الحكم البعثي (العلوي)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٤:٤٧، ٤ أغسطس ٢٠١٠ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب''''موقع إخوان ويكي يقدم :''' '''<center> الإخوان المسلمون في سورية .. مذكرات وذكريات</center>''' '''<center> الكت…')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

موقع إخوان ويكي يقدم :

الإخوان المسلمون في سورية .. مذكرات وذكريات
الكتاب الثالث
الحكم البعثي ( العلوي ) من عام 1963 حتى عام 1977

بقلم / الأستاذ عدنان سعد الدين


في هذا الكتاب

مذكرات الأستاذ عدنان سعد الدين المراقب العام السابق للإخوان المسلمين بسوريا من الكتب الهامة التي تؤرخ لحركة الإخوان بسوريا وتكشف كثيرا من الحقائق التي يجهلها العالم عن النظام البعثي السوري والاضطهاد الذي تعرضت له الحركة ورجالها ونسائها على يد حافظ السد الرئيس السوري.

كما توضح تسلسل مراحل الدعوة في سوريا منذ دخل الدعوة إلى سوريا وفترة المراقب العام الأول الدكتور مصطفى السباعي والذي توفى عام 1963م، كما توضح طبيعة العلاقة بين ابناء الحركة الإسلامية في هذه البلد.

إن أي مواطن سوري مهما كان على درجة عالية من الفطانة ، وأي محقق أو باحث أيا كانت منزلته في عالم التحري ودراسة التاريخ ، لن يقتنعا بأن فئة حاقدة صادرت الحكم في سورية من أصحابه الشرعيين بالبطش وقوة السلاح ، فهدمت الحياة الدستورية والمدنية من القواعد ، وأغرقت الوطن في كل أصقاعه بالدماء والمجازر الجماعية ، وباعت البلاد بثمن بخس أو بدون ثمن لأشد الناس عداوة للذين آمنوا ، ليضمنوا دعمه في بقائهم في السلطة عقودًا أخرى ، ومزقوا وحدة الجيش ، وجردوه من كل أسباب القوة المادية والمعنوية والسلاح ، ليسلموه عن وعي وقصد لهزيمة مخزية ونكراء ، ونهبوا المال والثروة ، ليودعوا المليارات في بيوت المال الأوروبية والأمريكية ، ويتركوا الأكثرية من المواطنين ( الذين كانوا في ترف وبحبوحة قبل أن تحكم هذه الأقلية ) في فقر مدقع وتحت خط الفقر ، وأقاموا مع الصهاينة هدنة وسلامًا دائمًا وشهر عسل منذ أكثر من 40 سنة ، وما يزال ، وسلموا أمتع الحصون دونما حرب أو دفاع. أقول : لا يمكن لأحد أن يصدق ذلك إلا إذا قرأ هذا السفر بما يحتويه من وثائق وحقائق مذلة ، ليدرك أن كارثة السوريين الذين يعيشون في ظل حكم عرفي دائم أكبر مما يخطه قلم ، أو يحيط به دارس أو باحث ، وعلى هذه الصفحة أوجه للعرب والمسلمين ولكل ذي ضمير صيحة مدوية ، بل استغاثة ألم أن يعملوا على تحطيم القيود والأغلال التي يرسف بها السوريون منذ نيف وأربعة عقود ولا يزالون على مسمع من العالم وبصره عسى الله أن يأذن بنهاية لما تعانيه سورية من مأساة لم يتبل أي شعب بمثلها منذ منتصف القرن الماضي وحتى كتابة هذه الكلمات الحزينة ، والله غالب على أمره.


توطئة

احتوى المجلدان : الأول والثاني من هذه الذكريات والمذكرات في تاريخ الإخوان في سورية ، على خمس مراحل :

الأولى : امتدت من قبل استقلال سورية عام 1945 وحتى عام 1949 ، عندما قام قائد الجيش السوي بتخطيط وتحريض من وكالة المخابرات الأمريكية كما أكدت الوثائق والاعترافات المسجلة CIA بانقلاب عسكري قوض فيه دعائم الحياة الديمقراطية والمدنية في الجمهورية السورية.

الثانية : مرحلة الانقلابات العسكرية الأربعة التي استمرت خمس سنوات من 31-3-1949 وحتى 2-2-1954 ، وشهدت انقلاب حسني الزعيم وانقلابي سامي الحناوي وانقلابي أديب الشيشكلي.

الثالثة : دخول هاشم الأتاسي منتصرا على الحكم العسكري إلى دمشق ، وبصحبته ساسة سورية ، ليعيد الحياة الديمقراطية والعمل بالدستور ، وعودة الوزارة المدنية السابقة التي انقلب عليها الششكلي برئاسة معروف الدواليبي ، لتعيش سورية مرة أخرى في ظل حكم ديمقراطي ، لم يدم طويلا ، ولم يعمر أكثر من أربع سنين.

الرابعة : قيام الوحدة بين مصر وسورية منذ 22-2-1958 وحتى 28-9-1961 أعقبها الانفصال بين الإقليمين : الشمالي والجنوبي ، أو بين القطرين بعد أحداث مليئة بالمفارقات والتناقضات الصراعات والمؤامرات والإخفاقات عبر ثلاث سنوات ونصف أي بعد 44 شهرا.

الخامسة : مرحلة الانفصال التي لم تعمر طويلا ، ولم تقو على الصمود أمام قوى عاتية من داخل سورية وخارجها ، فانهارت وتبعثرت وذابت كما تذوب كرات الثلج تحت أشعة الشمس الدافئة.

السادسة : مرحلة الحكم البعثي الذي انطوى على حكم طائفي امتد زهاء ثمان وثلاثين سنة منذ الثامن من آذار عام 1963وحتى وفاة حافظ أسد في حزيران يونية عام 2000 ، ولذا فلا يسعنا في تسجيل هذه المرحلة التي طالت واستطالت إلا أن نقسمها إلى فترات ، ربما بلغت أو زادت أو نقصت حسب المنعطفات والمفاصل التاريخية والأحداث المفصلية التي شهدتها سورية بعد استيلاء الضابط حافظ أسد على السلطة وحتى وفاته.


تمهيد

في الساعات الأولى من فجر الثامن من آذار/ مارس 1963 استيقظت العاصمة على هدير الدبابات والمصفحات في انقلاب عسكري قاده عقيد في الجيش السوري ترك الجبهة السورية مع العدو الإسرائيلي ، واتجه صوب العاصمة ليدخلها من جنوبها ، ويحتل مباني الإذاعة والتلفزيون ، ومبنى أركان الجيش ودوائر الحكومة دون أي مقاومة ، أو إطلاق رصاصة واحدة ، وتم له استلام السلطة في تمرد سهل ، كان من أول أسبابه ضعف رئيس الجمهورية أو خوفه أو تواطؤه ، إذ لم يسمح لقائد كبير في الطيران هو الطيار هيثم المهايني قائد قاعدة الضمير ، أن يوقف زحف لواء زياد الحريري ، ويبطل عملية الانقلاب ، بل إن ناظم القدسي كان فيما بعد من المتحمسين لانتخاب حافظ أسد رئيسا للجمهورية بشكل علني أمام جمهور الناخبين.

استغل المخططون للانقلاب طموح اللواء زياد الحرير ، وميله إلى حياة اللهو والدعة ، فوضعوه واجهة أمام الرأي العام في الداخل والخارج ، حتى إذا تمكنوا من الحكم لفظوه لفظ النواه ، ولما يمض على انقلابه ثلاثة أشهر ، ونفوه إلى خارج الوطن لينتقل متسكعا ما بين بيوت وبغداد وباريس ، ما يزال منفيا على الرغم من مرور خمس وأربعين سنة على فعلته الشنعاء.

أما السياسيون من ذوي اليسار واليمين جمعيان فاستمروا في جدالهم العقيم ، الذي بدؤوا منذ الساعات الأولى لعهد الانفصال ، وظلوا عليه حتى بعد انقلاب الثامن من آذار دون أن يفطنوا ، أو يفطن بعضهم ، إلى ما يبين لسورية من كيد ، وما يحاك ضدها من تآمر ، إلى أن وقعت الواقعة ، وسقطت سورية بين براثن حكم جر من الكوارث والمآسي والنكبات على الوطن ما لم يكن مسبوقا في تاريخ سورية ، بما في ذلك الزحف الصليبي والغزو المغولي والانتداب الفرنسي في آخر المطاف ، وكيلا يتصور القارئ أو المواطن أن في هذا الكلام مبالغة أ, تهويلا ، عليه أن يلوذ بالصبر والتريث في إصدار حكمه حتى يفرغ من قراءة ما حدث لسورية طوال أربعة عقود ونيف ، سيطرة فيها الأقليات والحركات الباطنية على مقدرات الوطن وأرضه وشعبه ، باسم الأحزاب السياسية تارة ، وباسم الجبهة الوطنية التقدمية تارة أخرى.

وأشهد الله وملائكته والناس أجمعين ، وأخص منهم القراء والباحثين والمؤرخين ، أنني سوف أتحرى الحقيقة ما وسعني ، وأن أسند الأحداث والوقائع إلى مصادرها ، ولاسيما الكتاب الغربيون من أمثال باتريك سيل ، وقفان دام ، وألن جور ، وغيرهم ، وكذا الهيئات المعنية بحقوق الإنسان والدفاع عنها ، وكذا منظمات العفو الدولية الشهيرة والمعتمدة في العالم مثل أمنستي وهيومان رايس ووتش ومنظمة رقيب الشرق الأوسط من فروع هيومان رايس ووتش وغيرها. وأن أتقيد بالأمانة العلمية والدقة ما وسعني ، سواء أكان ذلك لجماعة الإخوان أم عليها ، التزاما بقول السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وقوله جل من قائل : ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ، وقوله جل شأنه : ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيسْأَلُونَ ﴾.


الفترة الأولى : الانقضاض على السلطة (من 8-3-1963 وحتى 23-2-1966)

أولا : الحريري يحتل دمشق

غادر لواء من الجيش السوري الجبهة مع العدو ، ودخل مشق بقيادة العقيد زياد الحريري في انقلاب سهل ، سيطر فيه على دوائر الحكومة ومؤسسات الدولة دون أن يلقي مجابهة أو مقاومة من حكومة الانفصال أو الوحدات العسكرية ( التي مر بها ما بين الجبهة ودمشق ) التي تفوق في عدده خمسة أضعاف اللواء ، أو من المؤسسة الأمنية أو من الأحزاب السياسية التي كانت تشارك في الحكم ، أو من الجماهير الشعبية في العاصمة وفي المدن السورية الكبيرة مثل حلب وحماة وحمص واللاذقية ودرعا ودير الزور وإدلب وغيرها.

1- في نفس اليوم الذي سيطر فيه الانقلابيون على مقاليد السلطة ، التقى قادة الانقلاب وأنصارهم في مبنى الأركان العامة ، فهنأ بعضهم بعضا بالعناق والقبلات ، وبادروا على الفور إلى تشكيل القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة ، وتعيين مجلس لقيادة الثورة ، ضم عشرة ضباط ، وهم : الفريق الركن لؤي الأتاسي قائدا عاما للجيش ورئيسا لمجلس قيادة الثورة ، وكان برتبة عميد ، واللواء زياد الحريري رئيسا للأركان ، وكان برتبة عقيد ، وقد تم ترفيع هؤلاء هؤلاء جمعيا في يوم الانقلاب أي في 8-3-1963 واللواء الركن غسان حداد ، وكان بتربة عميد ، واللواء محمد عمران ، وكان برتبة عقيد ، واللواء صلاح جديد ، كان برتبة مقدم ، وقد تم ترفيع هؤلاء بتاريخ 1-12-1963 ، ثم جرى ترفيع فهد الشاعر من عقيد إلى عميد إلى لواء ، وكذا العقيد فواز محارب ، والمقدم موسى الزعبي.

هكذا أضحت الرتب العسكرية ( التي ما كانت تعطي إلا بعد دراسة وتدريب واختبار ، وبعد زمن محدد ) تمنح ، أو صار الانقلابيون يمنحونها لأنفسهم بالجملة ، ودون أي اعتبار عسكري ، كما هو حال الجيوش ذات الأصالة العسكرية المعهودة.

هؤلاء هم أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين منحوا أنفسهم السلطة المطلقة على سورية ، والتي تشمل السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية في الداخل ، وحق التصرف في السياسة الخارجية ، كإقامة العلاقات مع الدول أو المعسكر الذي يودون ، وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات التي يقررون. 2- تم الاتفاق مسبقا بين أعضاء المجلس على أن يكون الأستاذ صلاح البيطار رئيسا للوزراء ، وأن تكون الحكومة مناصفة بين البعثيين والناصريين ، فتمت في عصر يوم الانقلاب دعوة القيادات السياسية إلى وزارة الدفاع للتداول في تشكيل الحكومة ، فاقترح البيطار أن يتألف مجلس قيادة الثورة من عشرين شخصا ، عشرة من المدنيين ، بالإضافة إلى العشرة العسكريين الذين جاء ذكرهم قبل سطور ، فتمت الموافقة على الاقتراح ، وقد تم تشكيل الوزارة في اليوم التالي بتاريخ 9-3-1963 ، ثم حضر عن الناصريين : نهاد القاسم ، وعبد الوهاب حومد ، اتحاد اشتراكي وهاني الهندي ، وجهاد ضحاي ، قوميون عرب وسامي صوفان ، وسامي الجندي وحدويون الشتاركيون وحضر عن البعثيين ميشيل عفلق وصلاح البيطار وشبلي العيسمي وعبد الكريم زهور وجمال الأتاسي ، ونصور الأطرش ، وتم الاتفاق على أن يسمى البيطار نائبا لرئيس قيادة الثورة ، والأستاذ نهاد القاسم نائبا لرئيس مجلس الوزارة.

3- عندما وقع الانقلاب لم يكن لحزب البعث في المجتمع السوي حضور قوي ، بل بقي لهم وجود رمزي بعد الذي اصابهم من تمزق وتشرذم ، والتحاق بتنظيمات أخرى فلم يجد الانقلابيون إلا عددا ضئيلا ظل على ولائه للحزب ، لا يزيدون إلا قليلا عن 400 عضو ، كما جاء على لسان عدد من قيادة الحزب العسكريين أمثال أحمد سويداني وعدد من الباحثين الغربيين أمثال ألن جورج وفان دام ، بل إن حافظ أسد ذكر في المؤتمر القطري الذي أعقب الانقلاب ، وبعد أن شدد قبته على مفاصل القوة العسكرية والمدنية أن عدد أعضاء الحزب كله سبعة أعضاء في مدينة حلب كلها ، متباهيا بأن انقلابه هو الذي أحيا الحزب وأعاد إليه كيانه.

لهذا لم يكن لدي الحزب كوادر يملأ بها دوائر الدولة والمؤسسات الحكومية ، فاستعانوا بمن التف حول انقلابهم وآلتهم العسكرية.

أما الوزارات التي شكلوها فقد بلغ عددها ثماني وزارات ما بين 8-3-1963 وحتى 23-2-1966 في أقل من متحدث أول : سنوات ، خمسة منها برئاسة صلاح البيطار ، واثنتان برئاسة أمين الحفظ ، وواحدة برئاسة الدكتور يوسف زعين.

لقد شكل البيطار وزارته من عشرين وزيرا : صلاح البيطار رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية ، ونهاد القاسم نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للعدل ، وعبد الوهاب حومد للمالية ، والفريق محمد الصوفي وزيرا للدفاع ، والعميد أمين الحافظ وزيرا للداخلية ، ومنصور الأطرش وزرا للعمل ، وعبد الحليم سويدان وزيرا للزراعة ، سامي الدروبي وزيرا للتربية ، وعبد الكري زهور وزيرا للاقتصاد ، جمال الأتاسي وزيرا للأعلام ، ودرويش العلواني وزيرا للأوقاف ، وهاني الهندي وزيرا للتخطيط ، ووليد طالب وزيرا للتموين ، وأحمد أبو صالح وزيرا للاشغال العامة ، وشبلي العيسمي وزيرا للإصلاح الزراعي ، وإبراهيم ماخوس وزيرا للصحة ، وسامي الجندي وزيرا للثقافة ، وطالب الضماد وزيرا للصناعة.

لقد ضمن وزارة البيطار الأولى بعد الانقلاب عشرة بعثيين وعرة ناصريين ، أكثرهم من أصول بعثية. لم تعمر هذه الوزارة إلا 86 يوما ، من 9-3-1963 وحتى 12-*5-1963.

كلف البيطار بتشكيل الوزارة الثانية في 12-5-1963 ، فشكلها من ستة عشر وزيرا ، كان بعضهم من شارك في الوزارة الأولى ، أما الوزراء الجدد الذين امضموا إليهم فهم : مصطفى الشماع ، وعبد الرحمن الطباع ، وعبد الخالق نقشبندي ، ومظهر الشوربجي ، وجورج طعمة ، وعادل طربين ، وعبد الرزاق شققي ، لكنها استقالت بعد 68 يوما من تشكيلها.

شكل صلاح البيطار الوزارة الثالثة في 4-8-1963 ، فاستمر حتى يوم 12-11-1963 ، وكانت تضم عددا من الوزراء السابقين وعددا آخر من الوزراء الجدد وهم : نور الدين الرفاعي ، وصالح المحاميد ، ونور الدين الأتاسي ، ومحمد جيوش ، العميد عبد الله زيادة ، فكان عمر هذه الوزارة الثالثة مائة يوم لتستقيل ، وتخلفها وزارة رابعة شكلها اللواء أمين الحافظ من جميع الوزراء السابقين ، مضاف إليهم : حسان مريود ، ويوسف زعين ، ومصطفى حداد ، ومظهر العنبري ، ومحمود الجيوش ، وخير الدين حقي ، فعمرت هذه الوزارة أكثر من سابقاتها ، واستمرت بالسلطة زهاء 184 يوما وضمت 23 وزيرا. عاد البيطار ليشكل الوزارة الخامسة في 14-5-1964 ، من سبعة عشر وزيرا ، شارك فيها من الوزراء الجدد : ثابت العريسي ، وعبد الله عبد الدايم ، وعادل السعدي ، وأسعد محفل ، وكمال حصني ، واللواء ممدوح جابر ، وأصلان الوزان ، وعبد الرحمن الكوكبي ، ثم استقالت بعد أن أمضت في السلطة 143 يوما وضمت 21 وزيرا.

كلف أمين الحافظ بتشكيل الوزارة السادسة في 4-10-1964 ، فاستمرت في السلطة حتى 12-9-1965 أي أكثر من أحد عشر شهرا بقليل.

