حوار مع الشيخ راشد الغنوشي: تنشيطاً للذاكرة وتقويماً للمفاهيم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حوار مع الشيخ راشد الغنوشي: تنشيطا للذاكرة وتقويماً لمفاهيم

النهضة أنفو : تمرّ الذكرى السابعة والعشرون لتأسيس حركة النهضة – الاتجاه الإسلامي سابقا- والحركة لم تسترجع حريتها التامة في التحرك والنشاط السياسي والدعوي.

هل يمكن رسم الملامح الكبرى لتطور وضع الحركة منذ تأسيسها إلى اليوم؟

الشيخ راشد الغنوشي:

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

يحيي أبناء النهضة في هذه الأيام ذكرى عزيزة على قلوبهم الذكرى السابعة والعشرين لتأسيس حركة الاتجاه الإسلامي في مفتتح القرن الهجري الجديد(1401)الموافق لـ 6 جون 1981 الذكرى التي مثلت محطة مهمة جدا في تاريخ البلاد والحركة الإسلامية، باعتبارها مرحلة انتقالية بين "النهضة" حاليا التي تأسست سنة1988 وبين"الجماعة الإسلامية" التي انبعثت قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات وعقدت مؤتمرها التأسيسي سنة1979 باعتبارها أول حركة إحياء إسلامي في دولة الاستقلال . يهمنا في هذه الذكرى العزيزة أن نلقي الضوء على النقاط التالية تنشيطا للذاكرة وتقويما لمفاهيم


حلقة أولى: السياقات التاريخية

١- "الاستقلال" هو أقرب إلى متابعة الاحتلال بوسائل أنجع: لئن نال المجتمع التونسي في ظل دولة"الاستقلال" حظا مهمّا من التعليم والتحديث إلا أن ذلك كان جهدا منبتا لم يتأسس على مرجعية الإسلام وتراثه وثقافته العربية بقدر ما كان ضدا لها مستهدفا تفكيك مقوماتها، فقد كان أقرب إلى اعتباره امتدادا -ولكن بوسائل أنجع- للإرث الاستعماري، عاملا على قطع البلاد عن امتدادها المشرقي العربي الإسلامي لصالح ربطها بما وراء البحار .. ومن ذلك، أن أول قرارات دولة الاستقلال القضاء على جامع الزيتونة أقدم جامعة إسلامية في إفريقيا، لم تتوقف منذ القرن الهجري الأول عن أداء رسالتها وإشعاعها شرقا وغربا إلا خلال سنوات الاحتلال الاسباني. كان يتابع العلم في مركزها وفروعها غداة الاستقلال أزيد من سبعة وعشرين ألف طالبا، بعد أن قطع أشواطا على طريق التحديث استيعابا لمكاسبه على أرضية إسلامية، وذلك مقابل مشروع الاحتلال في تحديث البلاد على طريق استلحاقها به، فكان منظوران للتحديث يتصارعان غداة "الاستقلال"، جاء هذا الأخير انتصار لمشروع التحديث التغريبي الاستلحاقي . كما صدور الوقف أعظم مصدر لقوة المجتمع الأهلي التونسي الذي كان يتحكم فيما يقرب من ثلث الملكية الزراعية، وألغيت المحاكم الشرعية، تحت شعار توحيد القضاء تمكينا لسيطرة دولة التغريب على القانون والثقافة والناس وتهميش دين الشعب. وبلغ استهتار الطاغية بالدين وبالشعب إلى حد انتهاكه جهارا لحرمة رمضان حاملا شعبه على ذلك حملا، بل بلغت به الوقاحة إلى حد السخرية من عقائد الإسلام من الجنة والنار ومعجزات الأنبياء ومن القرآن الكريم ذاته. ما دعا أئمة العالم الإسلامي إلى استتابته، فاستكبر وعتا. حتى أنه لم يتردد في نزع حجاب امرأة وتمزيقه على ملإ من الناس، وهو ما ورثته دولة البوليس، وحتى الكتاتيب لم تسلم من شره فغلّقت. أما بيوت الله فقد غدت مهجورة إلا من عجوز مدنف أو سائح متطلع.

