الإمام البنا والخلافات الفقهية
مقدمة
عاصر الإمام البنا -رحمه الله - تعصباً مذهبياً مقيتاً، كاد يقضي على وحدة الأمة حتى كانت تقام في المسجد الواحد عدة جماعات لكل مذهب جماعته !
فماذا فعل الإمام البنا رحمه الله ؟
أولا: لقد آثر أن يبتعد عنها جميعا، وأن يخرج بإخوانه خارج هذه القوقعة التي لن تقدم ولن تؤخر ولن تقدم حلولا عملية تنهض بالأمة من كبوتها، إلى جانب أنه أشار على فضيلة الشيخ سيد سابق –رحمه الله –بإخراج كتاب يعتمد على الدليل من الكتاب والسنة، فأصدر كتابه المشهور”فقه السنة".
ثانيا:أنه أصل نظرته في هذه القضية في عدة رسائل منها:
رسالة التعاليم
حيث يقول:
أ - الأصل السابع: ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متي صح عنده صلاح من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نفعه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر".
ويلاحظ أنه -رحمه الله - قال: لكل مسلم، واللام للتخيير ولم يقل على كل مسلم، وقوله:”يتبع إماما" فهو اتباع فيما أنزل الله وليس فيما يخالف أمر الله، كما يدعي البعض، ثم إن تركنا هؤلاء الأئمة فسوف نتبع غيرهم أيضا، لأننا لسنا من أهل الاجتهاد.
ب -الأصل الثامن:”والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلف الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلي المراء المذموم والتعصب” انتهي.
رسالة دعوتنا
حيث بين أن دعوة الإخوان مع الحق أينما كان، فهو رائدها وهي تنادي الأمة إلى التجمع على هذا الحق ففيه صلاحها، وتبتعد عن التفرق ففيه ضياعها، فيقول رحمه الله:
أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية والآراء المذهبية:
تجمع ولا تفرق
فاعلم - فقهك الله -أولا أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلن طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، ونود أن تتوحد وجهة ا لأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدي، والإنتاج أعظم وأكبر.. فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ، وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.
ثم بين رحمه الله أن الخلاف الفقهي في الفروع أمر ضروري، مبينا أسبابه فقال:
الخلاف ضروري
ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة:
1 - منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعف وإدراك الدلائل والجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس - في ذلك -جد متفاوتون فلابد من خلاف.
2 - ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك والأخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله جم!ؤ تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رائي واحد تكون فتنة.
3- ومنها اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف في كل بيئة، وإنك لترئ الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده ولا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.
4 - ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلي الرواية عند التلقي لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحا عند غيره لما علم عن حاله.
5 - ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا وذاك لا يقول معه به وهكذا. ولذلك يقول:
الإجماع على أمر فرعى متعذر
كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن لين لا جمود فيه ولا تشديد والسؤال الآن، هل هناك فرق في ما قرره الإمام البنا هنا وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
ثم بين الإمام البنا -رحمه الله -أن الخلاف في الفرعيات الفقهية لا يكون سببا في التفرق والتحزب والتنافر، فقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم والأئمة الأعلام ولم تختلف قلوبهم. ثم بين موقف الإخوان مع مخالفيهم في هذا الرأي فقال:
نعتذر لمخالفينا
نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونري أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معني الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته، وألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك ؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن ؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو للتفاهم ؟
هؤلاء أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء، فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في قلوبهم ؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم ؟ اللهم لا، وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.
وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات لا خطر لها؟ وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض، وناظر بعضهم بعضا، فلم لا يسعنا ما وسعهم ؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها، كالأذان الذي ينادي به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به النصوص والآثار، فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط.
وثم أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأول بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.
يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين نسأل الله لنا ولهم الهداية. ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلي الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.
رسالة المؤتمر الخامس
أما في رسالة المؤتمر الخامس فيقول مبينا بعض خصائص دعوة الإخوان: 1- البعد عن مواطن الخلاف:
فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم، ومازال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالك رضي الله عنه حين قال لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ:”إن أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوع علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة"، وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم.. هذه النظرة إلي الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلما كما قال زيد رضي الله عنه، وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنتشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معني للجدل ولا للخلاف فيها.