كان مجموع أيامها 344 يوما لتكن أطول هذه الوزارات الثمانية عمرا في هذه الفترة من حكم البعثيين ، وقد دخلها من الوزراء الجدد : عبد الفتاح البوشي ، وسلميان الخش ، وحسين مهنا ، عبد الكريم الجندي ، جميل شيا ، مصطفى نصار ، ومشهور زيتون ، وسميح فاخوري ، ومحمود تجار ، وهشام العاص ، ومم خير بدوي.

كلف الدكتور يوسف زعين بتشكيل الوزارة السابعة ف 12-9-1965 والحلق بها من الوزراء الجدد : عبد الفتاح طالب ، وعلى تل جبيني ، وإبراهيم بيطار ، واللواء حمد عبيد ، وصادق فرعون ، ومحمد عبد عشماوي.

استمرت هذه الوزارة حتى 1-1-1966 ، فكان عمرها مائة عشرة أيام ، لتخلفها وزارة البيطار الثامنة التي كانت أقصر الوزارات عمرا ، إذ لم تمكث في الحكم إلا بضعة وخمسين يوما ، إذ داهمها الانقلابيون في 23-2-1962 بترتيب من القيادة القطرية ، وعلى رأسهم صلاح جديد ، وعبد الكريم الجندي ، وحافظ أسد من وراء ستار.


ثانيا : التسلط الديكتاوري

الذين يدققون في أحداث هذه المرحلة التي امتدت متحدث أول : سنوات إلا قليلا يلاحظ ما يلي :

1- إن سورية استحالت إلى حقل تجارب لدي المغامرين العسكريين ، ومن يبحث عن الجاه الزائف والمغنم من المتسلقين ، إذ كان الوزارة لا تستمر أكثر من فصل من فصول السنة تم تختفي وتنتهي ، وإذ سألت عن الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية ورجالات سورية ، الذين قادوا بلدهم إلى الاستقلال ، وعن شيوخ الإسلام وقادة الوطن ، وعن الاخوان المسلمين الذين كانوا يشكلون كتلة برلمانية كبيرة ، في ثقلها ونوعية رجالها بل إذا سألت عن الشعب كله أين هو ن أحداث هذه المرحلة من 8-3-1963 وحتى 23-2-1966 فإنه في نظر المغامرين في خبر كان أوفي خانة الصفر ، لم يعد له وزن أية وجود في نظر الانقلابيين الذين هدموا الحياة الدستورية والبرلمانية والمدنية ومن القواعد.

لقد أعطى الانقلابيون لأنفسهم صلاحيات مطلقة في كل شيء بموجب الأحكام العرفية التي أعلنوها منذ الساعات الأولى للانقلاب في 8-3-1963 بالأمر العسكري رقم ( 2 ) دونما سند من مواد قانونية أو أسباب موجبة كالتي نص عليها قانون إعلان حالة الطوارئ مثل : حالة الحرب ، أو تعرض البلاد للخطر ، أو حدوث اضطرابات داخلية ، , وقوقع كوارث عامة ، أن موافقة مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين ، أو عرضه على المجلس النيابي في أول اجتماع له. وبموجب هذه الأحكام العربية التي أعلنت دونما سند قانوني ، توق العمل بالدستور ، وبالقوانين أو معظمها ، وعطل القضاء إلا في بعض القضايا المدنية ، وحل مكانه القضاء العسكري والمحاكم الاستثناية التي حكمت بالإعدام على الألوف دنن السماح للمتهم بالدفاع عن نفسه ، أو توكيل محام عنه واستئناف الحكم الصادر عليه من عسكريين يجهلون القوانين وأصول المحاكمات ، والحدود الدنيا لمجريات القضاء ، فكانوا يحكمون بالموت على المتهم بعد دقائق يمثلها لأمامهم ، ثم يدفعون به إلى ساحات الإعدام ولربما كان الضحية سعيدا بقتله ليتخلص من ألوان لعذاب التي لم يسمع بها البشر من قبل ، ما سيأتي ذكره في حينه ، كما جاء في وئائق الدفاع التي نشرتها منظمات العفو الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان.

والغريب أو المستهجن الذي تعاف سماعه النفوس أن الذين كانوا يساقون إلى المشنقة أو حقل الرمي ، كل يلفظ بالهادة قبيل قتله ، فقرر السفاحون حرمانه من ذلك ، ووضعوا لاصقا على فمه حتى لا ينطق بالشهادتين ويقول : اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، كيلا يسمعه المكدسون في المهاجع ، والذين ينتظرون دورهم في الإعدام ، وبهذه الأساليب الهمجية والوسائل الوحشية نفذ حكم الإعدام بالألوف من عسكريين هم خيرة ضباط الجيش كفاءة وأخلاقا ، ومن علماء ومفكرين وشباب بأعمال الأزهار في مأساة ( لم اقرأ لم أسمع بمثل قسوتها ) ما واجهها شعب من شعوب الأرض في النصف الثاني من القرن العشرين ، واستمرت حتى مطلع القرن الواحد والعشرين الذي نشهد سنواته الأولى ، وسوية لا تزال ترزح تحت وطأة الحكم العرفي ، وتسلط أجهزة الأمن على رقاب العباد وحياة المواطنين.

2- كان الانقلابيون يفتقرون إلى أي تأيد شعبي عدا المرتزقة والانتهازيين الذين تحلقوا حول دبابات اللواء الذي ترك الجبهة مع العدو ، وإسرائيل لم تحرك ساكنا ، وجاء إلى العاصمة السورية محتلا ، وكان حزب البعث الذي رفع الانقلابيون رايته ، وحكموا باسمه ، قد تبعثر وتشتت ، وتحول إلى شظايا منذ أيام الوحدة حين التحق بعثيون كثيرون بالأحزاب الوحدوية والناصرية ، وترك بعضهم العمل وأروا عزلة ، وهاجم البعض من البعثيين الحزب واتهموه بالانحراف والطائفية كما صرح بذلك وكتب فيه منظر حزب البعث مطاع الصفدي ، والأمين العام السابق لحزب البعث منيف الرزاز ، ومن قبلهما جلال السيد أحد مؤسسي الحزب الأربعة ( ميشيل عفلق صلاح البيطار وأكرم الحوراني وجلال السيد ) فلم يكن عدد الذين استمروا بانتمائهم إلى لحزب الذي يقوده عفلق أكثر من 400 عضو كما رأينا من قبل ، فلم يجد الانقلابيون يملؤون بهم الوظائف الكبيرة ودوائر الحكمة إلا المنافقين الذين يلهثون وراء المنصب والشهرة والجاه وتكديس المال الحرام.

لم يمض وقت طويل حتى كشف الانقلابيون عن بعض خططهم ، فحشدوا أبناء الطوائف والأقليات في الدائر والمؤسسات ، وفي السلك الدبلوماسي وفي الجيش وأجهزة الأمن بشكل علني دون خجل أو حياء ، أو حاجة إلى مداراة أ’, تستر أو إنكار ، بعد أن حطموا كل مقومات الشعب وقدراته ، وجردوه من كل مناعة أو طاقة على مقاومة رجال السلطة الثورين التقدميين!!

ومن المفارقات العجيبة أن أحد دعائم الانقلاب على أديب الشيشكلي في مطلع عام 1954 الذي انضم فيما بعد إلى المعارضة السورية ، وكان عضوا في المكتب السياسي ، كثرا ما كان يكرر بعد أن رأي ما حل بسورية وشعبها : لقد خرب العسكريون سورية وحطموا ، وعلى مسمع من أعضاء المكتب السياسي السبعة للتحالف الوطني لإنقاذ سورية ، هذا ما كنا نسعه مرارا من السيد مصطفى حمدون.

3- تستر الانقلابيون أو الطائفيون زورا بحزب البعث وبالناصريين ، وزعموا أنهم سيعيدون الوحدة إلى سوغوا بها انقلابهم للقضاء عليا الانفصال ، وبعد أن تمكنوا نسفوا الناصريين نسفا ، وقضوا عليهم وعلى كل ما يمت لهم بصلة ، قضاء مبرما ، بالقتل والإعدام والزج بهم في السجون والمعتقلات ( حتى غادر الكثيرون منهم أرض الوطن ) وبتصفية الجيش وأجهزة الأمن من الناصرييين والبعثيين غير الطائفيين والإسلاميين ومن أبناء المدن حتى لم يبقوا في الجيش والقوات المسحة من ذوي الخبرة العسكرية إلا ما ندر ، وإذا ذكرهم أو غيرهم أحد ممن لم يقع في قبضتهم أنهم قلة قليلة لا تشكل غلا نسبة ضئيلة جدا من مجموع المواطنين قال رئيسهم أمين الحافظ ( الذي قدموه عليهم ، وأبرزه واجهة يرتكبون كل الآثام باسمه وينسبونها إليه ) في خطبة أثناء جولاته :

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها : إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وكثرا ما كنا نتندر مع أمين الحافظ حينما كنا نلقاه في بغداد ، فيقابل ذلك بالضحك العالي وعبارات لندم ، مدركا أنهم استغلوه وخدعوه ، وتتخذوه واجهة لما اقترفت أيديهم من جرائم تقشعر من هولها الأبدان.

ومن أفظع ما اقترفوه من آثام في هذه الفترة العصيبة بحق المواطنين السوريين : تطاولهم على بعض النساء ، خطفا من الشارع أو بالتخويف أو الاغتصاب في أقبية التحقيق بعد الاعتقال وسوق الحرائر إلى غرف التحقيق ، والويل كل الويل لمن يسال عن ابنه أو ابنته بعد خطفهم ، بل إن بعض الآباء ظلوا يجهلون مصير أبنائهم وبناتهم حتى كتابة هذه السطور.


ثالثا : الخداع باسم الوحدة

كانت الهوة سحيقة وعميقة بين الانقلابيين وبين جماهير السوريين أو معظم أطيافهم ، وكان تجسير الهوة بين الانقلابيين والجماهير بعيد المنال عبر الدبابات وبعض الفئات العسكرية المحدودة ، وللخوارج من هذا المأزق أو هذه العزلة الشعبية ، أعلنت السلطة عن رغبتها في إعادة الوحدة بين سورية ومصرن وأنهم -الانقلابيين- قاموا بانقلابهم لتحقيق هذا الهدف الكبير ، وأنهم في طريقهم إلى القاهرة لإجراء مباحثات مع عبد الناصر ، أعلنوا عن ذلك بعد قيام الانقلاب بستة أيام فقط.

سرعان ما سافر وفدهم إلى مصر ، وشرع في المفاوضات مع جمال عبد الناصر في 14-3-1963 والتي استمرت حتى 17-4-1963.

1- انضمت بغداد إل مباحثات الوحدة ، ودراسة مشروع اتحاد أو توحيد بين الأقطار الثلاثة ، مصر وسورية والعراق.

شرع الأقطار الثلاثة في مباحثات الوحدة على دفعات ، من 14 إلى 16 آذار ، ومن 6 إلى 8 نيسان ، أما الثلاثة فقد انتهت في 17-4-1963 عندما أعلن المتباحثون عن دستور ينص على قيام جمهورية عربية ثلاثية معتمدة.

حضر المباحثات ناصر ، وعامر وآخرون من مصر ، وعلى صالح السعدي ، وطالب شبيب ، وصالح مهدي عماش ، وأحمد حسن البكر ، عن العراق ، والحريري ، والقطيني ، وفواز محارب ، وفهد الشاعر ، عن سورية ، ثم حضر عن سورية في المرحلة الثالثة من السوريين ما يقل عن سبعة عشر يمثلون المجلس الوطني لقيادة الثورة والحكومة الفئات الناصرية.

كان الانقلابيون السوريون يعملون على كسب الوقت ، لتثبيت دعائم حكمهم الانقلابي في وحدات الجيش والأجهزة الأمنية ودوائر الحكومة. ولم يكونوا جادين في إقامة وحدة مع مصر وسورية في أي وقت ، وبأي صورة من الصور ولم يكونوا يثقون بعبد الناصر ، ولكنهم خادعوه للوهلة الـولى ، وظن أن الأمر جد ، لقد كان عبد الناصر يتبنى لهجة أبوية استفزاية تجاه البعثيين السوريين ، ويضغط من أجل دمج جميع القوى السياسية في الأقطار الثلاث ، في تركيب حزبي واحد كما ذكر فان دام في كتابه وفي 17-4-1963 وبد شهر من المباحثات الشقة والمتقطعة أعل دستور ينص على قيام جمهورية عربية متحدة ثلاثية ، كما جاء منذ قليل.

لم يضيع البعثون أو الذين يحكمون باسم البعث ساعة واحدة للسيطرة على مرافق الدولة في مقدمتها القوات المسلحة ، وتصفية الآخرين في الجيش من غير علويين ، بدءا بالسنين ثم بالدروز والإسماعيليين ، فبعد ثلاثة أشهر من الاستيلاء على السلطة طردت اللجنة العسكرية اللواء زياد الحريري وزير الدفاع ورئيس الأركان الذي قام بالانقلاب حصان طروادة مع مجموعة من كاب أنصاره الذين بلغ عددهم حوالي 25 ضابطا كما جاء في تقرير رقيب الشرق الأوسط.

ومما يجدر ذكره أن الحرير اسند إدارة المخابرات للضابط عارف الجاجه من مدنية حماة ، وقد عرفته معلما ي المدرسة التي كنت فيها طالبا ، فرغبت باللقاء مع عدد من الإخوان عن طريق ضابط الاحتياط من س ، فالتقيناه كنا ثلاثة : الدكتور عبد الكريم عثمان رحمه الله ، والأخ الداعية من ص وكاتب هذه السطور ، فإذا بالضابط الجاجه يستند بالمنظمات الحزبية والجماهير الشعبية لفك الحصار الذي ضربته الفئات الطائفية بالجيش حول الحريري ، وطلب منا أن نخرج في مظاهرات صاخبة وداعمة.

فسألناه :

- تحت أي لافتة أو شعار تتحرك المظاهرات؟

فقال : تحت شعار : الحرية والوحدة الاشتراكية.

فالشيخ عارف كما كان يسمي وهو يزاول مهنة التعليم يريد من الإخوان أن يرفعوا شعارات البعث الذي احرق الأخضر واليابس ، فسرعان ما افترقنا مدركين ما كانت عليه هذه المجموعة من الغفلة السذاجة ، وشعرنا بالخطر الذي يهد الوطن في مستقبله ومصيره.

2- كشر الانقلابيون عن أنيابهم ، وخمد الطائفيون رؤوسهم ، وظهروا للعيان ندون وجل أو خجل ، فأدركت جمع المواطنين أن حزب البعث ليس اكر من ستار لتكتل طائفي خطر ، وأن أنباء الأقليات يحكمون قبضتهم على الوحدات العسكرية ، وأنهم يمسكون بمفاصل القوات المسلحة ، ويبعدون عن القطعات العسكرية ، وعن الجيش ، أو بالأصح عن الوحدات المؤثرة كل من عداهم ، بادين بحلفائهم الناصريين الذين شاركوهم في الانقلاب ، وتقاسموا معهم عدد لأعضاء في المجلس الوطني للثورة ، وعدد الوزارات ، حتى أجبروهم على التنحي ، فترك أكثر من ألف ناصري مواقعهم في الوزارات ، واضطروا إلى تقديم استقالاتهم.

تململ الناصريون من سوء ما لاقوه من شركائهم البعثيين فقرروا القيام بانقلاب عسكري يطيح بالبعثيين الذين خدعهم بشعارات الوحدة أي أيدوها ظاهرا وعلانية ، وحاربها في السر والخفان واضطهدوا أنصارها والداعين إليها ، فقاموا في وضح النهار بانقلابهم الذي كان مكشوفا في 18-7-1963 ، وكان تنظيمهم مخترقا ، فجوبهوا بمقاومة شرسة ، ومطاردة عنيفة ، فتقل منهم من قتل ، وهرب من هرب ، واستسلم آخرون ، أو اسروا ليقدما إلى محاكمة عسكرية ، سرعان ما أصدرت أحكاما بالإعدام على بضعة وثلاثين من الضباط والمشاركين ، لينفذ فيهم حكم الموت حالا بعد صدور الحكم ، وكان من أبرزهم العقيد هشام شبيب قائد سلاح الإشارة.

كان العقيد جاسم علوان كبير الانقلابيين ، وقائدهم ، والمعروف باتجاهه الوحدوي ، وتأيده المطلق لجمال عبد الناصر ، وق عرفناه عن قرب عن التحالف الوطني المعرض ، وزرناه مرارا وفي منزله ي حي الزمالك بالقاهرة ، ولسمنا فيه النبل والخلق الرفيع والحمية والكرم ، غير أنه كان من البساطة والعفوية بحيث يقع في مزالق عدة ، كلفته الفشل تلو الفشل ، بعد أن ارتكب الخطأ الفادح عندما اعترف بأن الشيشكلي قد لت نظره إلى عدم تغليب الأقليات في اختيار طلاب الكلية العسكرية ، وأن يأخذوا نصيبهم بقدر حجمهم ، لدي التحاقهم بالدراسة ، لكن العقيد جاسم رفض هذه الفكرة ، ولم يتقيد بتعليمات وتوجيهات الشيشكلي كما اعترف بذلك عندما كان مدربا بالفصل الذي كان يضم ضباطا علويين ، وأمثال حافظ أسد ، وعلي اصلان ، ومم نبهان.

3- كانت اللجنة العسكرية السرية المكونة من محمد عمران ، وحافظ أسد ، وصلاح جديد ، ون انضم غيهم فيما بعد ، من أبناء الأقليات مثل عبد الكريم الجندي ، وأحمد المير ، تتحرك في أوساط الجيش كتنظيم من داخل تنظيم البعث ، وتتحكم في ترتيبات الجيش من وراء ستار ، وتستغل الجيش باسم الحزب ، والحزب ابسم الجيش والشعب حسب تعبير الدكتور اللواء غسان حداد عضو مجلس قيادة الثورة وزير التخطيط- وتعمل على احتلال العلويين مواقع عسكرية قيادية ، فصلاح جديد غدا ريس الأركان من عام 1963 وحتى 1965 ، وحافظ أسد قائد سلاح الطيران ، وعزت جديد قائد اللواء سبعين أقوى ألوية الجيش والممسك بخناق العصمة ، وبيده مفتاحها.