٢- استشعار الخطر على الهوية وبدايات الصحوة الأولى: بعد عقد ونصف من تجربة المشروع التغريبي الشامل العنيف لدولة "الاستقلال"، بدأ المجتمع التونسي يستشعر خطرها على هويته ومقومات وجوده، فأخذ الطلب يشتد على مقومات الهوية الإسلامية العربية في الأوساط الشعبية، فتنزلت رحمة الله على عباده، إذ انبعثت النواة الأولى للحركة الإسلامية الحديثة ممثلة في ثلة من الشباب الإسلامي، شأن كل دعوة إسلامية، تنفض الغبار عن عقائد الإسلام تعيد وصلها بالحياة وبالعصر، تحريرا لأصل التوحيد من ضروب البدع والشركيات، وشاهدة لها ولكل أصول الدين بالعقل والنقل، في مواجهة ضروب الشرك الحديثة التغريبية ممثلة في مختلف ضروب العلمانيات التي تمكنت بقوة الدولة وفي ظروف دولية وإقليمية مناسبة من تهميش كامل للإسلام وتدمير مؤسساته، فأخذت الدعوة الجديدة تقارعها بخطاب جديد يمتد من عمق الإسلام مستفيدا من قوة أدوات العصر ومنطقه، فاتحة القنوات المنشدة بين عقائد الإسلام وبين آثارها اللازمة في حياة المسلم فردا وجماعة عبادات ومعاملات. كما تنفض الغبار عن كتاب الله عز باعتباره الدستور الأعظم لحياة المسلمين وعن سنة رسول الإسلام عليه السلام كما وردت في مصادرها باعتبارها الصورة المثلى للإنسان الكامل وللمجتمع الفاضل ، في كل مجالات الحياة. لقد أمكن للدعوة الجديدة في سنوات معدودات بسبب الجوعة الروحية التي عاشتها البلاد – وعادت إليها للأسف في عشرية التسعينيات الحمراء- أن تنفض الغبار عن بيوت الله التي كانت قد خلت إلا من عجوز مدنف الى القبر، فتعيد الارتباط المفقود الذي أتى عليه التغريب والانحطاط، بين العقيدة والحياة، بين الدين والعلم بين المسجد وحركة المجتمع والثقافة، بين الشباب والمسجد ، فدبت الحياة في بيوت الله وما لبثت أن امتدت إلى سائر مجالات المجتمع وبالخصوص إلى معاهد العلم الثانوية والجامعية، وما مضت غير عشرية حتى امتدت آثارها إلى كل أرجاء البلاد غير مقتصرة على بيوت الله التي عمرت بعد إقفار بالعباد من كل الفئات وبحلقات القرآن والفقه والثقافة الإسلامية، حتى لم يكد يخلو معهد ثانوي ولا كلية ولا مبيت جامعي من مصلى ومكتبة إسلامية ومجلة حائطية، ثم ما لبثت المصليات أن امتدت تخترق كل مؤسسات المجتمع الثقافية والإدارية والاقتصادية.. لقد كانت حركة مجتمعية ..خطابها موجه إلى الجميع رجالا ونساء متعلمين وأميين، في المدن والأرياف، إلا أنها كانت تتفاعل مع كل وسط دعوي بما يناسبه من خصوصيات، رغم أن المحور العام الذي يلتقي عليه الجميع كان ربط الناس بخالقهم وفق ما جاء في القرآن والسنة،على منهاج السلف متفاعلا مع ثقافة العصر وهموم المجتمع، بما يجعل حياة المؤمنين أفرادا وجماعات عبادة يتجلى فيها الحضور الإلهي الفاعل.