وبعد كلام الإمام البنا -رحمه الله -يحسن بنا أن نشير إلى بعض الأحكام الفقهية وأقوال العلماء في المسألة حتى نكون على بينة من الأمر.
حقيقة الإختلاف وأنواعه
1- يجب على المجتهد تحقيق موضع الاختلاف، فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح ، فليس كل تعارض بين قولين يعتبر اختلافا حقيقيا بينهما، فإن الاختلاف إما أن يكون اختلافا في العبارة، أو اختلاف تنوع، أو اختلاف تضاد، وهذا الأخير هو الاختلاف الحقيقي.
2- أما الاختلاف في العبارة فأن يعبر كل من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، مثال ذلك تفسير الصراط المستقيم، قال بعضهم: هو القران، وقال بعضهم هو الإسلام، فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القران الكريم. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة.
3. وأما اختلاف التنوع، فأن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثال ذلك تفسير قوله تعالى :” فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات”(فاطر: 32)، قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلي الاصفرار، وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا.
واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى :
فالأول: مثل أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل، وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء.
قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات.
4. وقد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع: منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة.
ومنها: ألا يتوارد الخلاف على محل واحد.
ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتي به أولا.
ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزا، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها، إذ الكل متواتر.
وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القران، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهي أنواع - وإن سميت خلافا - إلا أنها ترجع إلى الوفاق.
الحكم التكليفي للإختلاف بحسب أنواعه
أمور الدين التي يمكن أن يقع فيها الخلاف إما أصول الدين أو فروعه، وكل منهما إما أن يثبت بالأدلة القاطعة أولا، فهي أربعة أنواع:
النوع الأول: أصول الدين التي تثبت با لأدلة القاطعة، كوجود الله تعالى ووحدانيته، وملائكته، وكتبه، ورسالة محمد (صلي الله علية وسلم)، والبعث بعد الموت ونحو ذلك، فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، ويشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي، فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم وشرط عدم التكفير أن يكون المخالف مصدقا بما جاء به الرسول (صلي الله علية وسلم)، والتكذيب المكفر أن ينفي وجود ما أخبر به الرسول، ويزعم أن ما قاله كذب محض أراد به صرف الناس عن شيء يريده، كذا قال الغزالي. النوع الثالث: الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنى، فهذا ليس موضعا للخلاف، ومن خالف فيه فقد كفر.
النوع الرابع: الفروع ا لاجتهادية التي قد تخفي أدلتها، فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة. ويعذر المخالف فيها، لخفاء الأدلة أو تعارضها، أو الاختلاف في ثبوتها، وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء، إذ قالوا: في المسألة خلاف، وهو موضوع هذا البحث على أنه الخلاف المعتد به في الأمور الفقهية.
فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذا بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه.
فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافا في المسائل الشرعية، لأنها اجتهاد لم يصادف محلا، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة.
أدلة جواز الإختلاف في المسائل الفرعية
أولا: ما وقع من الصحابة في غزوة بني قريظة: روي البخاري عن ابن عمر قال: ( قال النبي (صلي الله علية وسلم) يوم الأحزاب:”لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي (صلي الله علية وسلم) فلم يعنف أحدا منهم).
ثانيا: اتفاق الصحابة في مسائل تنازعوا فجها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والنكاح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك.
الإختلاف فيما لا فائدة فيه
قال ابن تيمية: قد يقع الاختلاف في ألفاظ من تفسير القرآن بما لا مستند له من النقل عن الرسول ( صلي الله علية وسلم) ، أو بنقل لا يمكن تمييز الصحيح منه من الضعيف، ودون استدلال مستقيم، وهذا النوع من الاختلاف لا فائدة من البحث عنه، والكلام فيه من فضول الكلام، وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلا.
فمثال ما لا فائدة فيه اختلافهم في أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونحو ذلك، فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحا، كاسم صاحب موسئ أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما ينقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب، فهذا لايجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة.
الإختلاف الجائز هل هو نوع من الوفاق ؟
يري الشاطبي أن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلن الوفاق، فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلي عدم الاطلاع على الدليل.
وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافا، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي.
أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحر لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رواه لرجع إليه، ولوافق صاحبه، وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره، وان كان مصيبا أيضا. فالإصابة على قول المصوبة إضافة، فرجع القولان إلف قول واحد بهذا الاعتبار، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون، ومن هنا يظهر وجه التحاب والتالف بين المختلفين في مسائا، الاجتهاد، لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعا، ولا تفرقوا فرقا.
هذا وقد سلك الشعراني مسلكا آخر في إرجاع مسائل الخلاف إلي الوفاق، بأن يحمل كل قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلفين فمن قال من الأئمة: إن الأمر في باب من أبواب العبادة للوجوب، وخالفه غيره فقال بأنه المندوب، وكذلك اختلافهم في النهي بأنه للكراهة أو للتحريم، فلكل من المرتبتين رجال، فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا أو ضمنا، ومن ضعف منهم خوطب بم الرخصة، فالمرتبتان عنده على الترتيب الوجوبي لا التخيير.
الإختلاف الفقهي هل هو رحمة ؟
المشهور أن اختلاف مجتهدى الأمة في الفروع رحمة لها واسعة. والذين صرحوا بذلك احتجوا بما رواه ابن عباس مرفوعا”مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي. أن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة".
وفي الحديث أيضا: ”وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن كان قبلنا عذابا".
واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التابعين من مثل قول القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله (صلي الله علية وسلم) في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأي أن خيرا منه قد عمله.
وعن عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيي بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا، ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا .
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف -من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس، قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر .
وتوسط ابن تيمية في الأمر، فرأي أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذابا، قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلف شر عظيم في خفاء الحكم، والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف -لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب: "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤ كم" (المائدة: 101)، وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة، وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد.
أسباب اختلاف الفقهاء
الاختلاف إما أن يكون ناشئا عن هوي، أو عن الاجتهاد المأذون فيه.
فأما ما كان ناشئا عن هوي فهو موضع الذم، إذ إن الفقيه تابع لما تدل عليه الأدلة الشرعية، فإن صرف الأدلة إلى ما تهواه نفسه فقد جعل الأدلة تابعة لهواه. وذكر الشاطبي أن الخلاف الناشئ عن الهوى هو الخلاف حقيقة، وإذا دخل الهوى أدي إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدي إلى الفرقة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، وإنما يذكرها بعض الناس ليردوا عليها ويبينوا فسادها، كما فعلوا بأقوال اليهود والنصارى ليوضحوا ما فيها .
أما النوع الثاني وهو الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد المأذون فيه فله أسباب مختلفة، يتعرض لها الأصوليون لماما، وقد أفردها بالتأليف قديما وحاول الوصول إلن حصر لها ابن السيد البطليوسي في كتابه”الإنصاف في أسباب الخلاف”، وابن رشد في مقدمة”بداية المجتهد"، وابن حزم في”الإحكام”، والدهلوي في”الإنصاف” وغيرهم. ويرجع الاختلاف إما إلي الدليل نفسه، وإما إلى القواعد الأصولية المتعلقة به.
أسباب الخلاف الراجع إلى الدليل
مما ذكره ابن السيد من ذلك:
1 - الإجمال في الألفاظ واحتمالها للتأويلات.
2 - دروان الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه.
3 - دورانه بين العموم والخصوص نحو”لا إكراه في الدين” اختلف فيه هل هو عام أم خاص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية؟
4 – اختلاف القراءات بالنسبة إلى القران العظيم، واختلاف الرواية بالنسبة إلي الحديث النبوي.
5” دعوى النسخ وعدمه.
6 - عدم اطلاع الفقيه على الحديث الوارد أو نسيانه له.
أسباب الخلاف الراجع إلى القواعد الأصولية
من العسر بمكان حصر الأسباب التي من هذا النوع، فكل قاعدة أصولية مختلف فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنية عليها.
الإنكار والمراعاة في المسائل الخلافية:
ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة:”لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجتمع عليه”، وقال: إنه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه:
إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطء الأمة المرهونة، ولم ينظر للخلاف الشاذ في ذلك.
الثانية: أن يترافع فيه لحاكم، فيحكم بعقيدته، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.
الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج المسلم يمنع زوجته الذمية من شرب الخمر، بالرغم من وجود خلاف في حقه بمنعها وعدمه .