رابعا : هدم المساجد والمعابد

ضاقت الجماهير ذرعا بهذا الحكم الغريب عن طبيعة السوريين ، وعن معتقداتهم وأفكارهم وتقاليدهم ، فعارضوا الحكم بالكتابات والمظاهرات ، وفي الوسط الطلابي في المدارس الثانوية والجامعات ، وانطلقت الاحتجاجات في المدن السورية الكبيرة ، فعومل المواطنون بالقمع والبطش ، وقوبل الطلاب ومن تظاهر معهم بالرصاص القتل ، وقد كان من عادات السوريين اللجوء إلى المساجد عندما تحاصرهم قوات الأمن والجيش في عهد الانتداب الفرنسي ، ولم يكن الفرنسيون يجرؤون على التحام المساجد ، بل كانت قواتهم تقف خارجها تهيبا ومراعاة لحرمتها ، بل إن المعارضة كانت تعقد مؤتمراتها واجتماعاتها في المساجد الكبيرة ( كالجامع الأموي الشهير في مشق ) وهي آمنة مطمئنة ، غير أن الأمر اختلف في ظل الحكم التقدمي بعد استيلاء البعث والطائفيين على مقاليد الحكم ، فمل يعد للمساجد والجامعات ومعاهد اعلم حرمة أو كرامة ، أمام ميليشيات السلطة أو أفراد الشرطة والأمن والجيش.

1- بعد اشتدد المعارضة في العام الذي تلا الانقلاب ، وخروج المظاهرات والاحتجاجات بالألوف في معظم المدن السورية ، وكانت حماة أشد المدن معارضة ، ورفضا لحكام 8 آذار 1963 ، فجرى الصدام في المدارس الثانوية ، ولاسيما في ثانوية عثمان الحوراني التي خرج طلابها في مظاهرة صاخبة ، وجوبهت بالقمع والرصاص الحي ، فاستشهد طالبان ، وساد التوتر والهيجان أجزاء المدينة ، وفي مقدمتهم وعلى رأسهم المهندس الزراعي ودارس الفلسفة المجاهد الشيخ مروان حديد ، وانتهت حركتهم بالاعتصام في جامع السلطان ، وأشهر مساجد المدينة, ومقر شيخ المدينة وصديقها الشيخ محمد الحامد ، طيب الله ثراه ، الذي نصح المعتصمين بإنهاء اعتصامهم وخروجهم من المسجد ومغادرته إلى بيوتهم ، لكن السلطة الحاقدة المتلهفة إلى البطش وتصفية المعارضين وحشدت قواتها حول جامع السلطان ، وشرعت في قصف المئذنة التي سرعان ما هوت ، ودك الحرم والموجودين في داخله ، غير أن أبناء المدينة أحاطوا بالوحدات العسكرية المهاجمة ، وأمطروها من البيوت والمناطق المحيطة بالمسجد ، ولاسيما من المدرسة الشرعية التي تقع على ظهر سوق الطويل ، فنشبت معركة حامية بين الوحدات العسكرية التي تطوق المسجد ، وبين المدافعين من الداخل والخارج ، استمرت ساعات ، أو قل سحابة اليوم ، كان محصلتها استشهاد أكثر من خمسين شهيدا ، أو كما يقدر البعض بسبعين شهيدا ، أما الجيش فقد خسر المئات من الضباط والجنود الذين زجت بهم السلطة الباغية في معارك ضد المواطنين ، وليس ضد العدو الصهيوني الجاثم على الحدود والمغتصب لفلسطين.

اقتحم الجيش الصحن المسجد وباحة الحرم ، واعتقل العشرات من المعتصمين داخله فسيق هؤلاء المعتقلون إلى حمص ، ثم إلى سجن تدمر الصحراوي ، لتمارس عليهم السلطات ، ألوانا من العذاب الوحشي بالضرب بأسلاك الكهرباء ، ومنعهم من الاستحمام ، وحرمانهم من الغذاء إلا اليسير منه ، ومن الدواء كما سمعت ذلك تفصيلا من أخي الذي كان واحدا من المعتقلين بعد خروجه من السجن.

2- شكلت حكومة الأقليات الباغية محكمة عسكرية برئاسة المقدم مصطفى طلاس ، وقدمت 21 من المعتقلين للمحاكمة ، فأبدى المساجين شجاعة أذهلت أعدائهم ، ولاسيما ما ظهر من شجاعة الشيخ مروان حديد في مواجهة أعضاء المحكمة ، فعندما قال طلاس للمساجين :

- أنتم عملاء.

أجاب مروان : العملاء معروفون ، وفي مقدمتهم رئيس حزبكم الذي قبض المبالغ من عبد الناصر كما جاء في محاضر المباحثات في القاهرة.

وقد أشار مروان على أخوانه جميعا عندما ينطق رئيس المحكمة بإعدامهم ، وأن يبتسموا ، ويقابلوا ذلك بالهزء والسخرية ، ليسمع الحاضرون ضحكاتهم استخفافا بهذه المحكمة التافهة التي عقدت جلساتها في المركز الثقافي بحمص ، وعندما هدد أحد أعضاء المحكمة المساجين بالموت ، أجاب مروان مبتسما :

- لو كنت أعلم أنك تملك موتي وحياتي لعبدتك ، وما تدري لعلك تموت قبلي.

ألغت المحكمة الجلسات العلنية لما كان لها من أثر سلبي على المحكمة وعلى الحكومة ، ومن أثر إيجابي على الحركة الإسلامية في نظر المواطنين.

لا يسعني في تسجيل أحداث حماة وجامع السلطان إلا أن أشير إلى خطأ وقعت فيه جماعة الإخوان المسلمين في حماة ، فبعد أن أصدر المكتب التنفيذي توجيهاته إلى مركز الإخوان في حماة أن لا يتورطوا بالصدام ، وأن لا يجرؤوا إليه تحت أي ظرف أو استفزاز تلجأ إليه السلطة ، وبعد أن قررت إدارة مركز حماة التقيد بتوجيه المكتب التنفيذي القيادة وأقرت الأخذ بأسباب التهدئة وتحاشي الصدام ، دعت إلى مهرجان خطابي شعبي في جامع الشيخ زين بحي الحاضر في حارة الشمالية لتوجيه الجماهير وحثها على الركون إلى الهدوء والسكينة ، وقف أحد خطباء الجماعة ، وقد بلغت فيه الحماسة مبلغها ، فنادى بالتعبئة في وجه السلطة ، ودعا إلى ما يشبه حلف الفضول لحش سكان المدينة عبر هيئاتها ومنظماتها وأحزابها في التصدي لأجهزة الأمن والشرطة والحزب الحاكم ، وكان الناس كالبركان لا ينقصهم إلا عود الثقاب ، لينفجروا ويحدث الصدام.

كان على قيادة المركز في حماة أن تستدرك هذه المخالفة الضارة التي أدت إلى أحداث كارثية ، سواء أكان ذلك من داخل هذا التجمع ليستدرك الأمر على الفور ، أو يدعو إلى مؤتمر لاحق بالسرعة الممكنة لتبليغ المواطنين بموقف الجماعة ، وبالقرار الذي اتخذه مركز الإخوان في تحاشي الصدام ، وتجنب كل ما يؤدي إلى إشعال الفتنة في مدينة أبي الفداء الممتحنة أو المبتلاة.

3- تحرك علماء حماة ووجهاؤها لإيقاف المذبحة وهدر الدماء ، وشكلوا وفدا كبيرا ضم حوالي ستين شخصا ، كان الشيخ الحامد رحمه الله على رأسه ، وكأن حركتهم كانت بإيعاز من الفريق أمين الحافظ الذي لمس من رفقائه في الحكم رغبة جامحة في الانتقام والتنكيل والإمعان في القتل ، وفي هدم المدينة على رؤوس المواطنين ، ولا يما ممن كانوا يمثلون حقدا بدافع طائفي مقيت ، فاستقبل الحافظ ومعه عضوا الرئاسة : محمد عمران ومنصور الأطرش ، فوق الشيخ الحامد متحدثا ، ووفق الحاضرون بمن فيهم أعضاء مجلس الرئاسة توقيرا للشيخ الجليل الذي ارتجل كلمة عظيمة تحركت أجمل الأثر في النفوس السامعين ، وما جاء في خطبته قوله :

«لقد استحر القتال بين قبيليتين من قبائل العرب ، فقال أحد قادتهم أو حكمائهم : هذا الخصام وهذه الحرب لا يسعها إلا التسامح والعفو من الجميع ( أي دونما عناب أو تلاوم ) فكان الصلح الذي وضعت فيه الحرب أوزارها.

قال أمين الحافظ : لا بد من التشاور مع أعضاء مجلس الرئاسة.

فقال الشيخ منير لطفي -رحمه الله وطيب ثراه- كما سمعت هذا من فمه : إن أحد زميليك منصور الأطرش هو ابن قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش ، وهو الذي يعرف للثائرين بمكانتهم وكرامتهم ، وإن العضو الآخر هو محمد عمران الذي تستلم في حماة ، وتخرج في مدارسها ، ويعرف حقها عليه.

وبعد تداول بين أعضاء المجلس لم يدم طويلا ، قال أمين الحافظ :

- لق اتفقنا على إصدار العفو عن المساجين الذين حكموا بالإعدام ، وإطلاق سراحهم.

قال الشيخ الحامد : ونطالب بإصدار العفو عن الهاربين إلى خارج القطر. فقال أمين الحافظ : ولكم هذا ومطلبكم مجاب.

فقال الشيخ : نود صرف تعويضات للمتضررين الذين لحقهم الأذى في هذه الأحداث.

فوافق الفريق أمين الحافظ على هذا.

غادر الوفد دمشق ، وتوجهوا بسياراتهم عائدين إلى حماة عن طريق حمص حيث يحتجز المساجين في سجنها ، بعد أن أحضرتهم السلطات من سجن تدمر الصحراوي الذي ذاقوا فيه أشد ألوان العذاب ، وكان الشيخ الحامد قد راجع قائد المنطقة الوسطى عبد الرحمن الخليفاوي محتجا على ممارسة التعذيب ، فتدخل الخليفاوي مع إدارة السجن ، فحدث انفراج التقط فيه المساجين أنفاسهم.

4- سار موكب العلماء بسياراتهم فرحين جذلين من الفوز الذي حققوه بفضل الله عليهم ، وعندما وصل موكب الوفد إلى سجن البالوتي ، طالبوا الحرس بإطلاق سراح المعتقلين فرفض المسئولون عن السجن ذلك قائلين : لم نتلق أمرا من الرئاسة بهذا الأمر ، وطلبوا التريث ريثما يتم الاتصال بدمشق.

لم تمض إلا بهرة حتى وصلت التوجيهات لإدارة السجن بقرار العفو ، فخرج المساجين ليتقبلهم أعضاء الوفد بالعنق ودموع الفرح ، وأركبوا كل واحد بسيارة مع بعض أعضاء الوفد ، وسار الموكب يتهادى إلى وادي حماة الخصيب الجميل ، فدخلوها دخول الظافرين ، ليروا أبناء المدينة باستقبالهم ، وليسمعوا غناء النواعير وشدوها بآذانهم ، ولينضموا إلى ذويهم وأرحامهم ، وفكان يوما مشهودا يفيض بالبشر والبهجة ، ولا ينساه أبناء مدينة أي الفداء على مر السنين.

معظم هذا الكلام سمعته من فضيلة شيخنا الحامد ، ورفع الله مقامه في عليين ، لأن الشيخ ، بما كان عليه من خلق رفيع ، أصر على زيارة عائلات المساجين كلها بالتتابع ليهنئهم بسلامة أبنائهم ، وكان منزلنا كغيره قد شرف بزيارة الشيخ ، لأن أخي عبد الجبار ، رحمه الله ، كان في عداد من صدر عليهم حكم الإعدام ، فاستقبلته في أيام الصيف على سطح المنزل المطل على بستان جميل ، لأسمع منه تفاصيل زيارة الوفد إلى دمشق ، وما أنجزه من نجاه وفوز كبيرين.

5- لم يكن هدم جامع السلطان حادثة فريدة في ظل حكم البعث ، بل امتدت الأيدي الآثمة إلى مساجد أخرى تاريخية وذات أهمية في مدن أخرى ، كان منها مسجد خالد بن الوليد في حمص الذي يضم رفات القائد العربي الإسلامي العالمي خالد بن الوليد كبير الفاتحين في تاريخ المسلمين ، كما يضم رفات ولده سليمان على ما تنص بعض الروايات التاريخية ، وكان أهل حمص يلجئون إلى مسجد خالد في الشدة وفي الرخاء ، عندما يحتفلون بالمناسبات التاريخية العظيمة ، مثل ولادة ف خر الكائنات سيدنا محمد بن عبد الله (ص) وهجرته من مكة إلى المدينة ، وانتصاره يوم الفرقان في بدر ، وإسرائه إلى بيت المقدس ، ومعراجه إلى ما فوق السموات ، كما كمان أبناء مدينة حمص يلجئون إلى جامع سيدنا خالد في أيام الشدة ومقارعة المحتلين لأرض الوطن ، فصار اسم خالد يطلق على اسم المدينة التي شرفت به ، فتسمى مدينة خالد بن الوليد ، كما كانت مدينة حماة تسمى باسم مدينة أبي الفداء الملك الأيوبي العالم المجاهد والمؤرخ الكبير.

كانت نفوس الانقلابيين أو بعضهم من ذوي النزعة الطائفية متعطشة إلى سك الدماء ، وإزهاق الأرواح ، ونهب الأموال ، وزج المواطنين الوجهاء والشرفاء في غياهب السجون ، وعندما اضطربت الأمور في حمص شأن المدن الأخرى ، لجأت مجموعة من المواطنين في حمص إلى جامع خالد بن الوليد يحتمون به ، فكانت فرصة للحاقدين كي ينقضوا على الجامع التاريخي دون أن يرعوا لبيت الله وللقائد الفذ خالد بن الوليد ولدماء المواطنين حرمة ، فشرعوا في ضب المسجد وتطويقه وقصفه.

ابتدأت المأساة في صيف 1964 بعيد ضرب مسجد السلطان في حماة ، عندما توافق المصلون على مسجد خالد لأداء صلاة العصر ، كما رأي وروي لي أحد المصلين ، ولما فرغوا أداء الفريضة ، انصرف شطر من المصلين ، وبقى في المسجد شطر آخر يصغون إلى خطباء كانوا يلقون الكلمات ، ويشجبون سياسات السلطة ، فأحاطت قوة من رجال الأمن بالمسجد ، ودخلت إلى صحن الجامع مجنزرة اقتربت باب الحرم الذي أغلقه المصلون ، ووضعوا خلفه السجاد ، ليستعصي فتحه والخمول منه فثقب أفراد الآن الباب الخشبي التاريخي العنيد ، وفتحوا كوة أدخلوا منها قضبان الحديد التي وسعت الفتحة حتى كسرت الباب وحطمته قطعا متناثرة ، ودخل الجنود الأشاوس حرم المسجد ، وشرعوا بضرب المصلين وجلدهم والتنكيل بهم ، ومن ثم إخراجهم ليسيروا بين صفين ن الجنود في وضع مهين ، لينتهوا بهم إلى لوريات الجيش وناقلات الجنود ، ويحشروهم فيها بعضهم فوق بعضن ثم نقلوا إلى المساجد البالوتي ، ليقذف بهم في غرفة صغيرة ، وهم يزيدون على مائة معتقل فلم يكن باستطاعة أحدهم أن يستلقي أو يجلس لضيق المكان ، واستمرت هذه الحالة ساعات طويلة ، وقد أنهكهم الجوع والعطش وعدم النوم ، وجلوسهم القرفصاء ، وهناك استكمل رجال الأمن ممارساتهم في التعذيب والضرب المبرح ، واستعمال الأجهزة المستخدمة في تمزيق جلود المعتقلين ، وبعد أيام جرت محاكمات ( عادلة جدا ) للمصلين في المركز الثقافي ، فصدرت عليهم أحكام بالسجن ، وقد سمعا من أحد الضباط قوله :

- لو كان لديكم قطعة سلاح واحدة ، لأبادكم الجيش عن بكرة أبيكم.

كان نور الدين الأتاسي وزيرا للداخلية في حكومة أمين الحافظ ، وقد اشرف بنفسه على عملية اقتحام المسجد واعتقال المصلين ، فقد شاهده المعتقلون عندما أخرجوا من المسجد ، وهو واقف خارجه يقود أو يشرف على عملية الاقتحام ، دون أن تكون لديه ولدي أفراد العصابة الحاكمة خشبة من الله ، أو توقير لبيت الله ، أو تقدير واحترام لأعظم القادة العرب والمسلمين أبي سليمان خالد بن الوليد.

6- كانت دمشق كالبركان ، تعج بتحرك الجماهير ، ولاسيما الجماعات الإسلامية ضد الحكم الذي تحدى الأمة في عقائدها وأخلاقها وقيمها ، وكانت التكتلات الإسلامية : جماعة مسجد المرابط التي كان الدكتور أمين المصري والشيخ عبد الرحمن الباني ، وجودت سعيد ، ومحمد القاسمي يقومون على قيادتها وتوجيهها ، وجماعة كتائب محمد  التي دعت إلى مقاومة النظام ، ومواجهته بالجهاد والسلام ، وكان من قادتها : عدنان المصري ، وعبد الرحيم الطباع ، وحمد بن كمال الخطيب ، غير أن الثقل الشعبي كان لدى علماء دمشق ذوي الكلمة المسموعة والرأي المطاع ، وكان من قادة العلماء أو من أبرزهم الشيوخ الأجلاء : حسن حبنكة وعبد الكريم الرفاعي ، وأحمد الدقر ، وقد بلغ الاستياء في نفوس كبار العلماء هؤلاء مبلغا كبير لما كانت السلطة تفعله وتشجع عليه من فساد وانحلال وإباحية وتحد للمواطنين ، واستهتار بمعتقداتهم ومشاعرهم.