لقد كان هذا التصور العقدي الإحيائي الشامل امتدادا لجهود الحركة الإصلاحية التي عمت أرجاء العالم الإسلامي وتأخرت في تونس بعض الوقت بسبب الهجمة التغريبية الشرسة. وكان من أعلام تلك الحركة تونسيون مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحركة الوطنية والشيخ ابن عاشور ومن قبلهما حركة الوزير خير الدين. ولقد وأدركنا من بقايا جامع الزيتونة المغدور، وشيوخ الإصلاح وتلقينا عنهم :الشيخ سيدي محمد الصالح النيفر والشيخ عبد القادر سلامة والشيخ ابن ميلاد والشيخ الخياري والشيخ محمد الإخوة والشيخ عبد الرحمن خليف..الخ .. رحمهم الله جميعا.. فامتزج في تكوين الجيل الاول هذا التراث الإصلاحي التونسي مع الوافد الفكري الإصلاحي المشرقي ممثلا في أعمال البنا وقطب والسباعي والمودودي والندوي وإقبال.. الى جانب تراث ابن نبي والفاسي. امتزج كل ذلك مع ما أرسته الثقافة الحديثة من مناهج عقلانية ونقدية لتتشكل من كل ذلك المزيج وتلك الروافد معالم الشخصية الثقافية للحركة الإسلامية في تونس من أجل التحقق بالهدف الإصلاحي العام- آخذا بعين الاعتبار خصوصيات البلاد نهاية- ألا وهو الدخول مجددا بالإسلام وأمته في حركة نهضوية شاملة تستعيد للأمة العزة وللدين قوامته على الحياة وتستوعب مكاسب الحداثة بشروط الإسلام ومن أجله، فكانت حركة فكرية اجتماعية شاملة، اتخذت من الكلمة أداتها، ومن التحقق برباط الأخوة بوتقة عملها، فكانت الدروس المسجدية والمحاضرات والمجلات ونشر الكتاب والمخيمات والرحلات والأسابيع الثقافية والاعتكافات المسجدية محاضن للتربية.

٣- الخلفية التنظيمية: لم يكن هذا الحراك العام الذي عم خلال أقل من عشرية أرجاء البلاد بلا مركز بل كان مركزه ثلة من الشباب وجدوا احتضانا من قبل بعض شيوخ الزيتونة ممن ذكرنا، ثلة من الشباب بدأت عملها على طريقة جماعة التبليغ في المساجد، بسبب افتقاد المجموعة لأي تجربة تنظيمية سابقة، إلا أنها اضطرت منذ تجمع سوسة سنة1973 الذي تصدى له الأمن إلى أن توزع عملها بين عمل عام وبين عمل اصطفائي تربوي تنظيمي إعدادا للطليعة، توسع، فاقتضى المأسسة، فكان المؤتمر التأسيسي سنة 1979 الذي انبثق عنه قانون أساسي ضبط مؤسسات "الجماعة": المؤتمر العام ومجلس الشورى والمكتب التنفيذي ومجالس الجهات والأسر التربوية.

تلك كانت المحطة الأولى للحركة، محطة الجماعة الإسلامية التي كانت بحكم الطبيعة الخاصة بأي تأسيس إسلامي جديد تغلب عليها الطبيعة العقدية التربوية، فلا تلامس السياسة إلا بالعرض، وبالخصوص في بلد عاش تجربة تحديث هوجاء استهدفت تفكيك مقومات هويته، فكانت معركة الهوية وليست شؤون الحكم، الساحة الأساسية لعمل "الجماعة" ، وهو ما جنّبها وهي في المهد الصدام الواسع مع الحكم، لا سيما ولم تكن لأجهزته- حينئذ- خبرة في المجال الإسلامي المناضل، بل قد حسب أنه قد فرغ من الإسلام نهائيا، إضافة إلى أنه كان مشغولا بمواجهة التيارات اليسارية التي كانت تستهدف وجوده، وذلك قبل أن ينجح في تدجين معظمها ليحوّلها سمادا في تربته وكلاب حراسة على أبوابه.

