المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٦:٠٩، ١٣ أكتوبر ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب'المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل كتاب لـ: عبد القادر محمد سيلا ==تقديم بقلم: عم...')
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل

كتاب لـ: عبد القادر محمد سيلا

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وجعل ميزان الكرامة فيما دعا إليه: التقوى والعمل الصالح، فكانت المساواة وإلغاء الفوارق والتمييز العنصري واللوني روح الحضارة الإسلامية، التي جاءت نسيجًا متشابك العطاء من حيث المساهمات البشرية؛ إلى درجة لا يمكن معها أن تصطبغ بغير اللون الإسلامي والعطاء الإنساني ﴿ صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة ﴾ .

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الثاني عشر (المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل ) للأستاذ عبد القادر سيلا ، في سلسلة الكتب التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر ، مساهمة منها في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، إلى جانب العطاء الصحفي والدور الإعلامي الإسلامي الذي تضطلع به مجلة ((الأمة))... يأتي لونًا جديدًا، ويشكل إضافة نوعية نرجو الله تعالى أن تكون باكورة لمجموعة من الدراسات الميدانية لحاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين في العالم، ولعلّ مجموعة الاستطلاعات المصوّرة التي قدمتها ((الأمّة)) في هـذا المجال قد حققت قدرًا لا بد منه من المعرفة بأحوال المسلمين ومشكلاتهم والتحديات التي تواجههم؛ والتي نأمل أن نتمكن من جمعها وترتيبها وتقديمها في سلسلة كتاب الأمة مستقبلًا إن شاء الله، إلاّ أنّ البحث المتخصص في كتاب يبقى له من الشمول والإحاطة والاستقراء الكامل ما يجعله ذا عطاء متميز، خاصة إذا كان المؤلِّف من أبناء المنطقة، و ((أهل مكة أدرى بشعابها))

ولا بد لنا من الاعتراف بالتخلف المخجل في مجال الدراسات الاجتماعية، وحسبنا في ذلك معرّةً أن تكون دراسات غير المسلمين عن حاضر العالم الإسلامي هـي التي تغطي الجانب الكبير من مصادرنا للمعلومات، ودليلنا إلى المعرفة...

أما بالنسبة لأفريقيا بالذات -التي نزعم أنها القارة المسلمة- فمعظم مصادرنا للمعلومات والإحصاءات السكانية، ودليلنا إلى معرفة العبادات والعادات القبلية تكاد تكون كنسية محضة، في الوقت الذي لا يزال كثير منَّا لا يرى آفاقًا للعمل الإسلامي إلا بالوقوف طوابير أمام الأبواب المغلقة والجدران المسدودة. ونكاد نقول هـنا بأنَّ هـذا الواقع البائس الذي نحن عليه، وهذه الإحباطات المستمرة التي نعاني منها إنما جاءت نتيجة لعدم وجود الدراسات المتأنية والدقيقة لعالم المسلمين وقضايا العالم بشكل عام، ذلك أننا نحاول التحرك في عالم لا ندرك أبعاده تمام الإدراك على أحسن الأحوال، وكثيرًا ما تكون انتصاراتنا لقضايا كثيرة انتصارات عاطفية بعيدة عن أية معرفة وبصيرة؛ وحسبنا هـنا أن نأتي بأنموذج واحد من عمل غير المسلمين إلى جانب مئات النماذج والألوف من الدراسات التي تتعهدها الدول أحيانًا، وتستقل بها بعض المعاهد والمؤسسات الخاصة المتخصصة أحيانًا أخرى؛ ففي دراسة إحصائية حول الأديان أصدرت جامعة ((أوكسفورد)) موسوعة أسهم فيها أكثر من خمسمائة خبير في الأديان، تجولوا في مائتين واثنتي عشرة دولة ومقاطعة في العالم لأخذ العينات وإجراء الدراسات الإحصائية، واستمر هـؤلاء الخبراء في العمل حوالي أربع عشرة سنة متواصلة، وكان مما جاء في هـذه الدراسة أن الدوائر الكنسية قلقة جدًّا من ظاهرة المدّ الإسلامي في القارة الأفريقية، إذ أنَّ الإسلام ينتشر فيها بسرعة مذهلة، وقد بلغ معدّل نمو الدين الإسلامي 235% وينبع التخوف الكنسي من ظاهرة المدّ الإسلامي في أفريقيا من إدراك الأعداء أن الإسلام يلقى قبولًا سريعًا لدى الإنسان الأفريقي، لأنه دين الفطرة الذي جاء بالمساواة وإلحاق الرحمة بالناس؛ بعيدا عن التمييز العنصري و أوضار الاستعمار اللذين ترافقا مع الوجود النصراني.