وذكر ابن تيمية أن للمجتهد أن يعتقد في الأمور المختلف فيها بين الحل والتحريم أن مخالفه قد ارتكب (الحرام) في نحو (لعن الله المحلل والمحلل له) ولكن لا يلحقه الوعيد واللعن إن كان قد اجتهد الاجتهاد المأذون فيه، بل هو معذور مثاب على اجتهاده، وكذلك من قلده التقليد السائغ.
ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم
إذا حكم القاضي في واقعة من الوقائع بحكم مختلف فيه مما يسوغ فيه الخلاف لعدم مخالفته لنص أو إجماع، فإن النزاع يرتفع بالحكم فيما يختص بتلك الواقعة، ويعود الحكم في تلك الواقعة كالمجمع عليه، فليس لأحد نقضه حتى ولا القاضي الذي قضي به نفسه، كما لو حكم بلزوم الوقف.
أما في غير تلك الواقعة فإن الخلاف لا يرتفع بالقضاء.
وهذه إحدى القواعد الفقهية المشهورة، وتعنون عادة بعنوان (الاجتهاد لا ينتقض بمثله) وعلتها أنه يؤدي إلي أن لا يستقر حكم، وفيه مشقة شديدة، فلو نقض لنقض النقض أيضا، ولأنه ليس الثاني بأقوى من الأول. وقد ترجح الأول باتصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه.
وهذه المسألة إجماعية، وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل، وخالفه فيها بعده عمر-رضي الله عنه - ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة، ثم حكم في واقعة أخرى بالمشاركة، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
ومن هذه القضية يتبين أن القاضي لا ينقض الماضي، وأما في المستقبل فيجوز أن يحكم فيه بما يخالف ما مضي.
ومن شرط نفاذ الحكم في المسائل الخلافية أن يكون في حادثة ودعوى صحيحة وإلا كان فتوى لا حكما .
إرتفاع الخلاف بتصرف الإمام أو نائبه
إذا تصرف الإمام أو نائبه بما تختلف فيه الاجتهادات طبقا لأحد الأقوال المعتبرة، فلا ينقض ما فعله كذلك، ويصيركالمتفق عليه (أي بالنسبة لما مضئ، وأما في المستقبل فله أن يتصرف تفحرفا مغايرا إذا تغير وجه المصلحة في رأيه)، وقد قرر أبو بكر رضي الله عنه العطاء بالسوية، ولما جاء عمر رضي الله فاضل بين الناس بحسب سابقتهم وقربهم من النبي لمج!ظ، وذكر الفقهاء أن للإمام أن ينقض حكم من قبله من الأئمة، لأنه يتبع المصلحة، والمصلحة قد تتغير.
قال ابن نجيم:”إذا رأي الإمام شيئا ثم مات أو عزل فللثاني تغييره حيث كان من الأمور العامة. ويستثني هذا من قاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن هذا حكم يدور مع المصلحة، فإذا رآها الثاني وجب اتباعها" .
وقال ابن تيمية:”إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر علي الإمام ولا علي نائبه من حاكم أو غيره، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك”.
ومع هذا يذكر ابن تيمية أن الواحد من العلماء والأمراء ليس معصوما، ولهذا يسوغ لنا أن نبين الحق الذي يجب اتباعه، وان كان فيه بيان خظ من أخطأ من العلماء والأمراء.
هذا ولقد فصلنا القول في الاختلاف عند الفقهاء، لأن بعض الجهلة وأصحاب العلل والأهواء يعيبون علي الشيخ حسن البنا -رضوان الله عليه -قوله:”فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري، لابد منه إذ إن أصول الإسلام آيات وأحكام وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصوراتها العقول والأفهام لهذا كان الاختلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم، ومازال كذلك إلي يوم القيامة... الخ، إلى أن قال: وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي، والحجر علي عقول الناس وآرائهم”.
وكان - رحمه الله -يري في زمانه أن الناس قد أهلكتهم الخلافات الفقهية والعصبيات المذهبية في فروع الدين، واشتغلوا بها عن الأصول وجلائل ا لأمور، فأراد أن يعالج ذلك بفقه حكيم ورأي سديد، وأن يردهم إلف ما رضيه رسول الله (صلي الله علية وسلم) وصحابته، والسلف الصالح.
