الإيجابية في حياة الأفراد والمجتمعات (9)
بقلم : محمد فتحي النادي
17-تجنب المرء التقاعس والتخاذل
القعود والكسل لا يبنيان الأمم، بله أن يعينا الأفراد في كسب قوتهم.
والأمم الناهضة تحتاج إلى الجد والاجتهاد فتشمر عن ساعدها لتأخذ مصافها بين الأمم الراقية، هذا الرقي الذي لا نسميه رقيًّا إلا إذا تجاور الرقي الأخلاقي إلى جانب الرقي المادي.
والأفراد هم عماد الأمة، وساعد نهضتها، فإذا كانوا رجالاً ذوي عزم، فإنه لا يستعصي عليهم شيء؛ لأنهم لا يعرفون المستحيل.
والأفراد المتقاعسون المتخاذلون لا يقيمون نهضة لأمتهم، وهم أعجز من أن تنهض أمتهم على أكتافهم.
فالأمة في نهضتها تحتاج لأمثال رجال كحنظلة الذي ما منعه عرسه من أن يلبي منادي الجهاد الذي نادى: يا خيل الله اركبي، فخرج من بين أحضان زوجته إلى ساحة الوغى، ولم يتعلل بعلة أو عذر، خرج "وعليه جنابة، فطار إلى سيفه، وصب دمه مع دماء الأبرار، وقدم لحمه مع لحوم الأخيار، هذه الكتائب {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[الحج: 37].
يا حنظلة ثمار شجرك ما حنظل، وحَب زرعك قد سنبل، قبل أن تدخل الجنة تغسّل.
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا
- جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم
- من غير ترجمة زيحت له السجف"([1])
وهذا عمير بن الحمام الصحابي الجليل الذي ترك الدنيا خلف ظهره، وداسها بنعله، وطلقها طلاقًا لا رجعة فيه، عندما كان صوت البشير النذير -صلى الله عليه وآله وسلم- يصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض، ألقى بالتمرات من يده وقال قولته الشهيرة: "لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ"([2])، وأسرع نحو ساحة الوغى حيث صهيل الجياد وصليل السيوف، فقاتل حتى قتل، ونال ما تمنى، نال الدرجات العالية، والمنزلة السامية حيث النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، عرف الفانية فعاملها بما تستحق، وعلم وأيقن الباقية فأمهرها مهرها، وعمل لها عملها، وسعى لها سعيها وهو مؤمن بها، فأدركها أول القافلة، ووضع فيها أول راحلة!
فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مستقره ومأواه، وجعل الحور العين مصدر سعادته وسلواه!
تهون علينا في المعالي نفوسنا
- ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر([3])
وهذا الصحابي الجليل أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام (ظليل الملائكة) الذي بايع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- مع من بايعه من الأنصار على الإسلام، فوهب نفسه وماله لله ورسوله، واختاره الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من نقباء الأنصار على قومه من بني سلمة، جاهد مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في بدر فأبلى بلاء حسنًا، وقاتل قتال الشجعان، ولم تكتب له الشهادة في هذه الغزوة المباركة التي كانت الفارقة في تاريخ الإسلام، ولكن حرصه على الشهادة جعله يرقبها من على بعد، ويشم رائحتها الزكية من بعيد، وأراد الله I أن يكافئه بما يستحقه فكتب له الشهادة في غزوة أحد، وقبل موته في أحد شعر بدنو أجله وقرب نهايته فهمس في أذن ولده جابر رضي الله عنهما: إني لا أُراني إلا مقتولاً في هذه الغزوة، بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين، وإني والله لا أدع أحدًا بعدي أحب إلي منك بعد الرسول، وإن علي دينًا فاقض عني ديني، واستوص بإخوتك خيرًا.
ودارت المعركة واشتدت رحاها وحمي وطيسها، وكان النصر في البداية حليف المسلمين لولا مخالفة الرماة لأمر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وتركهم لأماكنهم، وانشغالهم بجمع الغنائم، فتحولت النتيجة، وتحول النصر هزيمة، والهزيمة نصرًا، ووسط هذه المعمعة قاتل عبد الله بن حرام والد جابر قتال الفوارس الأبطال، بل قتال الشهيد الذي يحرص على الموت أكثر منه على الحياة، ففاضت روحه طاهرة زكية، وقد مثل به المشركون كما مثلوا بغيره من الأبطال الشهداء أمثال حمزة t، وقد بين لنا رسولنا الكريم منزلته في حواره مع ابنه جابر؛ حيث قال له: "أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا([4]) فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ U: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}[آل عمران: 169] الآيَةَ([5]).
