الجماعة الإسلامية
تمتاز بدايات تشكّل الحركة الإسلامية في لبنان أواسط خمسينيّات القرن العشرين بأنّها التقت على فكر ولم تتجمّع حول رجل، وهذا ما جعلها حركة تعدّدية منفتحة منذ بداياتها. فقد كان لبنان محطّ ركاب عدد كبير من رموز العمل الإسلامي والمفكّرين المسلمين، خاصّة بعد تعرّض الحركة الإسلامية في العالم العربي لأزمات ومحن مع أنظمتها، وكانت بيروت تستقبل كلّ التيّارات الفكرية العربية المضطهدة والملاحقة في أقطارها، وكانت حركة الطباعة والنشر فيها أبرز وسائل نشر الفكر العربي، سواء منه القومي أو الاشتراكي أو الإسلامي.
وكان الشباب المسلم اللبناني يتابع ويطالع ويتشكّل، ممّا أدّى إلى بروز مجموعات إسلامية في أكثر من مدينة لبنانية. وكانت طرابلس أبرز محاضن التيّارات الإسلامية الناشئة، فقد كان الدكتور مصطفى السباعي (المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا) يزورها، ويرعى اللبنات الأولى التي بدأت فيها وتتلمذت على فكر جماعة الإخوان المسلمين، الذي كان يصل عبر المجلاّت السورية (الشهاب عام 1956) و(المسلمون) و(الدعوة) المصريّتان، إضافة إلى الكتب الفكرية الإسلامية التي بدأت إصداراتها في بيروت عبر دور النشر التي انتقلت إليها من دمشق والقاهرة وكلّ العواصم العربية. يضاف إلى هذا تجمّع عدد كبير من رموز الحركة للعمل في أقطار الخليج، وكان موسم الصيف فرصة لعقد لقاءاتهم المفتوحة، ولنشر كتبهم الجديدة، وكانت المجموعات الإسلامية الناشئة تستفيد من هؤلاء القادمين في المحاضرات العامّة واللقاءات الخاصّة، ممّا ساهم في إنضاج بروز الحركة الإسلامية في لبنان. وإذا كانت البصمة الأبرز تمحورت في "جماعة عباد الرحمن" في بيروت، والمجموعة التي بدأت تتشكّل في طرابلس هي للدكتور مصطفى السباعي الذي لجأ إلى لبنان عام 1952 خلال فترة حكم أديب الشيشكلي في سوريا، فإنّ عدداً من رموز جماعة الإخوان المسلمين المصريين تجمّعوا في بيروت، وكان لهم أثر بارز في رعاية بدايات العمل الإسلامي في لبنان. وكانت لهؤلاء جميعاً رؤاهم وتوجّهاتهم المتباينة أحياناً، ممّا ساعد على بروز تيّار إسلامي لبناني منفتح ومتعدّد، يلتقي على الفكر عبر الكتاب والمجلّة وليس على الشيخ والزعيم المؤسس كما كانت الحال في معظم الأقطار عند تشكّل العمل الإسلامي فيها. ومع بداية ستّينات القرن العشرين كان لا بدّ للحركة الإسلامية في لبنان أن تستقرّ وتتميّز، فجماعة عباد الرحمن في بيروت كانت تريد أن تنأى بنفسها عن أيّة اهتمامات فكرية أو سياسية، خاصّة في تلك الفترة التي كان التيّار القومي الناصري يسيطر على الساحة الوطنية اللبنانية، وكانت البعثات الأزهرية تقود الساحة الإسلامية بتوجيه من القاهرة، لذلك فقد تميّزت مجموعات من الشباب المسلم، بشكل رئيسي في طرابلس وشمال لبنان، وتواصلت مع مجموعات في بيروت وبقيّة المناطق اللبنانية، حيث جرى عام 1964 إطلاق "الجماعة الإسلامية". وعلى الرغم من أن الدكتور فتحي يكن كان أبرز مؤسّسي العمل الإسلامي المنظّم في لبنان، لكنّه كان واحداً من مجموعة من العاملين في الحقل الإسلامي، وكانت له إسهاماته الفكرية عبر كتب كان ينشرها أو مقالات صحفية، لكن الجماعة كانت لها خياراتها الفكرية التي تنسجم معه أحياناً أو تختلف، وقد حدث أواخر الستّينات أن أُبعِد من الأمانة العامّة للجماعة فترة ولاية كاملة، وحدث هذا دون إعلان، بسبب خلاف فكري، وجرى انتخابه مرّة أخرى بعد التزامه بأن يعتبر ما يراه هو رؤية خاصّة، وأن يلتزم بتوجّهات الجماعة الفكرية والسياسية، التي تعتمدها مؤسّساتها المنتخبة. بدايات الدور السياسي: في عام 1970 جرى انتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، وتشكّلت أول حكّومة برئاسة الرئيس صائب سلام رحمه الله. وعقدت "حكومة الشباب" هذه خلوة من أجل إطلاق برنامج إصلاحي في