كانت السلطة تسعى إلى توريط المواطنين بأنشطة تسوغ لها توجيه ضربة قاسمة لبناء العاصمة ، وتحطم بفيها معنوياتهم ، وتبث الرعب في أوساطهم ، وتخيف بسحقهم سكان المحافظات الأخرى ، ولاسيما أن في العاصمة الثقل الشعبي ومقر الحكومة والمؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية والسفارات والقناصل الأجنبية ، فعلمت السلطة على جر المواطنين إلى صدام تسفك فيه الدماء ، وتزهق الأرواح ، وتصادر الأموال ، وتنهب فيه المخازن والمحلات الكبيرة أو الشهير ، وقد فطن العقلاء في العاصمة إلى مع تبتيه السلطات ضد المواطنين ، فجمعوا صفوفهم ، واتصلوا بالعلماء في المحافظات الأخرى ، واتفقوا على رص صفوفهم وجمع كلمتهم وتوحيد قراراته من ، وأكدوا على عدم الانجرار إلى صدام ستكون العاقبة فيه وخيمة ، غير أن رجال السلطة وأفراد الأمن كانوا يعلمون جاهدين على إشعال نار الفتنة ، فاعتقلوا عددا من كبار العلماء أمثال الدكتور أمين المصري ، والشيخ عبد الرحمن الباني ، وغيرهم ، ووزعوا منشورات باسم أحد العلماء دن علمه يدعون الناس إلى جامع دنكز للاستماع إلى محاضرة يلقيها أحد العلماء الذي فوجئ بزج اسمه كمحاضر دون أن يكن على علم بذلك ، فصرف أعوانه الناس ، وفوتوا على السلطة كيدها ثم فوجئ الناس بمنشورات باسم العلماء تدعو المواطنين إلى الجامع الأموي وعقد تجمع فيه دن أن يكون للعلماء علم بذلن ، وعندما استفسر بعض الناشطين من الشيخ حسن حبنكة الذي دعا إليه العلماء قال : ليس هذا قرارا ، ولا علم لنا بذلك ، فهرع أحد تلاميذ العلماء إلى الجامع الأموي لإحباط هذه المكيدة وإطفاء نار الفتنة التي تصر السلطة على إشعالها ، وخطب بالناس محذرا ومنبها إلى أن العلماء يعقدون جلسة لدراسة الموقف ، وإذا بالكهرباء تقطع عن المسجد وعن الحي من حوله ، وإذا بأحد الشيوخ من أعوان السلطة ، كما هو الظاهر أو المرجح ، يصعد المنبر ، ويدعو إلى المواجهة وحمل السلاح ، فخرج المصلون وهم ألوف إلى ساحة المسجد للسير في مظاهرة عارمة إلى منزل الشيخ حسن حبنكة ( وكان عددهم يزيد عن خمسة آلاف ) الأب الروحي لسكان العاصمة ، رأت أجهزة الأمن أن ساعة الانتقام قد أزفت فدخلت قوات السلطة إلى باحة الجامع الأموي بالأسلحة الخفيفة والثقيلة ، ولما رأي المصلون عصابات التدمير تندفع إلى ساحة الجامع ، أغلقوا الباب الكبير تجنبا للقتل وسفك الدماء ، فما كان من رجال الأمن والمغاوير والضباط الذين تغطي النياشين صدورهم إلا أن اقتحموا المسجد بعد أن حطموا الباب الكبير بالسلاح الثقيل ، وسرعان ما فتح حماة الديار!! نيران مدافعهم ورشاشاتهم على المصلين دون تمييز بين مصلي وخر بصورة عشوائية ، فسالت الدماء في باحة المسجد ، وتناثرت الأشلاء على جدران الجامع العريق وشرع رجال الانقلاب التقدمي الثوري ، يضربون الجرحى والمذعورين من هول الكارثة ، ثم طالب سليم حاطوم الذي كسر بدبابته باب المسجد ومعه مائتان من رجال الصاعقة رواد المسجد بالاستسلام ، وسيقوا إلى سيارات اللوري والشاحنات وهم يضربون بأخمص البنادق على رؤوسهم ، والدماء تغطي وجوههم ، وعندما وصلوا إلى سجن المزة ، أنزلوا إلى أقبية السجن حيث باشر السجانون بتعذيب المعتقلين بالضرب وصدمات الكهرباء ، وبعد أيام اقتيد المعتقلون إلى المسرح العسكري بالربوة لتجري محاكمتهم من قبل محكمة مشكلة من صلاح الضلي ، وسليم حاطوم الذي كسر باب المسجد قتل المصلين ، وكان في عداد المحاكمين الدكتور أمين المصري والأستاذ عبد الرحمن الباني والشيخ جودت سعيد ، وكانت المحاكمين تحكي آثار الضرب واللكمات والجروح الدامية ، واللحى التي كان المجرمون ينتفونها لما عن لهم ذلك ، بل كانوا يدخلون الأحذية في أواه المعتقلين ثم يعودون بهم إلى سجن المزة ، ليدخلوا بزنازين الباردة ، وليس لكل واحد منهم إلا بطانية واحدة.

أصدر المجرمون الحكم بالإعدام على طائفة من المساجين ، كان الأستاذ محمد بن كمال الخطيب واحدا منهم لانتمائه إلى تنظيم كتائب محمد ، وكان التعذيب مستمرا دون توقف ، وبعد وساطات ومراجعات تم الإفراج عن تنظيم المرابط دون الآخرين ، غير أن آمين الحافظ تدخل وأطلق سراح الجميع ، وهذا من الأعمال التي يحمد عليها ، كما سبق له مثلها في أحداث حماة ، وكان ذلك في أجداث الأموي في شهر كانون الثاني من عام 1965.

7- كان السباعي ، رحمه الله وأجزل له الأجر ، أكثر من قائد لجماعة الإخوان المسلمين ، فهو المراقب العام للجماعة ، وهو المعلم والموجه لأبنائها ، وكان قائدا لسرايا المجاهدين إلى فلسطين ، والمدافع الصلب عن الإسلام فيشتى الميادين السياسية والحقوقية والأكاديمية ، وهو الأستاذ الكبير الذي كانت محاضراته في الجامعة تستقطب الطلاب وتشغلهم عن دروسهم وكلياتهم ، ليتزاحموا في القاعة التي يلقي فيها الشيخ دروسه ، فلا يجدوا مقعدا ، ليضطروا للوقوف طيلة محاضرة الشيخ ، وهو البرلماني اللامع الذي أسكت بحججه القاطعة براهينه الدامغة الساطعة خصوم الدعوة والمتربصين بالإسلام ، لقد كان السباعي كل شيء في حياة الجماعة ، يملأ قلوبهم بحبه ، وعقولهم بفكره ، ومشاعرهم بالتعلق به ، وبالرغم من أن المرض المؤلم أقعده عن الكثير من نشاطاته ، فإن استمر في عطائه في كليتي الحقوق والشريعة ، وفي عمله الدائب في موسوعة الفقه الإسلامي ، وفي قاعة البث التي يتناول فيها أدق الموضوعات للنخبة من الطلاب والمولعين بالإصغاء إلى محاضراته ومناقشاته. بينما كان الشيخ يشد الرحال إلى الحرمين الشريفين في عمرة اشتد شوقه غيها ، كما اشتد شوقه إلى زيارة المسجد النبوي ، وقد فاض قلبه حبا وهياما بالرسول الحبيب الشفيع ، فقال فليه من الشعر أجمله وأعطره ، واعدا مريديه بأنه سوف يكتب بعد عودته كتاب يفند فيه من استغل مؤلف عن اشتراكية الإسلام ، وأخرج عن مساره في تفسيرات ملفقة زائفة ، وإذا بالمنية توافيه في الأجل المحتوم في 3-10-1964 ، وينتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا بعد حياة حافلة بالعطاء والعلي والفقهي ولدعوي ، وبالجهاد في ميادين المارك ضد الفرنسيين في سورية والإنكليز في مصر ، والصهاينة في فلسطين ، فخسر الإخوان في بلاد الشام بل خسر المسلمون في العالم عبقرية لم يستطع أحد من أبناء جيله أن يسد فراها أو أن يأتي بمثلها.

رحم الله شيخانا وقائدنا مصطفى السباعي في عطائه وجهاده وتضحيته وكرمه وشجاعته وسمو خلقه, وأعاننا على الاقتداء به ، والثبات على نهجه ، ورفع الله سبحانه قدره ومقامه في عليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين ، ومع سيد الثقلين حبيبنا وقرة أعيينا محمد (ص) الذي كان فقيدنا هائما بحبه والتأسي به ، والدفاع عن سنته طيلة سنوات عمره التي قضاه في هذه الحياة الفانية ، وجمعنا به في مستقر رحمته ورحاب مغفرته.


خامسا : الزحف الطائفي

في الساعات الأولى من انقلاب 8-3-1963 صدر البيان التاسع ( في الساعة الثانية ,أرعين دقيقة ) أعيد بموجبه أعضاء اللجنة العسكرية الخمسة إلى القوات المسلحة مع حوالي ثلاثين ضابطا آخرين ، ورفع النقيب حافظ أسد إلى رتبة مقدم دون أن يمر على رتبة رائد وعين آمرا لقاعدة الضمير الجوية أهم قواعد الطيران في سورية وفي ذلك الصباح وصل صلاح جديد على دراجة هوائية ليستلم مسئولية شئون الضباط ، وهو المكتب الهام والحساس في مصير الجيش وتنظيمه ، وفي الحال استولى محمد عمران على اللواء السبعين ، وهكذا بدأ المخطط الاستراتيجي للجنة العسكرية بالتنفيذ باسم المسئوليات التي نيطت بهم ، وباسم أكبر الوحدات العسكرية أو المواقع العسكرية هيبة ونفوذا( ). وهكذا صارت اللجنة العسكرية مجلسا داخل المجلس ، تقرر سياستها قبل اجتماعاته ، وتضع أعوانها وأبناء عشائها وطائفتها في المواقع العسكرية المؤثرة.

1- بعد أيام قليلة من انقلاب 8-3-1963 ، كنت مع الأخوين الكريمين : الدكتور عبد الكريم عثمان رحمه الله ، والأخ الداعية مصطفى الصيرفي نسير في الشارع المحاذي لنر العاصي ، وكان عبد الكريم يحمل جريدة في يده ، فإذا به يقول مندهشا :

- اسمعوا ، فقد قرر مجلس قيادة الثورة أن من صلاحية حل الجيش ، وتركيبه من جديد.

وهكذا ، قرروا إعدام الجيش الوطني ، والبدء بتشكيل جيش طائفي تحت مسمى الجيش العقائدي.

بادرت اللجنة العسكرية السرية إلى تصفية الجيش من كفاءاته بدعاوي عجيبة ومزاعم واهية ، فرعت باسم مجلس قيادة الثورة بتسريح العشرات فالمئات ، فالآلاف من جيش سورية الوطني ، بدعوى أنهم رجعيون أو ناصريون أو انفصاليون أو إسلاميون أو برجوازيون ، أو من أبناء المدن ، أو طائفيون ( كل من أنكر السلوك الطائفي لقادة انقلاب 8 آذار أتهم بالطائفية ).

لقد استغل أعضاء اللجنة العسكرية القرار الذي اتخذ بإبعاد 700 ضابط عن الجيش عقب الانقلاب مباشرة ، بإشعال أماكن ومواقع هؤلاء الضباط المسرحين ، وبضباط كان معظمهم من أبناء الطائفة العلوية( ).

وفي 2-5-1963 قام البعثون بتسريح أكثر من خمسين ضابطا من الناصريين ، ما حدا بوزير الدفاع الفريق محمد الصوفي ، واللواء راشد القطيني رئيس الأركان إلى الاستقالة من مجلس قيادة الثورة ومن منصبيهما ، ثم لحق بهما خمسة وزراء ناصريين ، وبعد ثلاثة أشهر من الستيلاء على السلطة ، طرد الانقلابيون اللواء زياد الحرير وزير الدفاع مع مجموعة من أنصاره يقدر عددها بالعشرات ، ثم شرع المجلس الوطني لقيادة الثورة بمطاردة الناصريين ، حتى أجبر أكثر من ألف منهم في وزارات الدولة على الاستقالة كما رأينا سابقا.

بعد محاولة 18-7-1963 الانقلابية التي قام بها الناصريون بقيادة العقيد جاسم علوان ، والهجوم في وضح النهار على محطة الإذاعة ومبنى الأركان ، وخروج أمين الحافظ من مبنى الأركان ورشاشه بيه ليقود عملية المواجهة ضد حركة الانقلاب الناصري ، الأمر الذي أدى إلى قتل وجرح المئات ، وخلال ساعات مثل سبعة وعشرون ضابطا أمام محكمة عسكرية ، ليقرر إعدامهم ، وينفذ فيهم حكم الموت في الحال ، كما رأينا من قبل.

انسحب الناصريون من الوحدة ، وهاجم عبد الناصر في 22-7-1963البعثيين السوريين ، ووصفهم بالفسقة والقتلة ، وأعلن رسميا انسحابه من اتفاقية 17-4-1963 القاضية بإقامة وحدة بين مصر وسورية والعراق ، وكان عبد الناصر ق بل ذلك يرتاب بالبعثيين ، ويكن لهم نفورا قويا ، فأطلق حملته ضدهم ، وشجع على التظاهرات المناوئة له ، وهدد بسحب الناصريين من الحكومة.

2- احتلال ضباط علويين لمواقع مهمة مثل رئاسة الأركان وآمريه القوة الجوية ، واللواء المدرع السبعين المتمركز حول دمشق ، ساعدهم على تشكيل تكتلات طائفية خلال الفترة 1963- 1965 ، وإبعاد المناوئين لهم من الناصرين والوحديين وغيره ، وقد قدر بعض الباحثين أن عدد الذين سرهم البعث من الجيش إثر محاولة انقلاب 18-7-1963 الناصرية بألف ومائة ضابط وصف ضابط كانت أسماؤهم جميعا لدى محمد نهبان الضابط العلوي الذي كان ضمن التنظيم الناصري ، ليحل محلهم عسكريون علويون التحق مئات منهم في الكلية العسكرية بحمص ، ليحل محلهم عسكريون علويون التحق مئات منهم في الكلية العسكرية بحمص ، فاتهم البعض محمد نبهان بأنه كان مدسوسا على الناصريين.

لقد كثف العلويون أو اللجنة العسكرية أو حزب البعث الذي تنفذ هذه السياسات باسمه في قبول أعداد كبيرة من أبناء طائفتهم في الكليات العسكرية ، وفي مراكز الإعداد الحزبي والتنظيم العسكري ، وفي الحرس القوي ، وفي الشعبة السياسية والمخابرات ، وفي المواقع الإستراتيجية المحيطة بدمشق ، وبمجرد أن يصل هؤلاء الضباط إلى مراكز قيادية كانوا يقوموا باستدعاء أقاربهم وأبناء عشائرهم وطائفتهم ، ويمدون لهم يد العون ليتقدموا ، ويتم قبولهم بالكليات العسكرية ، والبحرية ، والجوية ، ويؤكد فان دام صاحب كتاب : الصراع على السلطة في سورية أن معظم الذين تم استدعاؤهم كانوا ينتمون إلى الأقليات ، ولاسيما العلويون والدروز الإسماعيليون.

وهكذا استطاع حافظ أسد أن يضع رموزه السياسيين في الحكومة ، ومؤسساتها من طائفة واحدة ، وهي الطائفة العلوية.

كل هذه السياسات الطائفية التي تشمئز منها النفوس ، جرت وطبقت باسم قانون الطوارئ رقم ( 2 ) الذي أعلنه الانقلابيون ضحى يوم الانقلاب ، وأصدره مجلس قيادة الثورة ، فكان أول قرارات المجلس بعد الاستيلاء على السلطة.

ويقول الباحث الشهير الدكتور نيقولاوس فان دام : إن زعماء الطائفية العلوية وضباطها البارزين أمثال : محمد عمران وحافظ أسد وعزت جديد وإبراهيم ماخوس اجتمعوا لدراسة النتائج المترتبة على محاولة الانقلاب الفاشل الذي قاده الناصريون ، وقرروا ترفيع الضابط ، محمد نبهان ، ومحمد عمران ، وصلاح جديد ، إلى رتب دينية مثل : نجيب ، والوشاح البابي الأقدس ، والمقدم ، والمختص!! وتكليف مشايخ الطائفة بحض الشباب على الانخراط بالقوات المسلحة ، ومواصلة نزوح العلويين من الجبل إلى المدن الساحلية والداخلية ، ولاسيما اللاذقية وطرطوس وحمص.

أسجل هذه الوقائع نقلا عن مصادر أجنبية وعربية ، وأنا لا أكاد أصدق أن هذا حدث في سورية ، ومن مواطنين محسوبين على بلدنا وشعبنا ، وإن جميع الحكومات الوطنية بعد الاستقلال عاملتهم على قدم المساواة مع جميع المواطنين في تكافؤ الفرص ، وملء الوظائف المدنية والدبلوماسية ، والالتحاق بالجيش ودوائر الدولة ، ولولا ذلك لما تمكنوا من التغلغل في القوات المسلحة والقيام بانقلاب استخدموه للتسلط على رقاب العباد ، وقمع المواطنين بقسوة بالغة لم تكن معهودة في تاريخ سورية الحديث.

3- ضج كثير من البعثيين من هذه السياسة الطائفة المقيتة ، وصبغ المجتمع ودوائر الحكومة والمؤسسة العسكرية والأمنية والبعثات العلمية والسلك الدبلوماسي بالصبغة الطائفية ، فقد عانى السنيون من التمييز الطائفي لدى تقدمهم للالتحاق بالكليات العسكرية ومراكز التدريب الأخرى ، بينما كان يحظى العلويون والدروز والإسماعيليون والمسيحيون بتمييز إيجابي ، كما ظهر في حركة تنقلات الضباط داخل القوات المسلحة ، لتبقى الوحدات التي يسيطر عليها أبناء الأقليات حول دمشق .

وعندما فاحت روائح التكتل الطائفي حسب تعبير الدكتور منيف الرزاز الأمين العام للبعث خلال الفترة 1965- 1966 بدأ الحديث عنها في البداية همسًا ، ثم بدأت الأصوات تعلو عندما ظهرت بوادر مادية -صارخة- تسند هذا الاتهام من القادة الكبار لحزب البعث .

انبرى كذلك الأستاذ مطاع الصفدي- من القادة التاريخية لحزب البعث- لهذه الظاهرة المؤلمة والمخجلة للوطن والمواطن ، فأصدر كتابه : حزب البعث ، مأساة المولد ومأساة النهاية ، جاء فيه : إن التسريحات بالمئات ، والتي استهدفت جميع الضباط من أبناء المدن الكبرى ، ومن السنيين خاصة ، حتى فرغت أسلحة كاملة من ضباطها الرئيسيين كسلاح الطيران وسلاح البحرية والآليات ، كذلك اتبعت نفس الخطة حيال صف الضباط والجنود ، حتى أصبح من المتعارف عليه أن ألوية كاملة بأركان حربها وصف ضباطها وجنودها ، وقف على طوائف معينة كاللواء سبعين واللواء الخامس ، وقال الصفدي كذلك : لقد أغلق باب الكليات العسكرية في وجه شباب المدن السنية ، وكذا مختلف المدارس العسكرية ، حتى إن دورات كاملة من هذه الكليات قد سرحت من الخدمة جميعها من قبل أن تتخرج ثم قال : فالمعلمون- العلويون- يصبحون ضباطًا ، والفلاحون جنودًا وضباط صف ، أما اللواء سبعين فقد أصبح علويًا خالصًا بقيادته وقواعده تقريبًا.