4 - تطورات في البلاد: مع نهايات السبعينيات، كان الوجود الإسلامي قد طفح إلى السطح واتسع نطاق عمله وأخذت تتسرب إلى خطابه أصداء متزايدة من هموم الناس المجتمعية، طافحة من الصدام المتصاعد بين المصالح المحتدمة في المجتمع: مصالح العمال تنطق باسمهم النقابات، ومصالح أرباب المال ممثلين للرأسمالية الدولية الزاحفة تحميهم الدولة، بدأت الحركة تستوعب مفردات هذه المعركة، مفردات، ليست مما ألفت وطفحت بها الأدبيات الإسلامية، مفردات الصراع العقدي ضد الإلحاد والشيوعية والعلمانية، وساعدها في استيعاب مفردات هذه المعركة ما أخذ يصلها من أصداء الثورة الإيرانية وما طورته وأشاعته من ثقافة إسلامية كشفت في الإسلام عن أبعاد مجتمعية غير مألوفة في أدبيات النشأة، مثل الصراع بين المستكبرين والمستضعفين، هذا الصراع الذي يقسم العالم تقسيما آخر، حيث يجد المسلم نفسه مناضلا في جبهة عالمية واسعة جبهة المستضعفين، اتفقوا معه في الملة أو اختلفوا، في مواجهة معسكر ممتد معسكر المستكبرين على اختلاف مللهم. لقد مثّل ذلك نوعا من الإسعاف للحركة الإسلامية من أجل استيعاب الصراع المجتمعي الدائر، في مواعين إسلامية، تتيح لها التموقع في جبهة المستضعفين أي الحركة النقابية، حتى أنها أقبلت على تنمية الحس الاجتماعي في ثقافة واهتمامات صفّها. ومن ذلك أنها أقامت في سنتي 1980 و1981 احتفالا مهيبا بعيد العمال الأول من مايو، وذلك في أكبر مساجد العاصمة جامع صاحب الطابع، حيث تحدّث فيه خطباؤها عن حقوق الإسلام في الإسلام وعن إعادة توزيع الأراضي الزراعية. كما أن الحركة مدت خيوط اتصالها مع الحركة النقابية منخرطة في صراعاتها .

غير أن هذه التطورات بقدر ما ضاعفت من شعبية الحركة بقدر لفتت أنظار الخصوم إليها وبالخصوص الدولة وحزبها وأمنها وقد فرغوا لتوهم من اتحاد الشغل، وكان متوقعا أن لا تنتظر الهجمة عليها سنتين إلا أن حادث قفصة جانفي 1980أخر الضربة سنة ونصفا سقط خلالهما حكم نويرة واشتدت أزمة الحكم فجاءت تنفيسات محمد مزالي حاملا مشروعا انفتاحيا لإخراج الدولة من حالة الانسداد ، فأعلن رئيس الدولة في أبريل عن مشروع تعددي خجول، تفاعلت معه الحركة إيجابيا وبسرعة إذ وجدت فيه- أو خيل لها ذلك- مخرجا مما تعانيه من ملاحقة وحرج بعد أن غدا تنظيمها مكشوفا عند السلطة، بل هي كانت عندئذ بصدد مناقشة مشروع للإعلان عن نفسها قبل أن تعلن الدولة ذاتها عن مشروعها التعددي، فطرحت القيادة على صفها "مشروع الإعلان عن الحركة" . وبعد مناقشات استمرت حوالي شهرين أجرت داخل صفوفها أول استفتاء في تاريخها، حصل فيه الإعلان على أغلبية 70% من الأصوات. فانعقد مؤتمر استثنائي في نفس السنة 1981 أقر الإعلان والقانون الأساسي لحركة الاتجاه الإسلامي وانتخب القيادة وعهد إليها وضع التراتيب العملية لتنفيذ المشروع .