ولكن أنئ للمتعصبين والشانئين أن يفقهوا ذلك، وجملة ما اعترضوا به علي الإمام أشياء رد عليها الفقهاء وقررها الإمام، ومنها:
ا - ما قاله الإمام البنا”أن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلي الخليفة (الإمام) فيفصل في القضية ويقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟" ثم أراد الإمام البنا – رضوان الله عليه –أن يدل علي البديل إلى أن يوجد الخليفة، فقال:”فأول بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم في غير مرجع، لا يردهم إلا إلى خلاف آخر".
هذا التقرير العلمي الرصين لا يقولون به، ويدعون أن حكم الإمام لا يفصل في الخلاف، ويستشهدون بما كان بين علي ومعاوية، علي بطلان ذلك، حيث اقتتل المسلمون في أمر فرعي .
والرد علي هؤلاء قد قدمناه فيما قيل من أقوال الفقهاء في ذلك فليقرأوه -إن أرادوا - ثم نقول لهم: إذا لم يفصل الإمام المجتهد ومن حوله من المجتهدين المستشارين له فمن يفصل أهم ؟ أمن من ؟ ثم. ما كان بين علي ومعاوية كان بغيا علي الإمام، وخروجا عن أمور العدالة والالتزام، ثم ألم يقرأوا قول الرسول (صلي الله علية وسلم) للصحابي الذي قتل مع علي -رضي الله عنه -تقتلك الفئة الباغية، والبغي علي الإمام له أحكامه، وهذا خلط لا يقول به عالم.
ثم يحاول معترض آخر أن يمنع تعدد آراء الفقهاء والأخذ برأي منها، فيفترض سوء النية في اختيار الناس لأحد الأدلة، فيقول:”وليس الجائز لمفت أو مستفت إذا كثرت الأقوال في المسألة الواحدة أن يتخير منها الأقرب إلى رغبته، علي زعم أن اختلاف الأقوال يجعل هذه المسألة ظنية اجتهادية"، ونحن نقول: لا يجوز أن يمنع الأخذ بتعدد الآراء لظن ظنه، أو لتشهي إنسان، فذلك يعود عليه وحده، وكثره الأقوال في المسائل الاجتهادية لا تكون إلا عن علماء إثبات مجتهدين بالأدلة المعتبرة، أما إن كان الاختلاف ناشئا عن هوي، فهو مذموم، إذ إن الفقيه تابع لما تدل عليه الأدلة الشرعية، فإن صرف الأدلة إلى ما تهوي نفسه فقد جعل الأدلة تابعة لهواه، وهذا مذموم وممنوع، فافهم.
وأما الأخذ بأحد الأقوال الصحيحة عن الأئمة المجتهدين فهذا جائز، ومن أخذ به لأنه فيه سعة له، أو نفي حرج سيقع عليه فلا عيب عليه في ذلك، وفي الحديث:”وجعل اختلاف أمتي رحمة، وكان فيمن كان قبلكم عذابا".
وعن عمر بن عبدالعزيز قال:”ما أحب أن أصحاب رسول الله في (صلي الله علية وسلم) لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة"، وعن يحيي بن سعيد أنه قال:”اختلاف أهل العلم توسعة".
وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا علي هذا، ولا هذا علي هذا، وقد قدمنا طرفا من ذلك قبل.
ثم يحاول هذا المعترض الإمعان في منع الأخذ بتعدد الآراء ويحاول أن يقضي علينا قصصا يثبت صحة رأيه فيقول: لا يمكن أن تعود للجماعة وحدتها وتماسكها إلا بإزالة الخلاف وتحقيق الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وذلك حين كانت للمسلمين دولة ذات هيبة وسلطان، ذلك وعهد النبوة غض طري”، وهو يدعي بذلك أن دولة النبوة والخلفاء ومن جاء بعدهم من السلف الصالح لم يكن عندهم تعدد في الآراء الاجتهادية وهذا منتهى الخط، فإن اختلاف الآراء كان في عهد رسول الله، تري هذا في غزوة أحد وبني غريظة، وغير ذلك الكثير، وكما كان بعد رسول الله، من أول يوم حين اختلفوا فيمن يتولي الخلافة في الثقيفة، وكما كان في خلافة أبي بكر وعمر، ومن بعدهم.