على أثر هذه السيطرة الكاملة الطائفية ، ونجاح اللجنة العسكرية بالإمساك بمفاصل الحياة في سورية -العسكرية والمدنية- ضجت قيادة الحزب من هذا السلوك الطائفي المكشوف باسم الحزب وتحت شعاره ، ورفعت أصواتها بالشكوى والإنكار ، لأن هذا الوضع ينسف الحزب من أساسه ، ويقوض بنيانه ، ويفقده المصداقية ، فيما كان يدعو إليه من وحدة وطنية وقومية تتسامى على الانقسامات العنصرية والجهوية والطائفية والإقليمية ، وكان في مقدمة المنكرين من القيادات التاريخية للحزب : ميشيل عفلق ، وشلبي العيسمي ، ومنيف الرزاز ، ومطاع الصفدي ، وخالد الحكيم ، ونسيم السفر جلاني ، وأحمد سويداني وعشرات غيرهم ، وأغرب ما طفا على السطح من هذا السلوك الطائفي ما صدر عن محمد عمران الذي أسكرته هذه الانتصارات الطائفية العلوية وسيطرتها على كل مفاصل الحياة في سورية ، وليس الجيش والأمن فقط ، فإذا بهي صرخ منتشيًا : إن الفاطمية يجب أن تأخذ دورها بغية أن يلعب الضباط ( العلويون والدروز والإسماعيليون ) دورًا في تكتل طائفي ضد أبرز منافسيهم الرئيس السني والقائد الأعلى للقوات المسلحة أمين الحافظ .

أخرجت هذه التصريحات الاستفزازية الفجة والوقحة رؤوس السلطة والحزب ، فانتقد أحمد سويداني وأمين الحافظ وغيرهما طائفية محمد عمران بعد انكشاف أمره وباطنه ، واستعجاله في الكشف عن المخطط الطائفي والإمعان في تنفيذه ، وسرعان ما انضم إلى المنكرين لطائفية محمد عمران ، في حركة طائفية رهيبة حافظ أسد وصلاح جديد للتغطية على مخططهم الذي فضحه عمران ، وأحرج شركاءه في اللجنة العسكرية السرية كما مر معنا في المجلد الثاني من هذه الأوراق.

4- عمل صلاح جديد في صراعه مع الحافظ على كسب الضباط الدروز والضباط الإسماعيلين من أمثال عبد الكريم الجندي ، وحمد عبيد ، وسليم حاطوم ، كما كشف صلاح جديد حقيقة موقفه من الوحدة مع مصر التي لم يؤمن بها قط- وهو في الأصل من أرومة الحزب القومي السوري وكذلك إخواته- بل استغلوا شعارها ، وضللوا بها الجماهير في سورية ، وقضوا باسمها على الانفصاليين الذين كانوا أقرب إلى إقامة الوحدة من قادة الحكم الطائفي ، فقد اتفقوا سرًا مع عبد الناصر في مباحثات مكتوبة -قرأنا تفصيلاتها- لولا أن حقد عبد الناصر على النحلاوي ومجموعته أحبطها وفتح الطريق سالكًا لانقلاب 8- 3- 1963 عندما اشترط على ضباط الانفصال حل البرلمان ، وإقالة وزارة الدواليبي ، واعتقال رئيس الجمهورية ناظم القدسي ، فانهدم عهد الانفصال في حركة غبية سقط فيها النحلاوي ورفاقه لتدخل سورية في المجهول إلى أجل غير مسمى.

لقد حاول الحزب ، عبر عدد من المؤمنين بالوحدة ، أن يستأنفوا الحوار مع القاهرة ، وأن يسووا جميع الخلافات العالقة ، لتعود المياه إلى مجاريها ما بين القطرين الششقيقين ، ولاسيما أن انقلاب 8 آذار جاء زاعمًا أنه سيعيد الوحدة بين سورية ومصر ، غير أن صلاح جديد تصدى- مع أنصاره- لهذه المحاولة ، وقابل أي مشروع وحدودي بالرفض القاطع ، وعطل كل الجهود التي كانت ترمي إلى إعادة الوحدة بين أبناء الأمة الواحدة في كل من مصر وسورية العربيتين.

أسفرت الصراعات والتطاحن الطائفي عن تصفية الكثير من الضباط الذين ينتمون إلى الأكثرية ، أي أبناء السنة ، حتى ولو كانوا من البعثيين القدامة ، فلم يعد لهم من تأثير على مجريات الحياة العسكرية في الجيش أو في الأجهزة الأمنية بعد أن أحكم الطائفيون سيطرتهم التامة ، ليس على المواقع والوحدات والفرق والألوية وأفواج الجيش وسراياه وكتائبه وفصائله فحسب ، بل على كل قطعة سلاح ثقيل من دبابة ومدفع وطائرة بحيث يكون المسئول أو نائبه علويًا ، حتى إن الضباط الكبار من أبناء الأكثرية شعروا بفقدان الوزن- وهم من القلة التي استمرت في الجيش- والتجميد حتى في المواقع التي كانوا على رأسها.

التقيت عميدين في تلك الفترة في مكة المكرمة حضرا لأداء فريضة الحج ، وكان أحدهما متزوجًا من شقيقة الآخر ، فسمعت منهما وهما جالسان بجوار الكعبة أنهما لا يملكان من الأمر شيئًا ، وأن الحاجب لكل منهما أقوى نفوذًا وأعظم تأثيرًا من العميد الذي يقف على بابه ، وأن الواحد منهما يتحفظ في الحديث أمام حاجبه الذي يقوم بمهمة المراقبة عليه!

5- في أيلول 1965 تم توسيع المجلس العسكري- مجلس قيادة الثورة- وتسمية : المجلس الوطني لقيادة الثورة ، فضم هذا المجلس أعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة ، مضافًا إليهم عدد من البعثيين ، ممثلون عن لفيف من النقابات والمهن ، ومن عناصر سياسية من ناصريين وشيوعيين ومستقلين بعيدين عن الأحزاب القديمة ، وعن الإسلاميين والشخصيات الوطنية والمستقلة ذات الثقل الشعبي والتاريخي ، ليكون ملكًا لهذه العصبة من الانقلابيين ، يتصرفون بأقدار البلاد والعباد كما يحلو لهم ، وكما يشاءون ، ثم أعيد تشكيل المجلس في مطلع عام 1966 بعد التعديلات التي طرأت على القيادة السياسية والتغييرات في بنية السلطة ، ثم جرى حل هذا المجلس العتيد!! من قبل قيادة العسكر التي جاءت بهم في انقلاب جديد قام به مجموعة من الضباط العلويين والدروز في 23- 2- 1966 والذي كان البعثيون المناوئون للتسلط الطائفي يطلقون عليه ردة شباط عام 1966 .

كان أمين الحافظ قائدًا للجيش ، ورئيسًا للمجلس الوطني لقيادة الثورة ، ورئيسًا لمجلس الرئاسة -رئاسة الجمهورية- والأمين العام للحزب.. إلخ.. غير أه في الحقيقة لم يكن شيئًا مذكورًا. كان رجلا من القش حسب تعبير الذين أرخوا لهذه الفترة من التاريخ الغربيين ، ولم يكن -كما قال الأسد- يستطيع أن يحرك جنديًا من مكانه ، وقد شعر هو وأنصاره بانعدام الوزن والمهانة ، فحاولوا إصلاح هذه الحالة الشاذة ، فقرروا عبر القيادة القومية تشكيل الوزارة برئاسة البيطار ، واستدعوا محمد عمران من إسبانيا وأسندوا له وزارة الدفاع للحد من التسلط الطائفي ، غير أن خصومهم الذين كانوا يمسكون بزمام السلطة ومفاصل الجيش ، قرروا إنهاء هذا الجيب الأخير الذي يمثله في رأيهم أمين الحافظ ومن يشايعه ، فلجئوا إلى الحيلة ، ورتبوا خطة يتخلصوا بها وإلى الأبد من أمين الحافظ ، فقالوا له :

- يا سيادة الفريق ، إن خلافًا حادًا نشأ بين الجنود في الجبهة في بعض الوحدات ، وهذا أمر خطير لا يقدر على حله سواك ، وإن قائد الجبهة -الضابط العلوي- اتصل بقيادة الجيش مستنجدًا بعد أن سحب الضباط السلاح وشهروه على بعضهم.

وسرعان ما انطلت الحيلة على الحافظ وعمران ورئيس الأركان ، هرعوا إلى الجبهة لحل الخلاف ، لكنهم بعد الوصول إلى الجبهة لم يجدوا نزاعًا ولا شقاقًا بين العساكر بعد طوافهم بالوحدات واللقاء بها والاستفسار منها!!! فعادوا إلى دمشق ، وأوى كل واحد منهم إلى فراشه منهكًا.

استيقظ الحافظ في الثالثة من صباح 23- 2- 1966 على هدير الدبابات وزمجرة السلاح الثقيل ، حيث قام عساكر الصاعقة بقيادة سليم حاطوم ، وبدعم من سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد ، وكتيبة دبابات يقودها عزت جديد بشن هجوم على منزل الفريق أمين الحافظ ، فواجههم حرسه بدفاع شجاع ، ونشبت معركة بين الفريقين استمرت حتى منتصف النهار ، وكانت مغاوير حاطوم يأتون موجة إثر موجة للمشاركة في هذا القتال البطولي!! والقتال على أشده ، حتى نفدت ذخيرة المدافعين ، وقتل من قتل ، وأسر من أسر ، فاستسلم الفريق بعد أن أصيب عدد من أفراد عائلته بجروح ، ونقل قائد حرسه محمود موسى إلى المستشفى ، فلحق به عزت جديد ليجهز عليه ، فتدخل حاطوم لإنقاذه ، لأنه كان ضمن قواته في المغاوير من قبل ، وهربه إلى بيروت ، فكان حصاد هذه المعركة خمسين قتيلا من الفريقين.

تجمهر المواطنون لينظروا بدهشة وذهول إلى المنزل المتهدم ، وإلى قطع الأثاث المتناثرة من المبنى إلى الشارع والأرصفة ، وإلى الماء المتدفق من الأنابيب المتكسرة ، ثم وقعت صدامات في المدن الأخرى بين الموالين لأمين الحافظ في حماة وحمص وحلب واللاذقية ودير الزور ، سرعان ما تم القضاء عليها والسيطرة الكاملة لانقلابي 23 شباط لعام 1966.

6- اقتيد الحافظ عمران والموالون لهما إلى سجن المزة ، كما اعتقل في دار الضيافة في شارع بغداد ثلاثون من القيادة القومية لحزب البعث ، من بينهم صلاح البيطار ، ومنصور الأطرش ، وشبلي العيسمي ، وأعضاء القيادة القومية اللبنانيون والسعوديون والأردنيون ، أما منيف الرزاز فظل وحده طليقًا متخفيًا ينتقل من مخبأ إلى مخبأ ، يصدر منها بياناته بمهاجمة الانقلاب ، وأما عفلق فقد أوى إلى منزله دون أن يعتقله الانقلابيون ، فاتخذ طريقه إلى لبنان ، ومن ثم إلى البرازيل ، وانتهى به المطاف إلى بغداد ، وهذا ما سجله بإسهاب الكاتب باتريك سيل في كتابه عن السيرة الذاتية لحافظ أسد.

سبق الانقلاب محاولة من وزير الدفاع محمد عمران في وزارة البيطار لإبعاد مؤيدي جديد ، وهم اللواء أحمد سويداني ، وعزت جديد ، وسليم حاطوم ، كما حاولت القيادة القومية فرض سيطرتها المفقودة ، فقررت حل القيادة القطرية ، وعودة الانضباط العسكري للجيش ، لكن أمين الحافظ حال دون نقل الضباط ، وأوقف إجراءات النقل ، وألغى تحرك وحدة الضابط العلوي علي مصطفى ظهير القيادة القومية ومناصرها ، فأمسى الطريق مفتوحًا أمام جديد لانقلاب ضد أمين الحافظ ، وهكذا جنى أمين الحافظ على نفسه جراء ردود الفعل الحادة التي عرف بها.

إن من عرف الحافظ واختلط به- ونحن منهم في بغداد- يراه ذا شهامة ونخوة ، تأسره الكلمة الطيبة ، وينخدع بسرعة ، أما صلاح جديد فهو يتقن أساليب الخداع التي استخدمها مع عدد من الضباط ، كانت زياد الحريري الأول فيهم ، فعندما دُعي إلى الجزائر بمناسبة جزائرية وطنية ، ورآه جديد وقد أوجس خيفة من هذا السفر ، ومترددًا في السفر ، طمأنه جديد في حركة مسرحية ( وقد وقد خلع غطاء رأسه ( سييدارة ) ورماه على الأرض ) قائلاً : ولو يا أبا العز ، لحم أكتافنا من أفضالك ، فأنت الذي قمت بالانقلاب ، وأعدتنا إلى الجيش ، فانطلت الحيلة على الحريري وسافر مطمئنًا ، وعندما عاد من رحلته وجد نفسه مطوقًا ومجردًا من نفوذه كرئيس أركان الجيش ، وسرعان ما أبعد ليذهب إلى بيروت وبغداد ويعيش أكثر من أربعة عقود بعيدًا عن وطنه ، جراء فعلته التي سيكون حساب التاريخ عليها عسيرًا.

كان أنصار جديد يخاطبون الحافظ بعبارات التزلف والمداهنة ، وسرعان ما كان ينخدع بهم وبأحاديثهم ، وعندما كان حراسه وأفراد حاشيته يخبرونه عما يبيت هؤلاء من مكر وغدر ، يأبى أن يصدقهم ، وعندما كانوا يعرضون عليه تطويق تحركهم ، يجيبهم : عيب ، وهذه الكلمة كثيرًا ما يرددها ، بل كانت محط كلامه وأحاديثه ، وأكثر من ذلك : كان يسأل جماعة جديد : هل أنتم كما يقال لي عنكم؟!! وهكذا مهد بعقليته وسذاجته ، بل بكثير من حماقاته للكتلة الطائفية أن تلغي من الجيش كل من لا يدور بفلكها الطائفي المقيت ، وكل من يؤيد الحافظ نفسه الذي حماهم ، وكذا جميع الضباط الذين ينتمون للأكثرية من المواطنين.

تبع إزالة الحافظ تطهير الجيش والحزب والحكومة من بقايا السنة وأبناء المدن السورية الكبيرة ، فأبعدوا 400 ضابط وموظف ، فكانت هذه الضربة القاضية لتحويل الجيش السوري الوطني إلى جيش أقليات كما كان في ظل الانتداب الفرنسي ، بل أكثر تطرفًا في سيطرة العلويين على مرافق الجيش ومفاصله.

بعض الباحثين في تاريخ سورية الحديث ، ومنهم حزبيون سابقون يفسرون تصرفات صلاح جديد ، بأنه كان يضمر في أعماقه كيدًا دفينًا للبعث الذي قضى على أخويه غسان بالاغتيال ، وفؤاد بالسجن المؤبد ، فتحول وهو ضابط برتبة ملازم من الحزب القومي السوري إلى حزب البعث العربي ، ليهدمه من داخله ، ويأثر لذويه منه ، وبالفعل فقد بلغ مرتبة الأمين العام المساعد للحزب شكلاً ، والقائد الحقيقي للحزب فعلاً ، لأن الأمين العام لم يكن فاعلا بالتنظيم ، كما بلغ مرتبة رئيس الأركان في الجيش بوقت قياسي ، فسرح آلاف الضباط الأكفياء ، وبذلك يكون قد أمسك بتلابيب الحكم من طرفيه المدني والعسكري ، فاستطاع بهذا النفوذ الواسع أن يصفي قيادة الحزب التاريخية على دفعات ، كان الحوراني وأنصاره البداية ، ثم جاء دور عفلق والبيطار ومن يشايعهم ، فاتهموهم بالرجعية واليمين المتعفن حسب تعبيراتهم ، وطاردوهم ، وحكموا على مائة منهم بالإعدام غيابيًا ، وهكذا نجح جديد في تصفية البعث من جذوره ، وأبقوا فيه على التكتل الطائفي ، وحكموا البلاد باسمه موهمين الخلق في داخل البلاد وخارجها ، وفي المحيطين العربي والدولي أن حزب البعث هو الذي يحكم سورية والمهيمن على مقدراتها.

7- أما رئيس اللجنة العسكرية محمد عمران وأعلى أعضائها رتبة ، فقد وضعوه في مواجهة أمين الحافظ في النزا على السلطة ، وعندما اختلف مع قرنائه في اللجنة ، وفضح للعيانه سرها لميشيل عفلق وغيره تبرأ منه زميلاه في اللجنة العسكرية جديد والأسد واتهماه بالطائفية!! كيلا ينكشف أمرهما ، وتعاونا مع الآخرين على إبعاده إلى الخارج ، وعندما أعادته القيادة القومية وزيرًا للدفاع ، تركوه يكمل مهمته في صدامه مع أمين الحافظ ، فكان مثله كمثل ذكر النحل تنتهي حياته بعد أن يكمل مهمته ، وهكذا طورد محمد عمران ، وتم نفيه إلى قبرص ، ومنها إلى لبنان ، مقيمًا في مدينة طرابلس ، فعكف على كتابة مذكراته وتجربته في الحزب والحكم ، وأخرج أول جزء من مذكراته تحت عنوان : تجربتي في الثورة ، واعدًا أنه سيكشف عن أمراض الحزب والمجتمع في الإقليمية والطائفية التي كانت تلعب أدوارًا خطيرة من وراء اللافتات الثورية ، في الغوغائية والسطحية والتحالفات السرية المشبوهة لتنفيذ مخططات بعيدة المدى ، وفي تفشي المحسوبية والسمسرة محتمية بشعارات التقدمية حسب تعبيرات محمد عمران الذي قال : سألجأ إلى عرض آرائي علني استطيع أن أساهم في إيقاف هذا التدهور الشامل الذي تتعرض له مؤسساتنا الثورية في وطننا عن طريق إثارة النقاش والحوار والبحث في حلول أكثر جذرية حسبما جاء في الجزء الأول من مذكرات عمران.