5 - حركة الاتجاه الاسلامي:انعقدت يوم 5-6- ١٩٨١ جلسة ببيت الشيخ محمد الصالح النيفر حضرها ثلاثون من الهيأة التأسيسة لحركة الاتجاه الإسلامي، رموز جهوية ومن العاصمة، ناقشوا البيان التأسيسي وتم إقراره نهاية، وقد مثل وثيقة مهمة جدا ليس على صعيد الحركة الإسلامية في تونس بل على صعيد الفكر السياسي الإسلامي الحديث وبخاصة العربية بما بلوره من تصور للإسلام وللدولة المعاصرة ولمناهج العمل السياسي، فقد رفض بحسم كل طرائق العنف سبيلا للتغيير، ودافع عن مؤسسات المجتمع المدني وبخاصة النقابات، وأقر بلا لبس حقوق المواطنة للجميع دون إقصاء أو تمييز، ومن ذلك أنه أقر تعددية لا تستثني أي تيار ما دام يتوسل إلى أهدافه بالوسائل المدنية، ومن ذلك حق مشاركة المرأة ، كما دعا إلى مساندة الشعوب المستعمرة في التحرر من الاحتلال..واعتبر تجديد الفكر الإسلامي مهمة رئيسية من مهمة الحركة. كما دعا إلى العمل المشترك مع المعارضة تعزيزا لسوابق على هذا الصعيد، نشأت منذ نهاية السبعينيات، حتى تحولت إلى لجنة اتصال جمعت ستة أحزاب كانت لها أعمال مشتركة تكثفت في الثمانينيات.

6- المواجهة الأولى مع السلطة:خلافا للمنطق ولمصلحة البلاد لم تستقبل السلطة هذا التطور النوعي الذي نقل حركة واسعة الانتشار من طور العمل السري إلى العمل المدني ملتزمة بقوانين البلاد على ما هي عليه من ضيق وبرفض العنف سبيلا للتغيير، بل اشتد خطابها في الهجوم عليها كما استمرت أجهزتها الأمنية في الإعداد على قدم وساق للهجمة عليها، ولم يبخل الإعلام الفرنسي في صب زيته على النار المتصاعد لهبها، فقد كتب مراسل لومند في تونس ميشال دوري تقريرا تحريضيا على الحركة أخرجها في صورة الغول المتوحش الزاحف على مكاسب الحداثة في تونس حاشدا جملة من الأكاذيب والمبالغات، حتى أن المحامين خلال محاكمة قيادة الحركة صرخوا في وجهه وطردوه باعتباره ضالعا في الهجمة. وللحقيقة لم يكن موقف الجريدة عدوانيا خلال محاكمات 1987. في ليلة 17رمضان ليلة الاحتفاء بذكرى غزوة بدر من السنة الأولى من القرن الهجري الجديد وفي نفس اليوم الذي أعلن فيه رسميا عن استقبال رئيس الدولة للامين العام للحزب الشيوعي في قصر سقانس، ليعلمه برفع الحظر عن نشاط حزبه، نكاية أخرى في الإسلام وأهله. وبينما كان خطباء الحركة موزعين على المساجد يحيون هذه الذكرى، انطلقت الحملة الأولى على قيادة "حركة الاتجاه الإسلامي" في العاصمة والجهات، شملت على امتداد سنتين حوالي 500 منهم ،أحيلوا على القضاء المدجن، بعد حمامات تحقيق في مخابئ وزارة الداخلية.

