ماذا أعددنا لما بعد الإحتكام؟
ماذا أعددنا لما بعد الاحتكام؟
ستتوجه الحكومة بالقضية إلى مجلس الأمن، ولن تعدو النتيجة أحد أمرين: فإما أن تعترف لنا الدول بحقنا فتطالب بريطانيا بالجلاء عن أرض الوادى وتعترف بوحدته الحقيقة، وحينئذ ما أحوجنا إلى التفكير الطويل فى بناء حياتنا الداخلية، وتنظيم علائقنا الخارجية، على قواعد تستمد من معانى قوميتنا الصريحة، ومن نظام الإسلام الحنيف، ومن روح هذا التطور العالمى الإنسانى الجديد، نحو المثل العليا، والأهداف النافعة، والمعانى العالية السامية. وإما أن تتغلب المصالح الاستعمارية على الحق الواضح المنير، فلا نظفر بما كنا ننتظره ونرجوه من تقدير الدول الكبرى لمعانى الحرية والحق والنصفة، وذلك أمر محتمل غير بعيد الوقوع، وإن كنا لا زلنا نرجو أن يكون الضمير العالمى قد استيقظ، والفكر الإنسانى قد اتجه نحو الخير بعد هذه الدروس القاسية التى ذاقتها الأمم والشعوب فى هذه الحرب الضروس، ولذلك كان من الواجب أن نعد أنفسنا من الآن لمواجهة هذا الموقف. وإنما يكون الإعداد من جانب الحكومة بأن تكاشف الأمة فى صراحة ووضوح بتطورات القضية، ولا تدعها تتلقف أخبارها من هنا ومن هناك، فليس أضر من سياسة الصمت فى الموضوعات التى لا سناد فيها للحكام إلا قوة الشعوب ويقظة الأمم. كما أن من واجب الحكومة منذ الآن أن تسرع فى تأليف لجان فنية للنظر فى كل النواحى والمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التى تترتب على موقف الخصومة الجادة مع الإنجليز ومناصريهم، ذلك الموقف الذى سنلجأ إليه مضطرين بعد إن فقدنا الأمل فى عبارات السلام والوئام والحق والإنصاف. ومن واجب الحكومة كذلك أن تدعو كل الهيئات الوطنية، التى تستجيب لها، لتكاشفها بحقائق الموقف حتى تستطيع هذه الهيئات أن تعد نفسها، وتعد الشعب على اختلاف طبقاته لمواجهة هذا الموقف بما يجب أن يواجه به من جهاد وكفاح. وأذكر أن الملك فيصل بن الحسين رحمه الله حين ذهب إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب الماضية- وقد كان ملكا لسوريا حينذاك- استدعى إليه رؤساء الناس وشيوخ العشائر والقبائل، واتفق معهم على ما يجب أن يعمل إذا خذلته الدول الغربية، وأخلفت عهودها ومواثيقها مع العرب، ولو استمر -رحمه الله- فى خطته هذه ولم يعدل عنها، وهو فى أشد الأوقات حاجة إليها لكان للأمم العربية وضع آخر فيما نظن، ويجب أن نعتبر بتاريخنا ونستفيد مما مر بنا من حوادث وعبر. ومن واجب الحكومة كذلك أن تهيئ الفكرة فى الشعوب الغربية والدول العربية، وتبصرها فى وضوح وصدق لباقة بالنتائج الخطيرة التى تترتب على مثل هذا التحدى للحق وللعرب والشرق حتى تكون على بينة من الأمر. كل هذه واجبات حتمية يجب أن تشرع الحكومة سريعا فى العمل على تحقيقها، وإذا كان الشعب المصرى يبدو الآن هادئا ساكنا، فإن فى أفئدته من مراجل القلق ما لو انفجرت لدوى صوتها بين المشرق والمغرب، ولكنه يريد أن يقطع السبيل على المتربصين، ويقيم الحجة على الكاذبين ويمضى فى شوط الحلم الحكيم إلى نهايته، حتى إذا يئس من إنصاف الناس إياه عرف كيف ينصف نفسه ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل﴾[الشورى: 41].
