الإنشغال بالفروع مضيعة للوقت

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإنشغال بالفروع مضيعة للوقت


بقلم / الدكتور يوسف القرضاوي

إن تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة ينبغي أن تكون له الأولوية المطلقة في الصحوة الإسلامية؛ لأن أعمال الناس وسلوكهم إنما هي في الغالب ثمرة لما استقر في داخل أنفسهم من أفكار وتصورات تستقيم باستقامتها، وتعوج باعوجاجها، فإذا صححنا التصورات والأفكار انطلقنا لتحريك الصحوة وتربية الناس عليها؛ حتى يجتمع الوجدان والإرادة مع الفكر، لتكوين سلوك مستقيم.


مخاطر التركيز على الفروع والجزئيات

وأول ما ينبغي تصحيح التصور فيه وتوجيه الاهتمام إليه هو ما وقع فيه بعض فصائل الصحوة الإسلامية المعاصرة من التركيز الشديد على الفروع والذيول والجزئيات والهامشيات من الأمور، بدل التركيز على الأصول والكليات والأساسيات؛ ولهذا التركيز الكثير من المثالب والأخطار، منها:


1- أنه مخالف للمنهج القرآني والنبوي :

فالقرآن الذي أنزله الله في ثلاثة وعشرين عامًا، ظل ثلاثة عشر عامًا- أي طوال العهد المكي- يعنى بإيضاح الأصول والكليات، من العقائد والأخلاق والأعمال، والنبي- صلى الله عليه وسلم- ظلَّ طوال هذه المرحلة يربي الجيل الأول على هذه المعاني الكبار، وهذه القيم العليا، اعتقادًا وتعبدًا وخلقًا وسلوكًا وفكرًا وعملاً؛ بل إن العهد المدني نفسه- وهو عهد التشريع- لم ينسَ يومًا التذكير بهذه الأصول، فكثير من التشريعات تبدأ بصيغة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ دلالة على أن الإيمان هو أساس الالتزام بالتشريع والمحرك للعمل.


2- أن مفردات الجزئيات والفرعيات والهامشية لا تكاد تنتهي :

فمن شغل نفسه بها أكلت جهده، والتهمت وقته، ولم تدع له من طاقة الجسم والفكر والنفس ما ينفقه في خدمة الأصول والقضايا الكبرى؛ ولهذا جاء عن "ابن مسعود": "ما اجتهد قوم في بدعة إلا أضاعوا مثلها من السنة"، وقال أحد الحكماء: "ما وجدت إسرافًا إلا بجانبه حق مضيع".


3- أن هذه الجزئيات الفرعية مظنة الخلاف دائمًا أو غالبًا :

لأن أدلتها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة؛ ولهذا يكثر فيها الخلاف، وتتعدد فيها الآراء تبعًا لتعدد الأفهام، والتركيز على هذه الفرعيات من أبناء الصحوة يوقع الخلاف بينهم؛ بل قد يزرع بينهم الشقاق والبغضاء التي تحلق الدين.

ويتساءل البعض: لماذا لا يُدعى الجميع إلى الرأي الصواب، والمذهب الحق، ويتفقون عليه بدل الخلاف والاختلاف؟

والجواب: أنه ليس في هذه المسائل الجزئية الاجتهادية رأي أو مذهب يُجزم بأنه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، والحق الذي لا يشوبه باطل؛ ولهذا ذهب بعض الأصوليين إلى أن آراء المجتهدين جميعًا في المسائل الجزئية العملية صواب؛ بل حكم الله فيها ما انتهى إليه اجتهاد المجتهد، والرأي الأول أرجح فيما أرى.


رفع الخلاف غير ممكن لأسباب، منها:

- لأن الآخرين قد لا يسلمون لهم بثبوت النص الذي يستندون إليه.

- لأنهم قد يخالفونهم في دلالته على الحكم الذي فهموه منه لاعتبارات متعددة فقهية أو أصولية.

- قد يكون عندهم معارض أقوى من النص المستدل به من نصوص الشرع، أو قواعده، أو مقاصده العامة، أو الإجماع العلمي والعملي.


من النوافل إلى الفرائض

ذلك أن ما طلب الشرع منا فعله له مرتبتان :

مرتبة الفرض أو الواجب :

فطلبه من المكلفين طلب جازم، ورتب عليه الثواب على فعله، والعقاب على تركه، وهو ينقسم إلى قسمين:

(أ‌) فرض عين: وهو ما يفترض على كل مكلف أداؤه بشروطه.

(ب‌) فرض كفاية: وهو ما يفترض على الأمة، أو على جماعة معينة- في مجموعها- لا على فرض معين، بحيث إذا قام بها بعض كافٍ سقط الإثم عن الجماعة.