فانظر يا أخي -هداك الله، وأصلح حالك- إلى هذا الجبل الأشم، الصحابي الجليل الذي جاد بحياته في سبيل الله، وجعل الموت في سبيله أسمى أمانيه، رغم أنه العائل الوحيد لبناته، ورغم ذلك لم يقعد به هذا الأمر عن أن يخرج ويجاهد في سبيل الله.
من هذا الصحابي نتعلم منه حقيقة الإيجابية، والمثل الأعلى في التضحية والفدائية، وتلقي الشهادة بنفس راضية وروح زكية، فاعلم واعمل هدانا الله وإياك إلى سواء السبيل.
بل إننا نتعلم عدم التقاعس من تلك النملة التي حذرت أخواتها من جيش سليمان u الذي قد يحطمهن دون أن يدري، فضربت لنا المثل الأعلى في الإيجابية في المجتمع الحشري، وهي تعد واحدة من أضعف أفراد هذا المجتمع على الإطلاق، اسمع إلى القرآن الكريم وهو يحدثنا عن إيجابية النمل المطلقة، يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأيها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل: 18].
يا لله لجمال هذا الأسلوب القرآني المعجز الذي يخبرنا عن النملة الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة وقد آثرت أخواتها على نفسها، فنادت عليهن جميعًا ناصحة إياهن أن يبادرن ويسارعن إلى الفرار، والدخول إلى مساكنهن؛ خشية أن يحطمهن سليمان وجنوده وهم لا يشعرون.
إن المتأمل في فكر هذه النملة وعقلها الخارق ليخر ساجدًا لله ربه وربها الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.
يا رحمة الله، نملة تعلم هذه الحقائق، وتخاف على أخواتها، وتنادي عليهن في سرعة خاطفة: أن ادخلن مساكنكن، وتبين لهن السبب، وهو قدوم سليمان وجنوده.
فسبحانك يا من جعلت الرحمة دليلاً على الحب والوفاء.
سبحانك يا من جعلت الإيجابية عنوان خلود وبقاء.
سبحانك يا من نشرت الحب في قلوب الأخلاء.
وإننا نبادر فنقول: يجب على المسلمين اليوم أن يتتلمذوا على يدي نملة سليمان u حتى يتخرجوا في جامعتها العريقة العتيقة رجالاً إيجابيين مخلصين، ينهضون بمجتمعهم، ويرفعون راياتهم على مجتمعاتهم الإسلامية في شتى بقاع الدنيا.
18-تساعد في نشر الدعوة الإسلامية
المرء الشديد التمسك بما يؤمن به تجده جذوة متقدة لا تخبو، يحوّل المكان من حوله من حال إلى حال، نتيجة لأثره فيه.
وهذا الأمر تستوي فيه كل العقائد والأفكار حتى وإن كانت باطلة، فتجد النصرانية بها من يكون شديد الحماس لها، ويبذل كل ما في وسعه، ولا يألو جهدًا في أن يبشر بها، وكذلك الشيوعيين وغيرهم ينشرون أفكارهم؛ لأنهم مؤمنون بها، ومعتقدون فيها، ومخلصون في العمل لها.
والعيب ليس فيمن يبشر بما يؤمن به حتى ولو كان باطلاً، ولكن العيب فيمن يكون على الحق ولا يدفعه ذلك لنشر دعوته بين الناس، رغم أنهم في أمس الحاجة لها.
إن من تخبط البشر أن يلجئوا إلى ديانات وضعية كالبوذية مثلاً؛ لأنها قد تعالج بعض الأمور الروحية التي يفقدها الماديون في حياتهم، فلا هم بقوا على دينهم المحرف، ولا هم دخلوا في دين سماوي صحيح جاء من عند الله (الإسلام).
إن هؤلاء يحتاجون منا أن ندعوهم، وأن نكثف المجهودات لتبليغ رسالة ربنا جل وعلا لهم.
إن البشرية محتاجة لمن يقوّم لها تصوراتها، ويهديها سبلها، ويرشدها للمنهاج الأقوم، فقد جربت كل الطرق والحلول، ولم يبق إلا الإسلام.
وحالنا والإسلام كصاحب بضاعة متميزة لا توجد عند غيره، ولكنه لا يجيد عرضها على الزبائن، فيزهد فيها المبتاعون.
وهناك مشهد نريد أن نعرّج عليه لنرى كيف كانت الإيجابية سببًا في هداية قوم على يد من قد يراه الناس ليس مكلفًا بتبليغ الدعوة، هذا هو الهدهد الداعية، ونريد أن نسرد الآيات التي صورت هذا المشهد الدعوي لتتضح معالم الصورة قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يأيها الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يأيها الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يأيها الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل: 20-44].