المصدر:
جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (316)، السنة الثانية، 23 جماد ثان1366 ﻫ/14 مايو 1947م بم يسمى هذا الموقف ومن الذى يستفيد منه؟
دهشت أعظم الدهشة حين قرأت أمس برقية صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا إلى رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة، وراجعت تلاوتها مرات وأنا أكاد أكذب نظرى كل مرة، وأسائل نفسى أحقيقة هذا الذى أقرأ؟! وفى أسف شديد وحزن عميق أخذت أسائل نفسى مرة أخرى: بم يسمى هذا الموقف ومن الذى يستفيد منه؟ وما الدوافع إليه، وبم تتحدث عنا بعده الأمم العربية والشعوب الإسلامية ودول العالم أجمع؟. يقول رفعة النحاس باشا فى برقيته: إن شكوى مصر إلى مجلس الأمن "بعيدة عن أن تعبر عن وجهة نظر الشعب المصرى الذى انعقدت إرادته الإجماعية على تحرير وادى النيل كله وتثبيت دعائم استقلاله" وهو قول غير صحيح فقد طلبت الحكومة فى عريضة الدعوى صراحة وفى غير لبس الجلاء التام عن وادى النيل كله مصره وسودانه" وفى الفقرة الثانية يستعدى رفعة النحاس باشا مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة على حكومة مصر الديكتاتورية، ويطلب إلى هذه المؤسسة الدولية ألا تصغى إلى هذه الحكومة فى شىء وأن تستمع إلى صوت الوفد وحده صاحب الأغلبية الساحقة فى مصر، ولا أدرى ما الذى يريده رفعة الباشا بهذا الاستعداء، وما القيمة العملية له، وهل من اختصاص مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن تفرض الحكومات فرضا على الأمم والشعوب، وأن تتدخل فى أخص خصائص الأمور الداخلية للأمم، وهل يستطيع رفعة الزعيم أن يقول أن الوفد المصرى صاحب الأغلبية فى جنوب الوادى فى السودان وليس للوفد هناك لجنة واحدة، وقد أيد وفد السودان عريضة الحكومة، وقال رئيسه فى عبارة صرحية واضحة جوابا على سؤاله رأيه فيها: "ليس فى الإمكان أبدع مما كان". وفى الفقرة الثالثة يرى رفعة الباشا من واجبه أن يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن شكوى تلك الحكومة التى تحكم مصر فعلا لا يمكن أن تكون لها قيمة الوثيقة القومية المعبرة عن مطالب شعب وادى النيل، ومعنى هذا أن رفعة رئيس الوفد المصرى يحرض مجلس الأمن فى صراحة على رفض هذه الشكوى، وحذف هذه الوثيقة من جدول الأعمال ليرجع وفد مصر خاسئا وهو حسير، ولا ندرى هل سيكون الخاسر فى هذه الحالة النقراشى باشا وحده، أم ستكون اللطمة القاسية إذا جارى مجلس الأمن رفعة الرئيس على ما يريد؟ [ولن يفعل للحكومة المصرية وللأمة المصرية جميعًا]، وإذا كانت البرقية قد أخذت على عريضة الحكومة أنها لم تطلب فى أمر السودان إلا إنهاء النظام الإدارى، فقد كان من الإنصاف أن تذكر كذلك أن هذه العريضة قد أشارت إلى أهمية الوحدة وضرورتها وأنها أمر طبيعى لامناص منه كما أشارت إلى بطلان اتفاقية 1899 ومعاهدة 1936 وإنما صيغت الفقرة المشار إليها هذه الصياغة لتفوت على الإنجليز دعواهم الفاسدة واتهاماتهم الباطلة لمصر بأنها تريد استعباد السودان والسيادة عليه، ولتطمئن الإخوان السودانيين فى الجنوب على هذا المعنى فلا يكونوا إلبًا عليها. وقد نجحت هذه الخطة فعلا فارتفع صوت السودان مؤيدا لمصر، وفات على الإنجليز ما يقصدون. على أن أمر الوحدة لا يعنى المجلس ولا يسمح للإنجليز أن يتحدثوا عنه، لأنه أمر بين المصريين والسودانيين كأبناء وطن واحد يسوونه بينهم كما يريدون والعقبة الوحيدة التى تحول دون ذلك هى الاحتلال الإنجليزى والإدارة الثنائية، فإذا طالبت مصر بالجلاء عن الوادى، وبإلغاء الإدارة الثنائية فقد صار معنى هذا قيام الوحدة فعلا بين السودان ومصر، وإذا كان هناك ما يتنازع عليه قائما يعنيهم وحدهم. لو أن رفعة الباشا اقتصر فى برقيته على الفقرات الأخيرة منها، وشرح للمجلس وللهيئة ما غمض من نصوص عريضة الدعوى لكان ذلك أمرا مشكورا وموقفا وطنيا رائعا محمودا، أما وقد جاءت برقيته على النحو الذى رآه القراء فإن ذلك أمر يوجب مزيد الأسى والأسف ولا نجد ما يوصف به هذا الموقف بأقل من أنه سقطة سياسية وعثرة وطنية لا يقيل منها شىء إلا أن يشاء الله. نكتب هذا الكلام مع أن بيننا – نحن الإخوان المسلمين- وبين رئيس الحكومة حسابا طويلا فى كثير من المواقف والشئون الداخلية، ولكننا نستطيع أن نفرق بين ما نتحاسب عليه اليوم وما نؤجله إلى الغد القريب، ونعلم تمام العلم أنه لا خلاف بين أحد من المصريين فى أمر السياسة الخارجية وحقوق هذا الوطن، وأن قضيتنا وقد برزت إلى الميدان الدولى أحوج ما تكون إلى أن تؤيدها كل الجهود، وتلتقى على هذا التأييد كل الأصوات والأعمال.