والحقيقة أنَّ الخارطة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لأفريقيا بالشكل المطلوب لا تزال غائبة عن المسلمين بشكل عام وعن المؤسسات والجمعيات والجماعات المعنية بشؤون الدعوة الإسلامية بشكل خاص. ولقد آن الأوان لتأخذ وسائلنا في العمل الإسلامي شكلًا مدروسًا يأتي استجابة لرؤية صحيحة عن الواقع الذي نتعامل معه، وقد يكون من الأمور المؤسفة أن الكثير من الدراسات والتقارير التي تقدم عن أفريقيا -والتي نحاول فيها تقليد أعداء الإسلام- تحفظ في الأدراج، ويلفّها الإهمال والنسيان، ولا تجد طريقها إلى التحليل والدراسة، ومن ثم وضع الخطط على ضوئها. ومع ذلك نبكي على ضياع أفريقيا بين الأطماع الاستعمارية والمؤسسات التنصيرية والاستلاب الصهيوني.

ولعلّ من أبسط متطلبات الدعوة إلى الإسلام اليوم في أفريقيا، وفي العالم بأسره: تشكيل الأقسام واللجان المتخصصة بقضايا أفريقية ونكاد نقول: تشكيل اللجان المتخصصة بكل دولة من دولها بل بكل قبيلة من قبائلها لتعد الدراسات الدقيقة وتضع دليل العمل الذي يمكّن من فهم طبيعة الإنسان المخاطب، وذلك بدراسة الخلفية التاريخية لثقافته وعقيدته واهتماماته، واستحضار تاريخه بشكل عام؛ حتى نتمكن من معرفة المداخل الصحيحة لشخصيته، وحتى يأتي الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، وحتى نخاطب الناس على قدر عقولهم، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه، خشية أن يفتتن الناس ويكذّب الله عزّ وجلّ ورسوله  : ﴿ خاطبوا النّاس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ ﴾