مرتبة المندوب أو النافلة أو السنة :

وهو ما لم يشدد الشرع في طلبه على معنى أن طلبه طلب غير جازم، وهذا هو المندوب أو المستحب، ويدخل تحت اسم (السنة) أو (التطوع) أو (التنفل)؛ لأن النفل هو الزيادة، وهذه النوافل هي زيادة على الفرائض التي ألزم الله بها، كما جعل فيها جانبًا اختياريًّا لمن قويت رغبته في الخير.


الحكمة في شرعية السنن والنوافل

- أن تكون جبرًا لما عسى أن يحدث في أداء الفريضة من خلل أو قصور، قلما يسلم منه بشر، وقد صح في الحديث: "إن أول ما يُحاسب عليه العبدُ يومَ القيامةِ الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك" (رواه الترمذي).

- أن تكون رصيدًا احتياطيًّا للمؤمن، يكتب في سجل حسناته، يقاوم به ما يكتب عليه في سجل السيئات، وما أكثرها! سواء كانت سيئات اللسان أو الجوارح أو القلب.

- أنه الباب إلى الترقي في مدارج القرب إلى الله تعالى، حتى يصل إلى حبه سبحانه وتعالى، ومن أحبه الله تعالى فقد ارتقى مكانًا عليًّا، وغدا إلهي السمع والبصر والقوة.. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه".


أداء الفرائض أولاً

والواجب على المسلم أن يوجه همه وإرادته أولاً إلى أداء الفرائض وأحكامها حتى تبرأ ذمته، ويسلم من عقاب الله عز وجل، فإذا أدَّى الفرائض ووفاها حقها كملها بالنوافل، حتى الفرائض نفسها ينبغي أن يرتبها بعضها على بعض حسب منزلتها في دين الله.

ينبغي أن يقدم فرض العين على فرض الكفاية، وفرض العين الأهم على فرض العين الأقل أهمية، وفرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به غيره؛ ومن هنا قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- بر الوالدين على الجهاد إذا كان فرض كفاية، أما إذا كان الجهاد فرض عين؛ كأن يغزو الكفار بلدًا من بلاد الإسلام، هنا يخرج لقتالهم ودفعهم كل من له طاقة للدفاع، فيخرج الابن بدون إذن أبيه؛ لأن القتال هنا فرض عين يتعلق بحق الجماعة كلها، وطاعة الوالدين فرض يتعلق بحق فرد أو فردين.


أخطاء بعض المتدينين

وفي هذا المقام نرى بعض المتدينين وبعض فصائل الصحوة يقعون في عدة أخطاء، منها:

1- التشديد في النوافل على عموم الناس، جاهلين أن مراتب الناس متفاوتة، وأن هممهم متباينة، وأن العوام غير الخواص، والخواص غير خواص الخواص، وكل يعمل على شاكلته.

وهذا التشدد مخالف لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي فرَّق بين الفرض والتطوع تفرقةً حاسمة، فألزم في الأول وخيَّر في الثاني، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رجلاً سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:"أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا؛ أأدخل الجنة؟ قال:" نعم". قال الرجل: "والله لا أزيد على ذلك شيئًا".

2- تقديم النوافل على الفرائض والقاعدة الإسلامية تقرر (أن الله لا يقبل النافلة حتى تُؤدى الفريضة)، ويقول أحد السلف: "من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور!"، وترك الترتيب بين الخيرات هو من جملة الشرور، وقد ألفت في هذا الموضوع المهم كتابي: "في فقه الأولويات" لبيان مراتب الأعمال، وأيها أهم وأيها أرجح في ميزان الشرع.

3- تضييع الحقوق اللازمة بسب النوافل، وحكم الشرع هنا: أن النوافل لا يجوز أن تطغى على حقوق الغير، وفي الحديث الشريف: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه" (رواه البخاري).


من المختلف فيه إلى المتفق عليه

من خطوط ترشيد الصحوة الإسلامية الانتقال من المختلف فيه إلى المتفق عليه، بحيث لا تكون المسائل الخلافية هي شغلها الشاغل وهمها الأكبر، فهناك أناس مولعون بالبحث عن مواضع التمايز أو التباين بينهم وبين غيرهم، ويركزون كل التركيز على هذه المواضع، ولا يبحثون عن مواضع الالتقاء بينهم وبين الآخرين، ولا ريب أن التميز مطلوب لكل صاحب فكرة من فرد أو جماعة، ولا يطلب من صاحب الفكرة أن يتنازل عن فكرته، والتميز هنا ثمرة الإيمان بسمو الفكرة وكمالها؛ لكن هنا أمران مهمان:

الأول: أن التميز إنما يطلب ويلزم ويتأكد حين تكون هناك اختلافات جذرية في الأهداف، أو في المناهج؛ كالاختلاف في العقائد والأصول ونحوها.

الثاني: أنه مع التميز الواجب عند الاختلاف في الأصول والمبادئ يجب ألا ننسى نقاط الاتفاق، ومواضع الالتقاء، التي يمكن الابتداء منها بإقامة جسور للتعارف أو الحوار أو التعايش، ويحضرني في هذا قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46).


المصدر

  • إخوان أون لاين