ولأنها كانت مظلمة واضحة فقد انبرى العشرات من المحامين فرسان الدفاع عن الحرية متطوعين للذود عنهم يقودهم العميد السابق الأستاذ محمد شقرون رحمه الله الذي كان يستصرخ "ضمير المحكمة" مهيبا بها أن لا تدمّر هذه الزهرات التي نبتت في هذه المزبلة- حسب تعبيره-، كما أن حركات المعارضة الديمقراطية وقفت لجانب الحركة -عدا الحزب الشيوعي- وكذا جريدة الرأي الغراء، لم تكن التهم تتجاوز ما هو متعارف من تكوين جمعية غير مرخص فيها وثلب للنظام ، إلا أن الأحكام الجاهزة وصلت الى 11سنة لعناصر القيادة. لم تستطع السلطة أن تقنع الرأي العام الديمقراطي في الداخل ولا المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي ظلت أبدا تدرج سجناء الحركة ضمن سجناء الرأي مطالبة بالإفراج عنهم، ثم تولت جريدة الرأي صوت الحرية سنة 1983 قيادة حملة واسعة للعفو التشريعي العام. ومن جانب فإن هذه الاعتقالات الواسعة في صفوف القيادة التاريخية لم تفتّ في عضد الحركة إذ هي استمرت بل تصاعد نشاطها على يد جيل قيادي جديد كان من أهم رموزه حمادي الجبالي وعلي العريض ومحمد العكروت ...كما تصاعد نشاط الحركة في المجال النقابي وخصوصا في الجامعة حيث ترجحت كفة الإسلاميين فارضين شعار "الحرية في الجامعة وفي البلاد للجميع، بما وضع حدا للفوضى اليسراوية وللعنف وفرض العود إلى الانتظام النقابي. ولأن اليسار رفض عقد مؤتمر عام للحسم في الخيارات النقابية فلم يبق أمام الإسلاميين غير الاتجاه إلى عقد مؤتمر تأسيسي لتنظيم طلابي جديد. وهكذا بان جليا أن الضربة التي وجهت للتيار الإسلامي لم تجهز عليه بل زادته قوة ورسوخا، وتكثف الضغط على السلطة، وأخذت تنطلق مبادرات من بعض المحامين داعية إلى الإفراج عن المساجين أفضت سنة1984 وفي أعقاب انتفاضة الخبز المجيدة إلى إطلاق سراح كل مساجين الحركة. أما مساجين اليسار والنقابيين فقد أطلق سراحهم منذ أوائل الثمانينيات لتنتهي دورات السجون معهم لتستقبل منذئذ وحتى يوم الناس هذا عشرات الآلاف من المؤمنين.

7- المؤتمر الثالث : انعقد في أعقاب خروج القيادة التاريخية مؤتمر انتخابي أفرز قيادة مزيجا من الجيلين ، فشهدت الحركة أخصب طور من أطوار نشاطها، فامتدت في أعماق البلاد وفي كل مؤسساتها، وأنضجت على الصعيد الفكري رؤيتها العقدية الوسطية، أرست مدماكا صلبا لوحدتها، وأخذت تتعمق في دراسة أطوار التاريخ الحضاري لتونس وذلك ضمن مشروع الأولويات الذي بدأت القيادة السابقة طرحه، خروجا من العموميات الإسلامية، أو تواصلا بها مع خصوصيات واقع البلاد، وتوثيقا للصلة معه، إلا أن الصراع على السلطة الذي كان يدور حول خلافة الرجل المريض، سارع إلى قطع الطريق عليها وزج بها وقودا للصراع على المتنافسين على عرشه.

فضلا عما كان يقتضيه دخول تونس في بوتقة السوق الرأسمالية من قضاء على كل قوة جماهرية يمكن أن تعيق عملية الدمج القسري المرادة أو تحتج على تكاليفه الباهضة ، وذلك بعد أن حوصرت حكومة محمد مزالي وأشرفت على الإفلاس تمهيدا للإطاحة بها وبالنفس التعريبي المراد رأسه.