شعر جديد والأسد بخطورة ما أقدم عليه عمران من فضح سياسات اللجنة العسكرية المدمرة ، فعجلا بالقضاء عليه واغتياله قبل أن يكمل الجزء الثاني من مذكراته الذي أشار فيه إلى أنه سوف يتحدث عن المواقف والأحداث والأشخاص ، ليدفن معه التاريخ الخفي لأحداث الحزب والتخطيط الطائفي خلال عشرين سنة على صعيد الحكم والجيش قبيل اغتياله والقضاء عليه.

8- وقبل مغادرة هذه الفترة من أحداث 1963- 1966 أتساءل عن مصير الذين انتهكوا حرمات الله ، وهدموا بيوت الله على رؤوس المصلين ، ومزقوا أجساد المحتمين بالمساجد من بطش الطغاة ، كما كانوا يفعلون في ظل الانتداب الفرنسي دون أن يلجأ الفرنسيون المستعمرون إلى المس بحرماتها وقدسيتها ، ماذا جرى لهم ، وكيف كانت خاتمتهم؟ وهل عجل الله لهم العقاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة الأشد والأبقى؟ لقد بدأ حكم الأقلية في اقتحام جامع السلطان وقتل زهاء سبعين شهيدًا من المعتصمين فيه ، وقصف مئذنته التاريخية ، وهدم حرمه وبنيانه بكماله وتمامه ، وهذا ما فعلوه بجامع خالد بن الوليد في حمص في نفس العام 1964 ، ثم فعلتهم في الجامع الأموي أكبر معالم التاريخ الإسلامي في العالم كله ، وعندما سئل أمين الحافظ في مؤتمر صحفي عن هدم المساجد أجاب دون أن يعتذر أو يداري في إجابته أو يتنصل من فعلته التي كانت تقترف باسمه :

- لقد هدم الحجاج الكعبة وكأن هدم الكعبة مثل يحتذى ، دون أن يجد من يقرأ على سمعه وأسماع الناس جميعًا قوله سبحانه : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ . وصدق الله جل وعلا ، فقد عجل لهم العقوبة في الدنيا وألحق بهم الخزي جزاء وفاقًا ، إذ لم يمض عامان على هدم جامع السلطان وقتل العشرات من أبناء الدعوة وشباب الإسلام في رحابه حتى كان الذين استغلوا أمين الحافظ وجعلوا منه واجهة يقترفون جرائمهم وهدم المساجد باسمه ، حتى طوقوا منزله ، وقصفوه كما قصف جامع السلطان ، وهدموا عليه وعلى آل بيته المنزل الذي يسكنه كما هدموا جامع السلطان على المحتمين فيه ، وساقوه إلى السجن ذليلاً مدحورًا كما ساقوا المصلين الذين لم يقتلوا بجامع السلطان إلى السجون ، فحدث له ولمنزله كالذي حدث في عهده وفي حضوره لحماة ما حدث لجامع السلطان في مدينة أبي الفداء.

وفي حمص أشرف نور الدين الأتاسي أحد واجهات الحكم الطائفي بصفته وزيرًا للداخلية على اقتحام مسجد خالد بن الوليد القائد التاريخي الفذ ، وكسروا أبواب حرمه واعتقلوا المصلين فيه ، وساقوهم بالشاحنات تحت وطأة الضرب الشديد والمهانة الأليمة ، فماذا كان مصير نور الدين؟ لقد زج به من استغله في إيذاء أبناء مدينته ، واقترفوا الجرائم باسمه ، ودفعوا به لارتكابها... في غيابه السجن زهاء ربع قرن ، ولم يخرج منه إلا ليواري التراب بعد أيام قليلة من مغادرته السجن في هذه الخاتمة البائسة.

أما سليم حاطوم الذي كسر بدبابة كان يركبها باب المسجد الأموي ، واندفع مع المئات من عناصره في الصاعقة إلى المسجد ليطلق النار من دبابته ورشاشته عشوائيًا على المصلين ، فتسيل دماؤهم وأشلاؤهم كما رأينا من قبل.. الخ.. فكانت عقوبته من شركائه في الإجرام أن ألقوا عليه القبض عندما عاد ليحارب -كما قال- بجانبهم ، وأحرقوا أعضاءه وأعضاء رفيقه بدر جمعة قبل تنفيذ الحكم بإعدامهما. وقد رأينا ماذا حل بعمران بعد أن بشر بالحكم الفاطمي عندما دبر رفيق دربه بالتخطيط الطائفي أمر اغتياله في طرابلس في 4- 3- 1972 فيما بعد على يد جهاز المخابرات السورية كما دلت الآثار التي خلفها من قتلوه على الجهة التي دبرت أمر الاغتيال .


سادسًا : تصفية الضباط الدروز

قام الأمين العام للقيادة القومية منيف الرزاز بعد نجاته من الاعتقال بعد انقلاب 23/2/ 1966 بتشكيل تنظيم للحزب من أمكنة اختفائه ، لإعادة تقلد القيادة القومية للسلطة ، وتزعم القطاع المدني ، كما تزعم فهد الشاعر -الدرزي- المكتب العسكري الذي قام بتشكيله ، فضم في عضويته : فهد الشاعر أمينًا عامًا ، وصلاح نمور -سني- ومجلي القائد- مسيحي من حوران- وعلي سلطان ، وشريف سعود ، وعلي الضماد- سني من حوران- والمقدم إسماعيل هلال ، كما ذكر ذلك تفصيلاً منيف الرزاز عندما التقاه فان دام في 22- 4- 1974 في عمان ، واستثنى الشاعر أي ضابط علوي ، كيلا ينكشف مكتبه وتحركه ، غير أإن الرزاز أكد أنه لم يستبعد العلويين من تشكيل المكتب العسكري ، بل على العكس ، فقد طالب الشاعر كما طالب ميشيل عفلق عن طريق مبعوثه من بيروت بإشراك الضابط العلوي علي مصطفى في المكتب العسكري ، لكن أعضاء المكتب تريثوا خشية انكشاف تنظيمهم ، فوافق الرزاز على تأجيل انضمامه طالما أن الثقة كانت مفقودة ، بينما كان التنظيم المدني يضم عددًا من أبناء الطائفة العلوية.

1- عندما عقد انقلابيو 23- 2- 1966 مؤتمرًا قطريًا لمناقشة الأسباب التي أدت إلى الانقلاب ، تقرر معاقبة كل من اتخذ موقفًا طائفيًا أو إقليميًا أو عشائريًا ، لوضع حد للمناورات الطائفية. وفي نهاية المؤتمر القطري الاستثنائي استبعد كل من حمد عبيد ، وسليم حاطوم ، من القيادة القطرية السورية المؤقتة التي تقلدت زمام الحكم رسميًا في 23- 2- 1966.

كان حميد عبيد يرى أن لديه الحق في استعادة مركزه السابق كوزير للدفاع ، مكافأة له على دعمه لصلاح جديد ضد أمين الحافظ منذ شهر أيلول/ سبتمبر 1965 ، غير أنه بدأ واضحًا أن وزارة الدفاع لن تسند إليه مرة أخرى ، بل أسندت لحافظ أسد الذي أضحى بعد 23/2/ 1966 لأول مرة وزيرًا للدفاع ، فحاول حميد عبيد بتحريض من جماعة أمين الحافظ القيام بانقلاب مضاد في مدينة حلب ، فباءت محاولته بالفشل ، وتم القبض عليه ، وعلى من وقف بجانبه من قبل النظام الجديد ، وجرت له محاكمة حزبية في أواخر عام 1966 ، اتهم فيها بالثراء غير المشروع ، وسواء استخدام السلطة ، فاستشاط حاطوم غضبًا ، وعارض بشدة مصادرة أملاك حميد عبيد. كما أن حاطوم- الذي كان له دور رئيسي في الإطاحة بأمين الحافظ- فقد اعتباره في الحزب ، وشعر أنه خدع من قبل صلاح جديد الذي أيده في الانقلاب ضد الحافظ ، واستخدمه كمخلب قط في ذاك النزاع ، فبدأ في بناء تنظيم عسكري خاص به ، حيث كانت غالبيته من الضباط الصغار من جبل الدروز ، بالإضافة إلى بعض الضباط البارزين مثل طلال أبو عسلي ، وعدد من الضباط غير الدروز مثل مصطفى الحاج علي من حوران قائد المخابرات العسكرية في الجبهة مع إسرائيل ، كذلك اتصل حاطوم بجماعة حمود الشوفي الذي كان قد شغل من قبل منصب الأمين العادة للقيادة القطرية في الحزب ما بين أيلول 1963 وشباط 1964 ، وكان له أتباع في جبل الدروز وفي المحافظات الأخرى ، وكان توجيههم يساريًا بل وماركسيًا.

2- في 10- 8- 1966 اكتشفت القيادة القطرية بطريق الصدفة خطط الانقلاب المدبرة من قبل القيادة القومية المخلوعة ومن قبل سليم حاطوم ، وتمكنت مع معرفة أسماء المشاركين في هذا الانقلاب ، الذي اختار له فهد الشاعر يوم 3- 9- 1966موعدًا ، لولا أن أحد أعضاء تنظيمه العسكري الرائد محمد نعيمي انهار تحت التعذيب الشديد الذي مارسه عبد الكريم الجندي عليه وعلى أمثاله ، فاعترف بالتحرك والاستعداد للانقلاب ، وأعطاه أسماء عشرة ضباط مشتركين في المؤامرة ، وأعطى كل واحد من هؤلاء العشرة بدوره أسماء آخرين حتى بلغ مجموع الموقوفين مائتين كان معظمهم من الدروز ، كما أن طلال أبو عسلي صرح وهو في حالة سكر شديد بموقفه من الأسد والقيادة الجديدة ، فاختفى فهد الشاعر ، وهرب البعثيون المدنيون للنجاة بأنفسهم ، وأدى تطهير الجيش من الدروز إلى ضجة كبرى في جبل العرب ، فقرر صلاح جديد ونور الدين الأتاسي السفر إلى السويداء ، ومعهما جميل شيا العضو الدرزي الوحيد في القيادة القطرية ، بعد أن استلموا مذكرة من مجموعة حاطوم تضمنت وجهة نظر الغالبية من أعضاء فرع السويداء للحزب ، ومنها إعادة الضباط المبعدين إلى مراكزهم السابقة ، وعقد مؤتمر قطري لبحث أزمة الحزب ، وإلا فإنهم سيتجاهلون أي تعليمات صادرة عن القيادة القطرية ، ويقاطعون أي انتخابات حزبية إذا ما استمرت عملية تصفية الضباط الدروز الذين شاركوا في انقلاب 23- 2- 1966.

3- انتهز حاطوم ذهاب صلاح جديد ونور الدين الأتاسي وجميل شيا ، إلى جبل الدروز ( السويداء ) فأجرى الترتيبات المحكمة ، إذ طلب من طلال أبو عسلي السيطرة على الجبهة بكتيبة دبابات ، ومن مصطفى الحاج علي أن يستولي على كتيبة الكوماندوس التابعة لحاطوم نفسه ، وأن يتأكد من وجود معسكر قطنا في أيد يطمئن لها ، ثم توجه على جناح السرعة إلى السويداء قبل وصول صلاح جديد إليها ، ومر بوحدة دبابات في حوران ، وكلف آمرها إبراهيم نور الدين بقطع طريق السويداء بعد عبور جديد وأصحابه ، وبعد أن جمع صلاح جديد عددًا كبيرًا من الشخصيات المحلية في مكتب فرع الحزب ، دخل عليه سليم حاطوم وبيده رشاشه ، ووضع جديد الأتاسي تحت الحراسة في منزل أحد الحزبيين ، وألقى القبض على الضباط العلويين بعد تجريدهم من سلاحهم ورتبهم ، كان منهم النقيب محمد إبراهيم العلي قائد الجيش الشعبي دون أن يفطن حاطوم إلى موقف حافظ أسد من هذه الأحداث .

وضع حاطوم في مفاوضاته الهاتفية مع الأسد ، ومع يوسف زعين مطالبه في هذا الصراع التي كان أهمها :

أ- عودة أنصاره الضباط إلى مناصبهم العسكرية.

ب- إطلاق سراح أتباعه المعتقلين.

ج- تطهير الجيش من أبرز أنصار صلاح جديد العسكريين.

د- إعادة مجموعة الشوفي إلى الحزب.

هـ- استقالة القيادة القطرية المشكلة في آذار 1966 ، وتعيين قيادة قطرية مؤقتة ، يكون فيها خمسة على الأقل من جماعة الشوفي.

رفضت قيادة الجيش التسليم بهذه المطالب ، وحركت إلى السويداء قطعات عسكرية ، فيها كتائب الصواريخ مهددة بقصف السويداء ، كما حلقت طائرات الأسد في سماء الجبل تساند القوات البرية فأدرك حاطوم وأبو عسلي أنهما خسرا المعركة ، فقررا الهرب إلى الأردن إنقاذًا لجبل الدروز من ضربة ماحقة.

4- عقد حاطوم مؤتمرًا صحفيًا في عمان يوم 13- 9- 1966 ، وسرد روايته لما حدث في السويداء ، وصرح بأن الوضع في سورية مهدد بوقوع حرب أهلية نتيجة لنمو الروح الطائفية والعشائرية التي يحكم من خلالها اللواء صلاح جديد واللواء حافظ أسد والفئات الموجودة حولهما ، وأضاف : إن الروح الطائفية تنتشر بشكل فاضح في سورية وخاصة في الجيش ، وإن الفئة الحاكمة تعمد إلى تصفية الضباط والفئات المناهضة لها ، وتحل مكانهم من أتباعها بمختلف المناصب ، فقد بلغت نسبة العلويين في الجيش خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى ، ومضى حاطوم قائلاً : إذا ما سئل عسكري سوري عن ضباطه الأحرار ، فسيكون جوابه : إنهم سرحوا وشردوا ، ولم يبق سوى الضباط العلويين ، إن الضباط العلويين متمسكون بشعيرتهم ، وليس بعسكريتهم ، وهم جماعة صلاح جديد وحافظ أسد.

تحدث في هذا المؤتمر طلال أبو عسلي مضيفًا إلى ما قاله حاطوم : إن وضع الجيش السوري دقيق جدًا وخطير ، إذ أن جميع أبناء الوطن هم ضد كل ما هو علوي ، وهذا الانقسام قائم في الجيش لدرجة الاقتتال في كل لحظة ، وإن التسلط العلوي شمل كل المستويات ، لدرجة أنك ترى المرأة العلوية ، تتصرف وكأنها السلطة ، وفي كل المنازل التي يسكنها العلوين يرى جيرانهم بوضوح تسلطهم باسم السلطة ، وباسم الحزب ، وكل علوي من كبير أو صغير يعرف ماذا سيحدث من تطورات وتنقلات ومن اعتقالات قبل أن يعرف بعض كبار المسؤولين .

5- بعد فشل انقلاب حاطوم ، تم إجراء تصفيات واسعة النطاق في الجيش وفي الحزب ، شملت معظم ضباط الدروز ، وغالبًا ما كان يتم تسليم زمام القيادة بالوحدات العسكرية التي تم تصفيتها إلى ضباط علويين ، واستمرت هذه التصفيات والاعتقالات في سورية حتى عام 1967 ، وظل فرع الحزب في السويداء مشلول الحركة والنشاط لأكثر من ستة أشهر بعد قشل انقلاب حاطوم.

أثارت هذه التصفيات الطائفية الدرزية السورية ، حتى إن القائد المخضرم سلطان الأطرش قائد الثورة السورية ضد الفرنسيين عام 1925 ، والذي لا يزال يحظى باحترام كبير ، أرسل برقية مفتوحة لرئيس الأركان السوري في كانون الأول/ ديسمبر 1966 جاء فيها : أولادنا في السجون مضربون ، نحملكم النتائج ، لقد اعتاد الجبل- ولا يزال- أن يقوم بالثورات لطرد الخائن والمستعمر ، ولكن شهامته تأبى عليه أن يثور ضد أخيه ، وأن يغدر بيني قومه.

وفي آذار 1967 قدم العديد من الأشخاص المتورطين في المؤامرة الفاشلة إلى محاكمة عسكرية خاصة في دمشق ، فوجهت النيابة تهمتين إلى المحاكمين هما : الاشتراك في مؤامرة أجنبية للإطاحة بنظام الحكم ، والتحريض على حرب أهلية وانقسام طائفي ، وطالب النائب العام بإعدام خمسة من الضباط الدروز وهم : فهد الشاعر وسليم حاطوم وطلال أبو عسلي وعبد الرحيم بطحيش وفؤاد أبو الفضل .

كانت الأحكام غيابية باستثناء فهد الشاعر الذي تحدى في المحكمة حكم الإعدام الذي لم ينفذ به ، ولما كانت نهاية أمين الحافظ هي نهاية لوجود الضباط السنيين في الجيش ، كانت نهاية حاطوم نهاية للضباط الدروز في الجيش ، ثم تبعهم تصفيات أبناء محافظة حوران لاحقًا ، ليصفو الجو لآلاف الضباط العلويين الذين أمسكوا بمفاصل السلطة ، وعلى رأسها تنظيمات الجيش الكبيرة منها والصغيرة.

لا يفوت الباحث أن يذكر أن تعبير السنيين في الجيش لا يعني أن الضباط السنيين كانوا يتمسكون بعقائد أهل السنة أو أفكارهم أو سلوكهم أو أخلاقهم ، بل كانوا سنيين في المولد والنشأة والبيئة فقط ، ولم يكن أي فرق في الأخلاق والسلوك بين معظم ضباط الجيش وأفراد الحزب بين سني وعلوي ودرزي وإسماعيلي ومسيحي ، فالكل في معاقرة الخمرة وتعاطي الزنا و.. إلخ سواء ، وهذا كله -مع ذلك- لم يشفع لهم طالما أنهم ولدوا في بيئات وأسر سنية ينتمون إلى الأكثرية من المواطنين السوريين التي تبلغ نسبتها 82% من مجموع الشعب السوري ، كما لا يفوتنا بعد أن رأينا مصير الذين قاموا بدك المساجد وهدم بنيانها في حماة وحمص أن نتساءل عن مصير حاطوم الذي حطم باب المسجد الأموي بدبابته ، وقتل المصلين في ساحات الحرم ، وسفك الدماء ، ومزق أجساد المحتمين ببيت الله ، وساقهم في مذلة ومهانة مرت معنا تفاصيلها ، فكيف كانت خاتمته؟

لقد دخل في أثناء حرب 1967 سورية ليشارك في القتال الدائر مع إسرائيل كما رأينا ، فألقت السلطات عليه القبض وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التآمر مع الدوائر الإمبريالية الإنجلزأمريكية والألمانية الغربية للإطاحة بالنظام السوري ضمن مخطط استعماري شامل ، ونفذ فيه حكم الإعدام ، وقتل شر قتلة ، مع رفيق دربه وشريكه في جرائمه بدر جمعة سفاح حلب الذي كان يهوي القتل بالجملة دونما سبب يستحق كلمة لوم ، فعندما أضرب عمال النسيج في حلب ، وكان يحكم المدينة بقبضة من حديد ، طلب من العمال أن ينتدبوا وفدًا منهم ، فجاءه ثمانية منهم فقال : هل يرغب أحد من المضربين بالانضمام إلى الوفد؟ فجاءه أربعة آخرون ليبلغ العدد أثنى عشر نقابيًا فلم يلبث أن رشهم بالصاص ، فخروا صرعى يتخبطون بدمائهم ، ثم التفت إلى العمال المضربين قائلاً : هل يوجد من يريد التحدث باسم المضربين؟ ارجعوا إلى معاملكم ، فعادوا خائفين مذعورين لما شاهدوه من وحشية لا تخطر على بال ، ولا يتحملها ضمير إنسان مهما بلغت وحشيته وقسوته.