ويحكون أن الرشيد قال للإمام مالك -رحمه الله -: ينبغي أن تخرج معنا، فإني عزمت أن أحمل الناس علي الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس علي القرآن، فقال له: أما حمل الناس علي الموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب رسول الله جم!سه افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم، وقد قال (صلي الله علية وسلم):”اختلاف أمتي رحمة"، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه.. الخ، وصاحبنا المعترض يتحدث عن فتن لا عن عمل برأي صحيح، وقد سارت الأمة عصورا علي فقه الإمام مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وكل علي رأي صحيح.
ثم استأنف صاحبنا المعترض في ذكر الأدلة الدالة علي رأيه المانع بقوله:( أما اليوم فإن الخلاف حول المنهج وحول سياسة الدعوة هو السبب المباشر الذي جعل الساحة الإسلامية تغص بشراذم من الشباب المتحمس، وكل مجموعة تتخذ لنفسها اسما وقائدا وطريقا؟ ومعظمها تتعرض لسلسلة من الانقسامات الذرية التي لا نهاية لها، وقد عانت جماعة الإخوان ذاتها من هذه المشكلة، وأفرزت عدة انشقاقات، بدءا بشباب محمد، ومرورا بجماعات التفكير، وتنظيم الجهاد في مصر.. الخ، إلى أن قال: وأساس المشكلة ليست متعلقة بالأشخاص بقدر ما هو ناجم عن جهل بمنهج أهل السنة أو الانحراف عنه) .
وهذا الإنسان في الحقيقة نسب إلى جماعة الإخوان ما ليس منها كتنظيم الجهاد، والتكفير والهجرة.. الخ، ثم نقول له أنت رجل تسمى نفسك سلفيا.ولا حرج فى ذلك ولا عيب.ولكن هل السلفية اليوم جماعة واحدة؟.. أنا أرى أمامي فى الكويت فقط ثلاث انقسامات متعارضة، وكلها تدعى أنها سلفية وتلمز الأخرى ، فمن تقصد بالسلفية التي أخذت عن علم بمنهج أهل السنة والجماعة؟
لنترك هذا إلى حين، ودعني أقول لك: أنت يا عزيزي تخبط في الأمور خبطا عميا،، أتدعي يا أخي أن اختلاف بعض المنحرفين عن الصراط المستقيم اليوم كان بسبب تعدد آراء العلماء الأثبات المجتهدين، كبرت كلمة تزعمها، اللهم إلا إذا كنت تضفي علي هؤلاء الصغار المتشرذمين من هنا وهناك صفة العلماء المجتهدين، وهذه بلوئ وقع فيها الكثيرون. إن اختلاف هؤلاء وغيرهم ممن علي شاكلتهم كان لأسباب كثيرة، أظنك ما درستها وما شغلت نفسك إلا بعيب الصحيح من أقوال العلماء المجتهدين فقط ! !
أسباب الاختلاف المذموم
وأحب أن أبصرك ببعض أسباب هذا الاختلاف في اختصار شديد، لأن هذا يحتاج إلي أسفار، فضلا عن صفحات، وإليك بعضا من تلك الأسباب:
1 - التنطع والغلو:
روي الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلي الله علية وسلم) قال:”إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.
قال ابن تيمية : وذلك عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقاد والأعمال. وروي مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله لمج!تر:”هلك المتنطعون، قالها ثلاثا".
2 - التعصب للرأي:
وإلغاء الآخر بتفسيقه وتبديعه أو عيبه، وهو علي رأي صحيح من آراء العلماء، وهذا الآفة يعرفها القاصي والداني وعاني منها المسلمون اليوم.