كل ذلك كان يقتضي الإطاحة بقوتين أساسيتين أو تدجينهما هما اتحاد الشغل الذي زج سنة 1986 بقيادته في السجون وتم بعد ذلك تدجينه من خلال شراء عدد من قياداته، بعد أن تمت إزاحة رمزه التاريخي رحمه الله على يد "عهد التغيير". أما الطرف الآخر فهو التيار الإسلامي الركن الثالث في معادلة القوة في البلاد: السلطة واتحاد الشغل والحركة الإسلامية. وكما لاحظ أحد السياسيين العارفين، أن ضرب ركن من هذه الأركان لا يمكن أن يتم إلا بالتحالف مع الركن الثالث، وهو الذي كان بعد الإطاحة بعاشور، فتحالفت قيادة الاتحاد البديلة الملونة بالأحمر لأول مرة في قوائم انتخابية مشتركة مع حزب السلطة سنة1981 بينما قيادة الاتجاه الإسلامي تدار عليها رحى السلطة في المحاكم ، ومنذئذ استمرت هذه المنظمة العريقة تدور في فلك السلطة متواطئة معها ضد حقوق العمال لمصلحة جهازه البيرقراطي الشخصية.

وفي اجتماع للجنة المركزية للحزب الحاكم سنة 1986،أعلن العجوز المهووس بالإسلام وبتألّهه أنه يريد أن لا يخرج من الدنيا وفي تونس اخوانجي واحد، وهكذا توفرت الظروف الدولية والمحلية لتجعل من مشروع استئصال الحركة الإسلامية جزءا من استراتيجيا دولية رأسمالية كما هي جزء من إستراتيجية المتنافسين على خلافة العجوز، الذي ارتكب أكبر أخطاء عمره خلافا لقناعاته الثابتة إذ عهد بمنصب سياسي حساس هو وزارة الداخلية لجنرال هو الرئيس الحالي من أجل قمع الحركة الإسلامية فوفر له فرصة الانقلاب عليه.مستفيدا من هواجس القوى الدولية والرأسمالية المتلمّظة من الإسلام والإسلاميين مستخدما إياهم فزاعة للعجوز ولتلك القوى في الآن ذاته ، مزيحا من طريقه كل المتسابقين على الخلافة. لقد كان العجوز مصمما على هدر دماء قادة الحركة الإسلامية واستشاط غضبا لما وقفت الأحكام الصادرة ضدهم عند الحكم بالسجن المؤبد فقرر إعادة المحاكمة تعسفا، إلا أن الانقلاب عليه حال دونه وإرواء ضمإه إلى دمائهم. إنها سنة الله في التدافع" ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" البقرة.

٨ - المؤتمر الرابع: كانت الحركة الإسلامية سنة 1986 تتنافس داخلها رؤيتان استراتجبتان: الأولى تؤكد على أولوية السياسي ممثلا في التفكير في سبيل يجنب البلاد الوقوع في قبضة العسكر، بفعل الفراغ البادي في الرئاسة، بينما الثانية تؤكد على أولوية الدعوي الاجتماعي. وفي المؤتمر الذي انعقد في بداية السبعينيات كان للخيار الأخير الفوز ، إلا أن هذا الخيار بمجرد أن وضع موضع التنفيذ إذ باشر بعض رموز الحركة التدريس في المساجد حتى وقفت السلطة في طريقهم فكان ذلك السبب المباشر للتعجيل بضربة كانت الأجهزة تعد لها في الصيف، فبدأت الهجمة الشعواء في 9-3-1987 باعتقال رئيس الحركة وعلى مدى بضعة شهور بلغ عدد المعتقلين حوالي عشرة آلاف معتقلا تتابعا بين مسيرة واعتقال. وكانت فرصة الجنرال الطموح للانفراد بالعجوز المهووس، يغذي لديه المخاوف من الإسلاميين والبغض لهم، حتى تمكن منه وانقلب عليه منقذا له من نفسه كما قيل بل منقذا مشروعه التغريبي، بل أكثر من ذلك، مشروع إدماج تونس في السوق الرأسمالية.