لقد نفذت السلطة حكم الإعدام بهذا الطاغية -بدر جمعة- مع رفيقه سليم حاطوم بأسلوب وحشي وهمجي ، لا نرتضيه لأي إنسان مهما كان جنسه أو مذهبه أو معتقده أو انتماؤه ، لأن الإسلام ينهى عن المثلة ، ويوصي بالرفق بالدابة حين ذبحها ، فما بالنا بالإنسان الذي كرمه الله ، ورفعه فوق كثير من الخلائق التي خلقها الله وبثها في أكوانه.

قيل إن بدر جمعة كان من أصل جزائري ، فهل تحقق الباحثون من هذا الأصل الذي يخفي على الناس حقيقة نسبه ، لأن الجزائري العربي المسلم لا يمكن أن تصدر عنه مثل هذه الوحشية التي لم نر مثيلاً لها حتى لدى بعض الأعداء من المحتلين والمستعمرين!!

نذكر هذه الخاتمة المرعبة للذين انتهكوا محارم الله في بيوته ، لا حقدًا ولا تشفيًا ، فإن هذا مما ينهي عنه الإسلام ، وتأباه شريعته ، ويجافي أحكامه وسنته ، ويخالف مناهج الأنبياء وسيرهم وأخلاقهم الذين نسير على خطاهم. فسيدنا يوسف -عليه السلام- يقول لإخوته بعد أن فعلوا فيه الأفاعيل ، وقد نصره الله عليهم ورفع قدره : ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ . وسيدنا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول لأهل مكة ( وقد قتلوا أصحابه وأخرجوه وأتباعه من ديارهم ) : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، أذهبوا فأنتم الطلقاء .

تذكر هذا ليتعظ الظالمون ، فيكفوا عن ظلمهم ، وليعتبر المظلومون ، يصبروا ويثبتوا ، متأكدين وموقنين بحسن الخاتمة ، وبالفرج المحتوم ، والنصر من عند الله المبين : ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ .


سابعًا: حالة الطوارئ

تعد حالة الطوارئ الآلية التشريعية المركزية ، والمسوغ الكبير بيد النظام في أسلوبه القمعي المخيف ، وهي التي أعلنها الانقلابيون بوصفها بيانًا عسكريًا رقم ( 2 ) صدر بتاريخ 8- 3- 1963 أي في الساعات الأولى التي قفز فيها العسكر على السلطة والحكم ، فكانت أول قرار للضباط البعثيين وحلفائهم يصدر عن مجلس قيادة الثورة بعد الاستيلاء على مقاليد السلطة في دمشق.

لقد أوضح عدد من القضاة والقانويين لمراقب الشرق الأوسط أن حالة الطوارئ لم تكن يومًا مشروعًا قانونيًا ، لأنها لا تتوافق مع أحكام المرسوم الاشتراعي ذي الرقم ( 51 ) أو مع الدستور ولم يقرها مجلس الوزراء الذي يرأسه رئيس الجمهورية ، ولم يسبق أن عهد به إلى البرلمان السوري للتصديق عليها في أي دورة برلمانية ، وكلاهما لازم استنادًا إلى المادة ( 2أ ) من المرسوم ذي الرقم ( 5 ) ، وهذا ما لم يحصل قط في سورية ، علمًا بأن حالة الطوارئ حسب المرسوم رقم 51 مقصورة على وضع الحرب ، أو ما يهدد باندلاعها ، أو ما يعرض الجمهورية أو جزءًا منها إلى الخطر ، أو حدوث كارثة عامة.

1- يسوغ النظام السوري تمسكه بحالة الطوارئ أنها بسبب دوام الصراع مع إسرائيل كما يقول مندوب سورية في الأمم المتحدة ، وكما يؤكد حافظ أسد قائلاً : إن حالة الحرب هي الحالة التي تعيشها سورية منذ احتلال الحركة الصهيونية جزءًا من أرضنا العربية ، فنحن في حالة حرب تفرض علينا باستمرار قانون الطوارئ لعشرات السنين!! وهذا ما تضمنه خطاب حافظ أسد في المؤتمر الخامس لاتحاد شبيبة الثورة كما نقله راديو دمشق حسبما أورد تقرير منظمة رقيب الشرق الأوسط عن انتهاكات حقوق الإنسان في سورية .

إن حالة الطوارئ تمنح الحاكم العرفي -رئيس الوزراء ونائبه وزير الداخلية -صلاحيات مطلقة في تقييد الحركة والتجمع ومراقبة البريد والاتصالات والمطبوعات ، وحق المصادرة وتعليق أو إغلاق وسائل الإعلام ، واستعادة أو مصادرة الممتلكات ، وبالرغم من هذه الصلاحيات المرعبة والمطلقة ، فإن النظام السوري خرق هذه القوانين في مجالات عديدة ومناسبات مهمة ، ففي إجراءات الاعتقال التي يتضمنها قانون الطوارئ يتعين توقيع الأوامر من قبل الحاكم العرفي أو نائبه ، غير أن ما كان يحدث أن أوامر الاعتقال تعطي لدوائر الأمن موقعة من دون أسماء للعمل بها كيف تشاء ، وأنها تملأ بأسماء المعتقلين بعد الاعتقال.

إن دوائر الأمن تهمل المحاكم كافة ، ولا تكترث مطلقا حتى بالإجراءات الروتينية الشكلية في توجيه التهمة رسميًا في إجراء المحاكمة ، فالسجناء السوريون السياسيون مرهونون بحجز وقائي تام ، ليمضي بعضهم في الحجز سنوات طوالا ، ربما يصل عشر سنوات أو عشرين أو ربع قرن كما يشاء المتسلطون الأمنيون ، دون مراعاة لأي اعتبار قانوني أو إنساني أو أخلاقي ، ودون أن يكون للضحية حق في الاستئناف على حكم الحاكم العرفي أو مقاضاة قراراته ، وبالتوسع المفرط لحدود الجرائم السياسية ، وبالسماح بالحبس والحجز بغير حدود ، ومن دون محاكمة ، فإن حالة الطوارئ فتحت الطريق واسعًا أمام انتهاكات حقوق الإنسان الرهيبة في سورية الجريحة والمنكوبة.

2- ومنذ الساعات الأولى للانقلاب صدرت مراسيم وقرارات عديدة زادت في ضعف النظام القضائي السوري ووهنه ، فالقانون الصادر بالمرسوم رقم ( 6 ) في 17- 1 1965 أقام المحاكم العسكرية الاستثنائية الخاصة للنظر في قضايا سياسية صرفة ، وهي ذات سياقات عمل أقل مما في المحاكم العسكرية المشار إليها في أصل القانون ، وأبسط منها في الإجراءات ذات الضوابط القضائية ، وقد جاء في الفقرة ( أ ) أن الأعمال التي تعد متعارضة مع تنفيذ النظام الاشتراكي سواء أكانت أفعالاً أم كلامًا أم كتابة ، أو تؤدي بأي وسيلة من وسائل الاتصال أو النشر ، وكذا أي معارضة لتوحيد الدول العربية ، أو أي من أهداف الثورة أو إعاقة تحقيقها.. إلخ ، وسرعان ما وضعت هذه البنود الشاذة موضع التطبيق منذ نيسان 1964 عندما تحرك النظام البعثي للقضاء على الاحتجاجات على مظالم الحكم ، فقضت المحاكم العسكرية الاستثنائية بإعدام العشرات ، ونفذت الحكم فيهم ، وفي وقت لاحق حلت محاكم أمن الدولة محل المحاكم العسكرية رقم 47 الذي تم تعريفه على كونه لا يخضع للإجراءات المألوفة والمعروفة في المحاكم المدنية ، فالدليل الذي يقدم إليها -لمحاكم أمن الدولة- ليس له وجود اعتباري في القانون ، كما ي شهادة السماع ، أو اعتماد رأي الادعاء ، وليس من ثم فرصة للطعن في قراراتها الإجرائية ، ومع كل هذا التجاوز على كل ما عرفه الإنسان في مسيرته الحضارية في مجال القضاء ، أقام المرسوم القانوني فيما بعد رقم 109 في 17- 8- 1968 نمطًا آخر مما سمي بمحاكم الطوارئ ، أو ما سمي بالمحكمة العسكرية الميدانية ، أو ما يشار إليها باسم الجبهة العسكرية التي تشكل في أي مكان ، أثناء الحرب أو من خلال العمليات العسكرية الأخرى .

وبهذه المحاكم التي لا تعرف دول العالم لها مثيلاً ، حكم على العشرات ، بل المئات بالإعدام في محاكمات تجري على الأرصفة وقارعة الطريق ، وسرعان ما ينفذ حكم الإعدام كما حدث في حلب وجسر الشغور وحماة ، وفي العديد من المدن والقرى السورية في ستينيات القرن الماضي. إن هذه المحاكم تقع دائمًا خارج أي نظام قضائي ، بل إن الأحكام تصل مسبقًا إلى المحاكم عن طريق الأجهزة الأمنية التي نفذت الاعتقال ، وفي مثل هذه المحاكم الميدانية ، فإن الحكم الصوري صار منهجًا يوميًا ، فالنظام يتحرك من أدعاء تمسكه بالقانون إلى إغفال القانون إطلاقًا ، ومن المحاكم المشروعة إلى المحاكم الصورية الاستثنائية ، ثم إلى لا محاكم البتة .

ضجت نقابات المحامين في سورية من هذه الأنظمة التي لا تمت إلى الدساتير والقوانين والقرارات والأعراف والمعقول والأخلاق بأي صلة ، وبدأت بحملة ضارية على هذه المحاكم التعسفية سببت حملة وحشية ودموية من أجهزة الأمن على المحامين والقضاة ورجال القانون ، مما سيأتي ذكره مفصلا في حينه وفي أوراق لاحقة ، وفي الفترات الزمنية التي حدث فيها قمع المحامين والقضاة ورجال القانون والمدافعين عن حقوق الإنسان وآدميته.

3- بادرت حكومة 23 شباط/ فبراير 1966 إلى إرسال وفد سري إلى القاهرة صباح انقلابها برئاسة مصطفى الحاج علي إلى عبد الناصر -كسبًا للوقت وتضليلاً للشعب- لإحراجه والمزايدة عليه لسحب قوات الأمم المتحدة من خليج العقبة ومضائق تيران ، فوقع عبد الناصر في الفخ ، وخدع من جديد من حكام الأقلية الجدد في سورية الذين جاء بهم انقلاب 23 شباط ، على تنوع أساليبهم في الخداع والمكر ، لدفع العرب إلى منزلقات أودت بهم إلى نكبة الخامس من حزيران/ يونيه 1967 ، وإلحاق الهزيمة المنكرة بأمتنا التي وقعت ضحية الكيد الباطني الذي تواصل وامتد من ابن العلقمي إلى اللجنة العسكرية السرية التي أنشأها في القاهرة ، وفي ظل الوحدة : محمد عمران ، وحافظ أسد ، وصلاح جديد.


ثامنًا: إرهاب السلطة الحاكمة

يقدر ما كان الدور السوري عظيمًا في حركة التحرر والنهوض عربيًا وعالميًا ، جاء التآمر على حرية سورية واستقلالها كبيرًا وخطيرًا منذ أواخر الأربعينيات ، وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من الدول الطامعة ، وفي مقدمتها أمريكا وإنكلترا ، غير ، أن سورية الكبيرة بصمودها في مواجهة الأحلاف الاستعمارية ، أحبطت ذلك كله ، وخرجت من ذاك الصراع قوية ظافرة ، وإذا بفئة غادرة تحسب على أنها من أبناء سورية وليست من أعدائها ، تسدد لها ضربة دامية ، وتستولي على السلطة بانقلاب أدخلها في التيه المظلم لأكثر من 45 سنة باسم الحرية والتقدمية والثورية والوحدة ومواجهة الصهيونية والإمبريالية في شعارات كان الواقع على عكسها ، فتسفك الدماء ، وتنهب البلاد والعباد ، وتستبيح القيم والمحرمات ، وتزرع الخوف في النفوس ، وتمعن في تجويع المواطنين وإفقارهم وقهرهم وما تزال ، وبكلمة موجزة ، تمارس الفئة الحاكمة وسلطة الأقليات في سورية أخطر انتهاك لحقوق الإنسان في العصر الحديث.

1- إن أخطر ما يتعرض له الإنسان من انتهاك حقوقه وحرياته ، أن تتحول الدولة -بجميع طاقاتها وقدراتها المادية والمعنوية- مؤسسة تمارس الإرهاب ضد أفراد المجتمع ، وترتكب جرائم القتل والخطف واغتيال المعارضين ومصادرة الأموال ، وسحق وقمع كل من يخالفها في الرأي ، أو يعارض أو ينتقد سياساتها استنادًا للقوانين الشاذة التي وضعتها وشرعتها.

كيف تستطيع الدولة التي تحولت إلى مؤسسة إرهابية أن تصدر قوانين جائرة تمارس باسمها ومن خلالها الإرهاب والبطش ضد المواطنين؟ إن ذلك يحدث عبر الحكم الشمولي الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري ، واغتصب حق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه ، واعتبر المواطنين قاصرين ، وله حق الوصاية عليهم ، فألغى دستور الشعب ووضع لنفسه دستورًا على مقاسه ، نزع منه سيادة الشعب ، ووضع له قائدًا على الدولة والمجتمع أضفى عليه صفات العظمة والقداسة ، برغم أنف الدولة والمجتمع ، واحتكر لنفسه حق الترشيح لرئاسة الدولة ، دون أن يملك أي مواطن هذا الحق ، وعلى الشعب أن يقول لمن ترشحه السلطة الباغية : نعم ، كما أوجد هذا النظام مجلسًا سماه مجلس الشعب ، جعل التشريع قسمة بين هذا المجلس وبين رئيس الجمهورية ، مع أن الواقع العملي أن التشريع ينحصر بيد رئيس الجمهورية ، ولا يملك هذا المجلس إلا أن يقر بالإجماع ما يقترحه الرئيس من القوانين - مع التصفيق الحاد-مما سهل إصدار القوانين القمعية بمراسيم تشريعية أو قوانين قدمها رئيس الجمهورية إلى المجلس فوافق عليها المجلس بالإجماع مهما تضمن تنفيذها من جرائم تقشعر من هولها الأجسام بحق الإنسان والوطن ، ومهما أدى تطبيقها إلى سفك دماء الألوف من المواطنين والأبرياء.

من أهم هذه القوانين :

أ- قانون حماية الثورة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( 6 ) تاريخ 17- 1- 1965 المنوه عنه سابقًا.

ب- قانون إحداث محاكم الميدان العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( 19 ) المؤرخ في 17- 8- 1967.

ج- قانون إحداث محكمة أمن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( 39 ) المؤرخ 1968.

د- قانون إحداث إدارة أمن الدولة الصادرة بالمرسوم التشريعي رقم ( 14 ) المؤرخ في 14- 1- 1969 ، وقانون التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( 549 ) المؤرخ في 25- 5- 1969.

هـ- الدستور السوري الصادر في 13- 3- 1973.

و- القانون ( 49 ) الصادر في تموز 1980.

ز- قانون المحاماة رقم ( 39 ) المؤرخ في 1981 ، ثم تبعه قانون المهن الحرة ، كقانون الأطباء وقانون الصيدلة والمهندسين.

كل هذه القوانين والمراسيم تتيح للطغاة قتل المواطنين لأسباب تافهة ، وبمحاكمات صورية مجردة من كل ما يمت إلى النظام القضائي المحلي والعالمي بصلة ، وتؤله رئيس الجمهورية الذي اغتصب الحكم بالسلاح ، ونصب نفسه رئيسًا بصلاحيات مطلقة وغير مسبوقة ، بالأنظمة الدستورية في العالم كله ، مما سيأتي تفصيله عنها في مكانها ضمن الأحداث في سياقها الزمني وتسلسل الأحداث.

2- قانون الطوارئ هو القانون الأخطر الذي يمس حقوق المواطنين جميعًا دون استثناء ، وهو أداة لسلب حرياتهم والاستيلاء على أموالهم ، وانتهاك الحقوق التي نظمتها لوائح حقوق الإنسان وجميع الشرائع السماوية والقوانين الأرضي ، فقد أعطى قانون الطوارئ للحكومة أن تفعل أي شيء في أي مواطن دون بيان الأسباب وبلا تعليل ، وبدون إعطاء أي حق لأي جهة قضائية للاعتراض على هذه الأفعال التي ت شكل أبشع الجرائم الجنائية ، وبكلمة موجزة ، تعطي السلطة الحق في فعل أي شيء في الوطن والمواطنين.

