراطية " والتي تطالب بالحكم الديمقراطي ورفض الحكم العسكري الاستبدادي.
6-التغيير التشريعي / البرلماني:
تقوم رؤيته للتغيير السياسي على الدخول في الانتخابات النيابية، والتي ستؤدي إلى وصول نواب إسلاميين، يعملون على تغيير الدستور وإصدار التشريعات التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
من هذا المنطلق سعى المودودي جاهدا لوضع بند في الدستور الباكستاني ينص على أن الله هو الحاكم الأعلى في دولة باكستان، ثم اجتهد هو وحزبه في تعديل مواد الدستور وصوغ التشريعات والقوانين بما يتلاءم مع هذا البند، على الرغم من الانقلابات العسكرية التي تلت هذا التعديل وتنكر نظام الحكم له فيما بعد عمليا .
ملاحظة منهجية:
لابد من إدراك جدلية الفكر والحركة في دراسة أفكار المودودي، واستدعاء مراحل تطوره الفكري كي نفهم المفارقات الواضحة في تفكيره؛ ومن ذلك الفجوة بين الأسس العقدية الصارمة في العديد من كتاباته الأولى: خاصة المصطلحات الأربعة في القرآن، والإسلام والجاهلية، وبين منهجه في التغيير وتبنيه الوسائل الديمقراطية ورفض العنف في كتاباته الأخيرة.
ويمكن الإجابة على الإشكالية السابقة من خلال القول : أن مفهوم التغيير السياسي عند المودودي يقوم على عقيدة صارمة تحدد أسس التغيير ومنطلقاته وغاياته، ومنهج ومراحل تغيير ثابتة تستند على إدراك معين لمنهج الرسول – صلى الله عليه وسلم في التغيير - ، وعلى خصائص معينة للتغيير لا يجوز مخالفتها، وبالتالي لا تناقض بين الأسس والمراحل والسمات ولكل منها طبيعته .
من ناحية ثانية نجد أن كتابات المودودي الصارمة كانت في المرحلة الأولى من نشاطه الفكري (الثلاثينات والأربعينات والخمسينات ) من القرن المنصرم، بينما كتاباته التي جاءت تدفع إلى المرونة والتعايش مع الحياة السياسية وفق قواعد المصالح والمفاسد جاءت مع دخول حزبه في مرحلة المعترك السياسي.
أي بعد خوض غمار التجربة العملية ووضع الأفكار النظرية على محك الواقع؛ إذ امتازت ممارسة المودودي السياسية وأفكاره المتأخرة بكثير من المرونة التي اكتسبتها من الواقع.
من هذا المنطلق يمكن إدراك المفارقة بين أفكاره وممارسته الأولى التي كانت أقرب إلى العزلة ومفاصلة الحياة السياسية ( تجربة الاعتكاف في دار الإسلام مثالا ) وأفكاره وممارسته السياسية اللاحقة الأقرب إلى التعايش مع قواعد الحياة السياسية ( ترشيح امرأة لمنصب الرئاسة، التحالف مع الأحزاب العلمانية )، ويمكن من خلال هذه الملاحظات إدراك بصمات الواقع على تفكير الرجل، والذي كان يسير في خط بياني صاعد نحو المرونة.
المصدر
- مقال:التغيير السياسي عند المودودي 4/5 موقع : مجلة العصر