الإدارة والحكم. وكوسيلة لإصلاح الإدارة وزيادة الإنتاج قرّرت الحكومة اعتماد دوامين للعمل، سواء في الإدارات أو المؤسّسات أو المدارس والجامعات. وقرّرت إلغاء العطلة المدرسية يوم الجمعة، واعتماد عطلة أسبوعية يومي السبت والأحد. وقد بدأت الجماعة يومها أوّل تحرّك إسلامي عريض احتجاجاً على إلغاء عطلة الجمعة، انطلاقاً من أنّ ذلك يتنافى مع حقّ المسلمين في أداء صلاة الجمعة، وأطلقت الجماعة يومها ما سمّي "التجمّع الإسلامي" في طرابلس، و"الهيئات الإسلامية" في بيروت، وبدأت تحرّكاً واسعاً على كلّ المستويات ممّا حمل الحكومة على أن تتراجع عن قرارها، لكن دون أن يحمل تحرّكها أيّ طابع طائفي، فقد نشرت ملصقات متعدّدة كان أبرزها ملصقاً يقول: "الجمعة كما الأحد" بمعنى أنّنا نراعي مشاعر بقيّة المواطنين المسيحيين، ونطلب أن نكون معهم على قدم المساواة، دون إلغاء أو اعتساف. وعندما بدأت الحرب الأهلية عام 1975 كانت الجماعة عنصراً فاعلاً على الساحة اللبنانية، سياسياً وعسكرياً، لا سيما في مناطق الشمال. وقد بلغ الاحتقان الطائفي أوجه في ذلك الوقت، وكانت المواجهات في الشمال تتمحور بين طرابلس وزغرتا، وكانت للجماعة محاور قتالية لا سيما على جبهات أبي سمراء – مجدليا، لكن أداء الجماعة كان دفاعياً، ولم يسجّل عليها أيّ مواجهات أو تصفيات ذات طابع طائفي، مع أنّ عدداً من المعارك نشبت خلال عامي الحرب الأولى 1975 – 1976، ولذلك فقد أمكن للجماعة أن تقيم تحالفات انتخابية بعد سنوات مع القوى المسيحية الرئيسية في كلّ من قضاء الكورة وزغرتا والبترون، ولا سيما مع سليمان فرنجية (الحفيد) في انتخابات عام 2000. ولعلّ أبرز أسباب انفتاح الجماعة على القوى الأخرى إدراكها أنّ لبنان لا يصلح أن يقوم فيه مشروع إسلامي، إلاّ إذا جرى استيعابه في إطار عربي واسع. لذلك كان الخيار المتاح هو أن يقوم التعايش الإسلامي المسيحي على أسس من الاعتراف بالآخر وحسن الصلة به، وأن يستفيد الجميع من أجواء الحرّية التي توفّرها التعدّدية الطائفية والمذهبية، وصولاً إلى مجتمع تعدّدي يضمن الحرّية السياسية والفكرية للجميع. وقد استمرّت علاقة الجماعة بالمرجعيّات المسيحية على المستوى الرسمي والسياسي لا تشوبها شائبة ولا يعكّر صفوها كدر. وانطلاقاً من هذا الواقع فقد حسمت الجماعة خيارها إزاء العلاقة مع سوريا في وقت مبكر، رغم هويّة النظام فيها، وعلى الرغم من الحدّة التي أصابت هذه العلاقة منذ أواسط الستّينات، بعد قيام الأنظمة العسكرية، لا سيما بعد المعارك الدموية التي دارت في سوريا بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام الحاكم. وعلى الرغم من هذا فقد حسمت الجماعة في لبنان أمرها باتجاه ترتيب العلاقة مع سوريا أياً كان النظام الحاكم في دمشق، لأنّ سوريا – في نظر الجماعة – هي بوابة لبنان على العالم العربي، وعمقه الاستراتيجي والسياسي والثقافي. وكان ذلك خلال زيارة قام بها وفد من قيادة الجماعة برئاسة أمينها العام فتحي يكن إلى دمشق، حيث التقى الرئيس حافظ الأسد، وفي هذا اللقاء جرى إرساء العلاقة على أسس واضحة من الفهم الواضح الذي ينطلق من أن الجماعة جزء من حركة الإخوان المسلمين العالمية، لكنّها تتفهّم الدور السوري في لبنان وترفض أيّ صدام سياسي أو عسكري معه. ولذلك فقد استمرّت العلاقة عادية ومستقرّة طيلة فترة الوجود السوري في لبنان، على الرغم من التباين الفكري والسياسي أحياناً. أمّا العلاقة بالطائفة الشيعية فقد قامت على الاعتراف بالشيعة طائفة إسلامية رغم كلّ ما يشوب العلاقات المذهبية في أحيان كثيرة من التوتّر. ومنذ أيّام الإمام السيّد موسى الصدر كانت علاقة الجماعة به جيّدة، وكانت تدعوه لإلقاء محاضرات في مناسبات إسلامية مختلفة. أمّا العلاقة مع التيّار الإسلامي الشيعي الملتزم فقد بدأت قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وشاركت الجماعة في مظاهرات تأييد الثورة، وشارك رموزها في كلّ الوفود التي كانت تؤمّ طهران للتهنئة بانتصار الثورة، كما كان ممثّلو الجماعة يشاركون في المؤتمرات العامّة التي تدعو إليها إيران في مناسبات مختلفة. وفي مواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان شباب الجماعة في صيدا ينسّقون مع الشباب الشيعة في الجنوب عمليّاتهم ضدّ العدو الإسرائيلي، وقد جرى اعتماد اسم "المقاومة الإسلامية" بتنسيق وتفاهم مشترك بين الفريقين قبل بروز اسم حزب الله. واستمرّ التنسيق الميداني حتّى بعد انسحاب القوّات الإسرائيلية من صيدا في شباط 1985، وصولاً إلى تحرير معظم مناطق الجنوب المحتلّة عام 2000، وفي مواجهة عدوان تمّوز كان شباب الجماعة يشاركون في المواجهات في قرى العرقوب، حيث كانت للجماعة مواقع عسكرية بالتنسيق مع المقاومة الإسلامية. أمّا على الصعيد السياسي، فقد كانت علاقة الجماعة بحزب الله متينة ومنظّمة، وكان هناك تقليد بين الطرفين يقضي بعقد لقاء شهري على مستوى المكتب السياسي لكلّ من الحزب والجماعة، يجري فيه مناقشة القضايا السياسية، اللبنانية والإسلامية العامّة، ويصدر بعد اللقاء الدوري بيان سياسي مشترك. وكان هناك إطار آخر يحمل اسم "اللقاء التشاوري"، يجمع الحزب والجماعة بشكل رئيسي، إلى جانب قوى إسلامية، لبنانية وفلسطينية، تدور في فلك الحزب والجماعة. وكان هذا اللقاء يعقد مرّة كلّ ثلاثة أشهر. بعد اغتيال الرئيس الحريري: على الرغم من التوتّر الذي أصاب علاقات القوى والطوائف اللبنانية بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج القوّات السورية من لبنان، إلاّ أنّ علاقة الجماعة الإسلامية – كفصيل إسلامي سنّي – مع القوى الأخرى لم تتأثّر، فالعلاقة مع المسيحيين استمرّت مستقرّة، وكانت تنشط عبر إطار جرى اعتماده، هو هيئة الحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك المناسبات الجامعة مثل مهرجانات ذكرى اغتيال الرئيس الحريري، حيث كانت قوى 14 آذار تحرص على أن تكون للجماعة الإسلامية كلمة في المناسبة السنوية. أمّا مع الإخوة الشيعة، لا سيما في حزب الله، فقد بدأت العلاقة بالفتور بعد عام 2005، رغم حرص الفريقين على الاستمرار، فالعامل الجامع الوحيد هو دعم المقاومة والحرص على استمرارها في مواجهة العدو الإسرائيلي، أمّا في الموقف السياسي الداخلي فقد كان لكلّ من الحزب والجماعة موقف مغاير، نظراً للمواجهات التي خاضها الحزب مع قوى الأكثرية النيابية، بينما حرصت الجماعة على موقفها غير المنحاز في الصراع الدائر. لكن رغم هذا التباين السياسي فقد استمرّت اللقاءات إلى أن كانت أحداث شهر أيار (مايو) 2008 حين اكتسح الحزب مع بعض القوى الحزبية المؤيّدة له شوارع بيروت وبعض قرى الجبل، ممّا أوقع ضحايا أبرياء، وأدّى إلى تحويل سلاح المقاومة ومجاهديها إلى شوارع بيروت بدل التوجّه ضدّ العدوّ المشترك. وقد اعتمدت الجماعة موقفاً محايداً في هذه الأحداث، رغم أنّها أعلنت موقفاً رافضاً لها، لأنّها أساءت إلى المقاومة وإلى أجواء الوحدة الإسلامية التي كانت سائدة. والجماعة حريصة على استعادة العلاقة الطيّبة بكلّ القوى على الساحة اللبنانية، ولا سيما حزب الله على الساحة الشيعية، على أمل تجنيب الساحة الإسلامية أولاً، واللبنانية لاحقاً، أيّة توتّرات أو اهتزازات، لا مصلحة فيها إلاّ للعدوّ الصهيوني الذي يريد الإيقاع بالجميع. والجماعة ترى أنّ لبنان قيمة لا ينبغي التفريط بها، أو تحويلها لمصلحة فريق أو طائفة أو حزب. وإذا فقد لبنان هذا الدور فإنّ الجميع فيه خاسرون، لا سيما عشّاق الحرّية والديمقراطية والتعدّدية السياسية، التي تحمي حقوق الجميع وتوفّر لهم الإطار الجامع الذي يحميهم ويحمي عيشهم المشترك وحرّياتهم الدينية والسياسية. إبراهيم المصري