ومن المواقف العملية التي تروى عن الإمام البنا - وربما رويت عن علماء آخرين أيضا- مما له دلالة بليغة في موضوعنا: أنه ذهب لزيارة إحدى القرى لإلقاء محاضرة هناك، وكان ذلك في رمضان، وقد انقسم أهل القرية إلى فريقين يختصمان حول صلاة التراويح أهي عشرون ركعة كما صليت في عهد عمر، وتوارثها الناس علي مر القرون بعد ذلك، أم هي ثماني ركعات فقط، كما ورد أن النبي (صلي الله علية وسلم) كان لا يزيد علي ذلك في رمضان ولا غيره ؟ رأيان تعصب لكل منهما فريق من أهل البلدة حتى كادا يقتتلان، وكل يدعي أنه علي الحق والسنة، وأن الأخر علي خظ وبدعة، فلما عرفوا أن الشيخ المرشد البنا قادم إليهم، رضوا أن يحتكموا إليه فيما اختلفوا فيه، وكل فئة تحسب أنه سيحكم لها ضد الأخرى .
ولكن الأستاذ الإمام -رحمه الله - اتجه بهم وجهة أخرى .
قال: ما حكم صلاة التراويح ؟
قالوا: سنة، يثاب من فعلها، ولا يعاقب من تركها.
قال: وما حكم الأخوة بين المسلمين ؟
قالوا: فريضة دينية، ودعامة من دعائم ا لإيمان.
قال: وهل يجوز في شرع الله أن نضيع فريضة للمحافظة علي سنة؟
إنكم لو أبقيتم علي أخوتكم ووحدتكم، وانصرفتم إلى بيوتكم، ليصلي كل منكم في بيته ما ترجح له واطمأن إلى دليله: ثماني ركعات أو عشرين لكان خيرا من أن تختصموا وتقتتلوا.
ذكرت ذلك لبعض الناس، فقال: هذا فرار من قول الحق، وبيان السنة من البدعة، وهذا واجب.
قلت: هذا أمر فيه سعة، وأنا - وإن كنت أصلي ثماني - لا أبدع من صلي عشرين. قال: ولكن الفصل في الخلاف واجب لا يجوز الهرب منه.
قلت: هذا صحيح حين يدور الأمر بين حلال وحرام، أو بين حق وباطل، أما الأمور التي اختلفت فيها المدارس الفقهية، وغدا لكل منها فيها وجهة، ودار الأمر فيها عادة بين الجائز والأفضل، فلا داعي للتشدد والتعنت فيها.
وهذا ما قرره العلماء المنصفون في وضوح وجلاء:
قال في”شرح غاية المنتهي” من كتب الحنابلة:
"من أنكر شيئا من مسائل الاجتهاد، فلجهله بمقام المجتهدين، وعدم علمه بأنهم أسهروا أجفانهم، وبذلوا جهدهم، ونفائس أوقاتهم في طلب الحق، وهم مأجورون لا محالة أخطأوا أو أصابوا، ومتبعهم ناج، لأن الله شرع لكم منهم ما أداه إليه اجتهاده، وجعله شرعا مقررا في نفس الأمر، كما جعل الحل في الميتة للمضطر، وتحريمها علي المختار، حكمين ثابتين في نفس الأمر للفريقين بالإجماع، فأي شيء غلب علي ظن المجتهد، فهو حكم الله في حقه وحق من قلده”.
ونقل عن ابن تيمية في الفتاوى المصرية قوله:
" مراعاة الائتلاف هي الحق، فيجهر بالبسملة أحيانا لمصلحة راجحة، ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب، كما ترك النبي (صلي الله علية وسلم) بناء البيت خشية تنفيرهم، ونص الأئمة كأحمد علي ذلك في البسملة، ووصل الوتر وغيره، مما فيه العدول عن الأفضل إلن الجائز، مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة، أو أمثال ذلك، والله أعلم. ويشير بترك بناء البيت إلي حديث النبي (صلي الله علية وسلم) الذي قال فيه لعائشة:”لولا قومك حديثو عهد بجاهلية، لبنيت الكعبة علي قواعد إبراهيم”.
3- اتباع المتشابه وترف المحكم البين:
وهذا شأن الذين في قلوبهم مرض وزيغ كما قال تعالى :” فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كر (آل عمران: 7).
ونعني بالمتشابه ما كان محتمل المعني وغير منضبط المدلول، ونعني بالمحكم البين المعني الواضح الدلالة المحدد الفهم، فتري الغلاة والمبتدعين من قديم يجرون وراء الشبهات ويجعلونها زادا لهم ويملأ ون بها جعبتهم، وكذلك غلاة اليوم، وهذا شيء بالغ الخطورة خاصة إذا جرئ وراء ذلك بعض الذين لا علم لهم.