إن قانون الطوارئ يعلن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية ، وبأكثرية ثلثي أعضائه حسب الفقرة أ من المادة الثانية من المرسوم 51 الصادر بتاريخ 22- 12- 1962 ، على أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له ، وسورية لم يكن فيها مجلس نواب حين صدر هذا المرسوم ، وعندما يكون مجلس النواب منحلاً يسترد حقه بالمصادفة على إعلان الطوارئ في أول جلسة يعقدها بعد انتخابه ، وتنص المادة 153 في الدستور المعمول به في سورية على أن التشريعات النافذة والصادرة قبل إعلان هذا الدستور سارية المفعول إلى أن تعدل بما يوافق أحكامه ، وإذا علمنا أن حالة الطوارئ لم تعرض على مجلس الشعب ، ولا على أي مجلس تشريعي منذ إعلانها وحتى كتابة هذه السطور في منتصف عام 2008 تبين لنا أن حالة الطوارئ في سورية غير دستورية ، وأن كافة التصرفات التي تمت على أساسها باطلة ، لمخالفتها الدستور والقانون ، مما يتبع عدم قانونية القرارات الصادرة بالاستناد إليها ، وبخاصة أوامر اعتقال الأفراد ومصادرة الأموال ، لأن ما بني على باطل فهو باطل ، وأن أوامر اعتقال الأفراد استنادًا لحالة الطوارئ ، يشكل جريمة حجز الحرية ، وهي جريمة جنائية بنص المادة 556 من قانون العقوبات السوري يعاقب عليها بالأشغال الشاقة ، وقد جاء في كلمة مندوب سورية أمام اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي مقرها في جنيف : إن الحكومة السورية بفضل قاعدتها الشعبية ، شعرت أنها من القوة الكافية بحيث أنها لا تلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ ، مما يعني أن حالة الطوارئ في سورية غير معلنة دستوريًا ، وإنما واقعيًا ، وهذا أدهى وأقسى.

إن إساءة استخدام حالة الطوارئ قد تعاظمت فيما بعد بصورة خطيرة ، ولاسيما في الأعوام 1979 و 1980 ، فشهدت أشكالا من انتهاكات حقوق الإنسان ، وارتكاب مجازر فردية وجماعية رهيبة هزت الضمير الإنساني ، وأهمها انتهاك الحق في الحياة بصورة جماعية فيما سيأتي بيانه في مرحلة لاحقة.

3- في ظل قانون الطوارئ تنعدم ممارسة السلطة القضائية ، لأية صلاحية بصدد الاعتقالات ، ويحرم المواطن من حقه في الطلب من القضاء بشرعية توقفية ، ولا يحق له الطعن بقرارات الحاكم العرفي في اعتقاله أو مصادرة أمواله ، أو التظلم من ذلك أمام أي مرجع قضائي ، كما يمنع ذوو المعتقل من معرفة مكان اعتقاله ، أو العلم بالتهم الموجهة إليه ، ومن ثم عدم إمكان زيارته للتحقق مما إذا كان المعتقل حيًا أو ميتًا ، وقد ترتب على ذلك أن أكثر المعتقلين الذين لم يقدموا للمحاكمة هم في عداد المفقودين ومجهولو المصير ، كما ترتب على هذه الإجراءات الظالمة ، وهذا الاستهتار بكرامة الإنسان وآدميته : خلل في العلاقات الاجتماعية والأسرية بسب طول مدة الاعتقال من دون محاكمة ، وعدم معرفة مصير المعتقل ، أو مكان وجوده ، كالعلاقات الزوجية ، والإرث ، أو الشراكة والملكية وغيرها.

فهل واجه الإنسان في أي قطر من أقطار العالم ، أو أي شعب من شعوب الأرض- يهودًا أو نصارى أو بوذيين أو وثنيين أو ملحدين- مثل هذه المآسي التي واجهها المواطن السوري في وطنه؟ وهل عومل أي عميل أو عدو في سورية ، ولاسيما الصهاينة كالذي عومل به السوريون الذين عارضوا إرهاب الدولة وهمجية المتسلطين على رقاب العباد وشؤون البلاد بعد انقلاب 8 آذار المشؤوم عام 1963؟ هذا هو النهج الذي قال ورثة الطاغية أنه خط أحمر لا يجوز مسه أو تجاوزه أو الاعتراض عليه.

ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن الاعتقالات أمست مصدر نهب وابتزاز واستلاب مبالغ طائلة من ذوي المعتقلين للسماح لهم بزيارة أبنائهم أو آبائهم أو أزواجهم ، إذ كانت النسوة يذهبن إلى الجبل يلتمسن من أم مدير السجن -المقدم فيصل الغانم- السماح لهن بزيارة المعتقل في سجن تدمر ، ويمكنهن من رؤية المعتقل ، ولو لدقائق من خلف الأسلاك الشائكة ، بعد دفع ما كانت تشترطه أم المقدم فيصل الغانم وهو أخذ كل ما لدى أهل المعتقل من ذهب ومصاغ ، وليس بالعملة الورقية السورية التافهة.

وكذلك الأمر في سائر المعتقلات والسجون الأخرى.


تاسعًا: الصهاينة وانقلاب 8 آذار=

كانت فلسطين تشكل الجزء الجنوبي من بلاد الشام ، حتى جاءت معاهدة سايكس -بيكو بعيد الحرب العالمية الأولى ، فمزقت بلاد الشام ، وجعلت منها أربع دول تمهيدًا لتنفيذ المشروعات الاستعمارية على أرض الشام ، وتقديمها لقمة سائغة للصهاينة من قبل الإنكليز الذين نكثوا عهودهم للشريف حسين وللعرب بإقامة الدولة العربية الممتدة من عدن جنوبًا إلى جبال طوروس شمالاً ، فشرع الإنكليز الذين غدروا بالعرب ، ووعدوا اليهود بتسليمهم فلسطين ، ينفذون المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين ، ويفتحون باب الهجرة لهم على مصراعيه ، وتم تعيين اليهودي الإنكليزي صموئيل مفوضًا ساميًا للإنكليز في فلسطين ، ليقوم بتوزيع أراضي الفلسطينيين بسخاء على اليهود القادمين ، والتضييق على العرب الفلسطينيين بالضرائب الفادحة على الأرض ، وبالإجراءات الثقيلة على الحقول الزراعية ، للضغط على السكان كي يتركوا الأرض أو يبيعوها ويهاجروا إلى خارج مناطقهم ، وكذا مطاردة المعارضين ، وإعدام الثائرين ، لإفراغ فلسطين من أهلها.

1- كانت سورية أول الدول العربية في التصدي للهجمة الصهيونية ، ولمشروع الحلفاء - فرنسا وإنكلترا- في تقسيم سورية ، وتسليم فلسطين بعد سلخها من الوطن الأم إلى الصهاينة ليحلوا محل سكانها ، تمهيدًا لطردهم من أرضهم ووطنهم ، فكانت الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية والجمعيات الإسلامية في ثورة عارمة في الدفاع عن عروبة فلسطين في كل مدن وقرى وبقاع سورية ، وكانت الحماسة في نفوس السوريين كالبركان غيرة على المسجد الأقصى وما حوله من الأرض المقدسة ، ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي والإخوان المسلمون في مصر وسورية في نشاط دائب وحركة مستمرة ضد المشروع الصهيوني وتآمر الإنكليز على فلسطين ، فكان التعاون وثيقًا بين قادة الإخوان المسلمين بقيادة مرشدهم الإمام حسن البنا وإخوانه وقيادات الإخوان في سورية من جهة ، وبين الزعامات الفلسطينية وفي مقدمتهم الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا في فلسطين والشيخ نمر الخطيب العالم المجاهد إمام المسجد الكبير في حيفا وغيرهما من الساسة والمجاهدين الفلسطينيين.

وعندما أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين عام 1947 بضغط شديد من أمريكا وإنكلترا على الدول الصغيرة والضعيفة في هيئة الأمم المتحدة ، هب الشعب السوري عن بكرة أبيه في التصدي لهذه المؤامرة الدنيئة والخيانة الكبرى بحق حاضنة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، المسجد الأقصى ، ومسجد الصخرة ، والأرض المباركة ، وخاض الإخوان المسلمون السوريون معارك ضارية كانت أحد الأسباب التي أنقذت القدس وأبقته في أيد العرب الفلسطينيين ، كما شهد بذلك قادة فلسطين ومؤرخوها من أمثال عارف العارف ، وساستها أمثال الحاج أمين الحسيني وإميل الغوري ونمر الخطيب وغيرهم ، مما جاءت تفصيلاته في المجلد الأول من هذه المذكرات عن الإخوان المسلمين في سورية.

كانت المؤامرة التي حاك خيوطها المنظمات الصهيونية العالمية والدول الكبرى المهيمنة على هيئة الأمم ومجلس الأمن والسياسات العالمية : أكبر من قدرات العرب وحكوماتهم المستقلة حديثًا ، والضعيفة في قدراتها العسكرية ، وتخاذل الكثيرين من السادة والقادة ، مما ألحق بالعرب هزيمة نكراء ما زلنا نتجرع مرارتها ، وأوقعتهم في نكبة تذوب القلوب منها كمدًا ، وتتفطر الأفئدة من شديد الألم.

غير أن السوريين ظلوا مبعث قلق الصهاينة المغتصبين لفلسطين ، بما يثيره أبناء سورية أبناء سورية من تحرك عاصف ضد الذين اغتصبوا فلسطين ، وما يقومون به من تعبئة الأمة وتوعية الجماهير ، وتشكيل لجان الدعم بمختلف ألوانه ، وما يفضحون للملأ من مؤامرات الأعداء وتخاذل الأصدقاء ، وما يبيتونه للشعب العربي والأمة الإسلامية من خطط مدمرة تزول منها الجبال ، وقد قرأنا من قبل أن جماعة الإخوان المسلمين كانوا يضطلعون بالعبء الأكبر من سياسة التصدي للعدو في فلسطين كما رأينا وقرأنا ذلك من قبل في المجلد الأول من هذه الدراسات.

ظل الأمر هكذا حتى وقعت الواقعة ، وحدث انقلاب 8 آذار الذي قام به بعض عساكر الجبهة مع العدو حيث تركوها متوجهين إلى دمشق ، مطمئنين إلى أن العدو لن يحرك ساكنًا ، ولن ينتهز فرصة تحرك الضباط الأشاوس ، وتركهم لمواقعهم في الجبهة ، متجهين إلى دمشق لهدم الحياة الدستورية والنيابية والسيطرة على مقاليد الحكم ، وليزجوا بقادة البلاد -الذين قادوا شعبهم إلى الاستقلال- في غياهب السجون ، فكان سكون العدو ، وعدم قيامه بأي تحرك في الجبهة التي سحب العقيد زياد الحريري وأمثاله قسمًا من الجيش المرابط فيها ، وتركوا الجبهة مطمئنين -أول إشارة لموقف العدو من هذا الانقلاب الخسيس!!

2- تنفس الصهاينة الصعداء ، واطمأنوا إلى جبهتهم الشمالية التي كانت منذ عام 1947 وحتى عام 1963 مبعث قلق ومصدر خوف من شعب سورية ومن جيشها ، فساد الهدوء بين الصهاينة وبين حكام 8 آذار لسنوات طوال تخللها مؤامرات مفضوحة بين الحكم الثوري في دمشق ، وبين الصهاينة في فلسطين ، شملت تسليم الجولان وعقد اتفاقات سرية بعد عام 1967 وعام 1977 مما سيأتي ذكره مفصلا وموثقًا ، وعدم السماح لأي سوري بتفجير -ولو- قنبلة صوتية قد تزعج اليهود ، ولا بتحرك مقاوم واحد ضد العدو ، سواء أكان سوريًا أم فلسطينيًا ، مما سنرى أدلته في سياقه ، بل كانوا يقبضون على كل من يتحرك على الحدود ، ويزجون به في أقبية المعتقلات والسجون ، ويذيقونه أشد أنواع التعذيب.

استمر هذا الهدوء بين السلطة الحاكمة في دمشق وبين العدو المحتل لخمس وأربعين سنة ، باستثناء الصدام عام 1973 ، والذي استلم اليهود من جرائه بضعًا وثلاثين قرية من الأرض السورية ، ليضيفها العدو إلى ما احتله من الجولان وما حول الجولان ، وليحتلوا ذري جبل الشيخ ، لتكون دمشق في مرمى مدفعية العدو ، ولتكون الأرض السورية في متناول العين المجردة!!

امتد شهر العسل بين التتار الجدد ( الذين جثموا على صدور السوريين وعلى عاصمتهم ومدنهم بكلكل ثقيل أرهق الناس وأذاقهم الويلات ) وبين الصهاينة عقودًا بدعوى الاستعداد للمعركة التي سيختار الطائفيون مكانها وزمانها!! تحت شعار التوازن الإستراتيجي مع العدو الذي رفعوه لأكثر من عقدين ، يخادعون به السوريين والشعب العربي والأمة الإسلامية ، دون أن يفطن كثيرون لما يبيت من شر مستطير للبلاد والعباد بالتنسيق الكامل أو الرضا التام مع الإسرائيليين.

خدع كثيرون من المعنيين بشعار التوازن الاستراتيجي ، ولاسيما اليساريون والعلمانيون ، والعديد من الفلسطينيين ، والبعض من قادة الحركات الإسلامية ، حتى فاجأ العدو -فيما بعد- العالم كله جهرة وبلا تستر أو مواربة أو غطاء بأن الصهاينة -عبر وسائل إعلامهم المعلنة- لا يسمحون بأي تغيير في سورية ، ومارس اللوبي الصهيوني -في داخل فلسطين وفي خارجها ، ولاسيما في الولايات المتحدة- ضغطًا شديدًا محذرًا من أي تغيير في هيكل الحكم في سورية ، لأن البديل سوف يكون المتشددين -تعبير يطلق على الحركات الإسلامية- أو الفوضى ، وهذا ليس من مصلحة إسرائيل ، وسرعان ما بدلت أمريكا مواقفها قائلة : لا نرمي إلى تغيير النظام ، بل نهدف إلى تغيير سلوكه!!

فاجأ السفاح الباطني ابن العلقمي الجديد حافظ أسد الأمة كلها بتغيير شعار التوازن الاستراتيجي إلى شعار : السلام الاستراتيجي بعد أن لم يعد لديه ما يخيفه أو يخفيه ، فبدأت وسائل إعلامه ( التي لا تسمح بأي صوت حر أو معارض على أرض الوطن ) وسدنة حكمه الذين أذاقوا الناس مرارة الجوع والفاقة والعذاب بالتطبيل والتزمير للشعار الجديد قائلين : إن خيارنا الدائم والثابت هو السلام الاستراتيجي مع إسرائيل ، بل صار وريث الطاغية ولده بشار -الذي جيء به من مقاعد الدراسة لتسليمه سورية تركه موروثة- يقول في وقت لاحق ستأتي تفاصيله في سياقه : فلتجرب إسرائيل الحوار معنا ، لتتأكد من عزمنا وتصميمنا على إحلال السلام الدائم معنا ، لأن خيارنا هو السلام الاستراتيجي الدائم فيما بين سورية وإسرائيل.

3- دأبت سلطات انقلاب 8 آذار على تسويق نفسها على أنها العدو اللدود لإسرائيل ، وأنها رأس الحربة في التصدي للمشروع الصهيوني في حروب كلامية بلغت بالمواطنين حد القرف لتكرارها الدائم وصك الآذان بكلماتها ، وأن حكومة سورية التقدمية الثورية ستقذف الكيان الصهيوني في البحر ، وأنها ستقود حربًا شعبية لتحرير فلسطين ، ثم بدا لحافظ أسد أن ينادي بعدم جدوى المقاومة ، فقام بسجن المنظمات الفدائية ولاسيما حركة فتح بشكل غير مسبوق ، ليؤدبهم ويعقلهم -حسب تعبيره- لأن الصراع مع اليهود يحتاج إلى جيوش نظامية ، وليس إلى مقاومة تعطي العدو التبرير بالاعتداء علينا ، واحتلال أرضنا -كما سيأتي في إبانه- كالذي فعله بتغيير شعاره : من التوازن الاستراتيجي إلى السلام الاستراتيجي.

استمر حافظ أسد بخداع السوريين ، وخداع العرب الذين ابتزهم بدعوى التصدي لإسرائيل ، وتقوية جيشه استعدادًا للمواجهة معها ، حتى بلغ الأمر ببعض العرب وبعض الفلسطينيين أن يعتقدوا بأن الذي سيحرر فلسطين هو حافظ أسد ، بما يطرحه من شعارات رنانة وحرب كلامية بكل الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمكتوبة التي تملكها الدولة ، ولا تسمح لأي مواطن أن يكون له أي وسيلة معها. ظل الأمر هكذا طويلا وشهر العسل يمتد بين حكومة الأقلية في دمشق وبين الصهاينة على أرض الواقع بصرف النظر عن معارك : ونكيشوت الإعلامية عقدا إثر عقد حتى أتيح لليهود بناء قوة هائلة ودولة ترجح قوتها على قوات العرب مجتمعين ، بالرغم من أن عدد العرب وحدهم -دون شعوب الأمة الإسلامية- يفوق عدد اليهود خمسا وخمسين مرة ، أو لا يقل عن خمسين مرة على خلاف في الإحصاءات وعدد السكان.

ظل الأمر هكذا خداعًا وتضليلا حتى شاء القدر أن يفضح هذه الفئة الباغية التي تستبقي شعب سورية المصابر في محنته ، وذلك عندما كشف الغطاء عن مؤتمر جامعة تل أبيب عام 1964 ، كان موضوعه : الاتحاد السوفياتي والشرق الأوسط ، تدارس فيه قرابة ثلاثين مفكرًا وباحثًا من بلدان غربية ومن إسرائيل -تطورات العالم العربي من جوانبها المختلفة ، طمأن فيه أحد كبار الأخصائيين الإسرائيليين الذين كانوا يخشون من المد اليساري الذي تتظاهر فيه حكومة انقلاب 8 آذار الثورية!! بأنه لا خوف من هذه الظاهرة التي ليست سوى غطاء لما تقوم به حكومة الأقلية من علونة - تمكين العلويين من مرافق الحكم والجيش والأمن والمرافق الأخرى- السلطة الجارية على قدم وساق ولكنها موجهة ضد جمال عبد الناصر أساسًا ، وقد انتهت هذه الموجة اليسارية- حسب الظاهر الذي يخفي حقيةق السلطة وأهدافها- انتهت إلى انقلاب 23 شباط 1966 الذي نفذه تحالف من الأقليات العلوية والدرزية والإسماعيلية مع ضباط من أصول بدوية -انتهى إلى حكم حافظ أسد بعد أربعة أعوام ، وبعد ثلاثة أعوام من هزيمة أو خيانة حزيران ، مكافأة له ، بعد أن حطم الجيش السوري ، وجرده من معظم إن لم يكن من كل كفاءاته ، وتركه دون هيئة ضباط -حسب تعبير باتريك سيل صديق الأسد وكاتب سريته الذاتية -ليمني بهزيمة شنعاء ستبقى أبد الدهر عارًا على حكم طائفي تسلط على رقاب العباد ومصائر البلاد في غفلة من الزمن ودعم من الأعداء ، وتفريط من لفيف من الساسة في تلك الفترة الحالكة شديدة السواء .