هذه الآيات المحكمات التي بينت شجاعة الهدهد الذي غاب عن سليمان، فهدده سليمان u بالعذاب الشديد، أو الذبح إذا لم يأته بسلطان مبين، فخاطبه الهدهد بشجاعة بالغة، ورباطة جأش تامة، فقد أحاط بما لم يحط به سليمان النبي الملك، وبيّن له أنه وجد امرأة في بلاد اليمن تسجد هي وقومها للشمس، ولا يسجدون لله فالق الحب والنوى، فاطر السموات والأرض.
وراع هذا الهدهد ما رآه، فهو يعلم أن السجود لا ينبغي إلا لواحد، ولا يحق إلا لواحد، هو الإله الواحد I، فإيجابية هذا الهدهد وتفكره في كل ما يراه دفعاه إلى نقل هذا المشهد المحزن إلى سيده، وهذا ما جعل سيدنا سليمان يقول له: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل: 27]، ولما تبين له صدقه كانت النتيجة هي إسلام هذه المرأة وقومها بعد أن هداهم الله رب العالمين.
فيا سبحان الله! الهدهد أصبح داعية عظيمًا، وإمامًا حكيمًا؛ حيث استعمل فطرته التي فطره الله عليها من وجوب الإيمان بالله، إلى جانب استخدامه لحواسه التي ميزه الله بها كي يتفكر ويتأمل {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
فليتنا نتعلم من الهدهد الأعجمي الذي لا يبين ولا يفهم لغته إلا من اختصهم الله I بذلك.
19-تسهم في البناء الحضاري للإسلام
الحضارة الإسلامية أسمى الحضارات التي وجدت في هذه الحياة الدنيا؛ فهي حضارة طارت بجناحين: جناح السمو الروحي والأخلاقي، وجناح الرقي المادي، فلم تهمل جانبًا على حساب آخر؛ فالحضارة التي تهمل الروح والقيم والأخلاق وتمضي في التقدم المادي إلى أوج ما يمكن أن يتوصل إليه هي حضارة خداج، لن تلبث أن تطير حتى تقع من شاهق.
وعندما فرق المسلمون بين العلم والعمل، وبدأ الجمود والتقليد يحل فيهم، عندها كانت الحضارة الإسلامية قد بلغت منتهاها في المد وبدأت في الجزر، وحينها أخذت موقع الصدارة منها الحضارة الغربية التي بلغت أوج الرقي المادي مع انحدارٍ وتدنٍ في المستوى الروحي والأخلاقي، وحضارة كالحضارة الغربية لن تستمر طويلاً، والدولة الآن للحضارة الإسلامية التي تحتاج من أبنائها أن يرجعوا إلى ربهم، وأن يتفوقوا في كل ميادين العلوم، لا فرق بين علم شرعي وعلم دنيوي؛ فالكل يخدم الإنسان المسلم في دنياه وآخرته، فلو علم كل مسلم أنه على ثغرة من ثغرات الإسلام لأدى ما عليه من واجبات على أحسن ما يكون الأداء، ولأدى ذلك إلى الارتقاء بالمجتمع، والنهوض بالأمة، واستعادة مجدها التليد المفقود، فما فقدت الأمة السيادة، وما نزلت عن عرش الريادة إلا بعدما شبت فيها نيران السلبية، فحولتها من أمة قوية فتية إلى أمة مغصوبة منكوبة، انشرخ جدارها، وانكسر ساقها، ولا سبيل إلى رفعتها واسترداد مكانتها إلا بالعودة إلى كتاب ربها وسنة نبيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول عز من قائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]، والقاعدة هي: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140].
([1]) عائض بن عبد الله القرني: مصارع العشاق، شركة البراق للتجارة والتوزيع، الطبعة الأولى، ص(21-22).
([2]) أخرجه مسلم في "الإمارة"، باب: "ثبوت الجنة للشهيد"، ح(3520).
([3]) البيت لأبي فراس الحمداني.
([4]) أي: مواجهة.
([5]) أخرجه الترمذي في "تفسير القرآن"، باب: "ومن سورة آل عمران"، ح(2936)، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وقد حسنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، ح(3010)- انظر: خالد محمد خالد: رجال حول الرسول، دار المقطم، الطبعة الأولى، ربيع الثاني 1415ه -سبتمبر1994م، ص(476-478).
المصدر
- مقال:الإيجابية في حياة الأفراد والمجتمعات (9)موقع:الشبكة الدعوية