4- غياب فقه التدرج: وعدم معرفة مقادير الأشياء وأجلها المسمي.
5- ضعف المعرفة بالتاريخ والسنن : وحوادث الأيام التي حض القران علي معرفتها.
6- البعد عن أدب الخلاف: وعدم الاطلاع علي ما قرره العلماء في ذلك، وقد ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في كتابه القيم”رفع الملام عن الأئمة الأعلام”، و"حجة الله البالغة" فولي الله الدهلوي، و"الإنصاف في أسباب الاختلاف”، وللشيخ علي الخفيف كتاب قيم أسماه:”أسباب اختلاف الفقهاء".
هذه بعض أسباب الخلاف وليس منها اتباع الآراء الصحيحة علي مناهج العلماء، ولكنه يؤسفنا -كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي -أن يخوض في الدين من لا يحسنونه ممن ليس لهم صلة بالدين إلا صلة الجهل والغباء أو الخصومة والعداء أو السخرية والاستهزاء، وهذا في الحقيقة يصب في خانات أعداء الإسلام الذين لهم أهداف أخرى - ما أظن أن هؤلاء النقاد يقصدونها، ولكن يجرهم إليها سلامة النية - وأهداف أعداء الإسلام ضرب التحرك الإسلامي الفاعل قبل أن يبلغ أشده ويهيمن علي القاعدة الشعبية والشارع الإسلامي ويصبح له دور سياسي بارز ومؤثر في الأمة بمنهجه المعتدل، وأساليبه الحضارية الساحرة النافعة في أمة هي في أشد الحاجة إلى أمثال هؤلاء المخلصين المضحين في سبيل أمتهم وعقيدتهم.
آخر الأسافي
لم يتورع المعترضون علي تعدد الآراء الاجتهادية عن الاستهزاء بأقوال العلماء وحقائق الرسالة الإسلامية والمنهج، فنري بعضهم يقول: يقول بعض القائلين بتعدد الآراء: أن وجود الاختلاف في المسائل الاجتهادية رحمة وعلامة صحة في فكر الأمة، وهو لحكمة ربانية، بها تتضح الآراء، ولستقم الأفكار، وتتحقق الحرية، فإذا صح ما زعموه أن اختلاف الأمة رحمة، إذن وربك فقد وجب أن يكون اتفاقها غمة ونقمة. هذا هو فهم البعض للإسلام، وليته وقف عند هذا الحد حتى يتفقه ولكنه أمعن فيما هو فيه من جهل وصار ينقد الآخرين من العلماء ويعيب عليهم.
يا هذا: إن الله يرحم الأمة ويخفف عنها بالآراء الصحيحة المتعددة التي تؤدي كلها إلى الخير لو اتبعت، ولو أراد الله أن يجعل الحكم واحدا لجاء بنصر لا يحتمل إلا وجها واحدا كآيات الميراث مثلا، وكثير من آيات الأصول في القرآن،”لكن الله سبحانه أراد نفي الحرج كما قدمنا، وليكون في ذلك تفريج للأمة وتيسير.
هل تحب التيسير في الأحكام إذا أرادها الله أم لا؟
ثم إن العلماء لهم آراؤهم في ذلك، وصدق القائل:
إذا كنت بالمعارف غرا
- ثم أبصرت حاذقا لا تماري
وإذا لم تر الهلال فسلم
- لأناس رأوه بالأبصار
ونعيد عليك ما قاله العلماء علك تري الصراط المستقيم:
الإختلاف الفقهي هل هو رحمة ؟
المشهور أن اختلاف مجتهدي الأمة في الفروع رحمة لها واسعة. والذين صرحوا بذلك احتجوا بما رواه ابن عباس مرفوعا”مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي. أن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة" .
وفي الحديث أيضا: ”وجعل اختلاف أمتي رحمة وكان فيمن كان قبلنا عذابا”.
واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التابعين من مثل قول القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله لمج!ز في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة، ورأي أن خيرا منه قد عمله.
وعن عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيي بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا، ويحرم هذا، فلا يعيب هذا علي هذا، ولا هذا علي هذا. وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الإختلاف - من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس، قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
إقرأ أيضاً
وصلات داخلية
|
تابع وصلات داخلية
وصلات خارجية
|