وكم أسفت أثناء زيارتي لبعض المؤسسات المعنية بشؤون الدعوة في غربي أفريقيا عندما طلبت إليها إطلاعي على ما لديها من دراسات أستطيع بواسطتها الإفادة من الزمن المقرر للزيارة والدخول إلى تلك البلاد من الأبواب الصحيحة، فلم أظفر بأكثر من ملاحظات عامة قد يمتلكها عامة المسلمين لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث لم تقدم لي جديدا. وقد يكون مفيدًا هـنا أن نأتي على ذكر بعض النماذج من مسالك أعدائنا في هـذا المجال... فإلى جانب الدراسات والبحوث كلها وعمليات المسح الاجتماعي والتحليل الثقافي الموجهة التي قدمتها الكنيسة ومن ورائها الاستعمار عن أفريقيا ، والتي تعتبر إلى حدٍّ بعيد دليل عملٍ لكل من يفكر بالتعامل مع هـذه القارة التي يُعاد تشكيلها من جديد، فإنَّ هـناك دورات تدريبية لمدة أربعة أشهر أو سنة تُقام في معظم الدول الاستعمارية خاصة الولايات المتحدة ، تدرب فيها العناصر المهيأة للذهاب إلى أفريقيا، وتزود بكل المعرفة المطلوبة حول المناخ والبيئة، وحول السكان وطبائعهم وعقائدهم ولهجاتهم المحلية، وما يثيرهم وما يرضيهم؛ ومن ثمَّ يسافر المبعوث إلى هـناك، ويختص بمعايشة قبيلة والانتساب إليها وحمل اسمها والحياة معها والحديث بلهجتها المحلية وكأنه جزء منها، ومن ثم يكون قادرًا على أداء رسالته التي جاء من أجلها، ويقدم دراسات تعتبر إضافة حقيقية لعمل من سبقوه في هـذا المجال. وفي محاولة لإلغاء كل نسب بين أفريقيا والإسلام تكرس اللهجات المحلية، وتوضع لها أبجديات بالحروف اللاتينية بعد أن ألغي الحرف العربي -كما هـو الشأن في تركيا والملايو وغيرهما من بلاد المسلمين- وتصنف المعاجم، ويوفر المستعمر المتخصصين ويقيم مخابر لتطوير اللغات المحلية المتعددة وتأصيلها؛ ومن المفارقات العجيبة أن تكون لغة المستعمر -الفرنسية- هـي اللغة الرسمية في السنغال وفي بقية الدول الأفريقية التي كانت تخضع لهذا الاستعمار ، في الوقت الذي تحرم فيه العربية وحرفها،وهي لغة العقيدة والدين لشعب السنغال، وعدد المسلمين فيه يربو على 95% من مجموعه: والسنغال قديم عهد بالإسلام منذ أن انطلقت منه حركة المرابطين من ألف سنة تقريبًا. ولكن، ربّ ضارة نافعة -كما يقولون- ذلك أنّ التحدي الثقافي والضربات الموجعة أسهمت إلى حدّ بعيد بيقظة الأمة، وأعطت حركة المد الإسلامي زخمًا جديدًا بعد أن استشعرت هـذا التحدي، فقامت المدارس العربية الإسلامية التي تعتبر بحق حصون الإسلام ولغة التنزيل، ولقد أثبتت وجودها حتى على المستوى الرسمي.

وأمر آخر لا يقل خطورة عن أمر اللغة، وإنما هـو مكمل لها، وقد ركزه المستعمر على يد بعض الأفارقة أنفسهم، وهو الدعوة إلى الإسلام الأسود ؛ ليكون إسلامًا خاصًا بالأفريقي، ولقد تركزت هـذه الدعوة في السنغال ، وأمر التركيز على السنغال ليس خافيًا على أحد؛ لما يتمتع به من الموقع والتأثير على غربي أفريقيا خاصة وعلى سائر أفريقيا عامة، يقول (( بول مارثي )): (إنَّ ثوب الإسلام أيا كانت بساطته ولياقته، لم يفصَّل للسود، فهؤلاء يفصِّلونه من جديد لمقاييسهم، ويزينونه حسب ذوقهم... إنّ الإسلام الأسود بحكم اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي مغاير لإسلام العرب ) وقد ألَّف (( فينسان مونتي )) كتابًا في الستينيات تحت عنوان ((الإسلام الأسود)) هـذا إلى جانب الدعوات إلى الإقليمية التي تحاول تسوية النصرانية بالإسلام، واعتبار كل منهما دينًا طارئًا على أفريقيا، والدعوة إلى العودة بالأفارقة إلى أديانهم القديمة.

ومحاولة الانحراف بالإسلام من داخله عند العجز عن مواجهته ليست جديدة ولا مبتدعة، وما الأفاعيل التي دبرت لحركة المسلمين السود في الولايات المتحدة عنَّا ببعيدة، ومع أن الإسلام في أفريقيا بخير، والمسلمين يكافحون بوسائلهم البسيطة، ويواجهون أعظم التحديات المزوَّدة بأكبر الإمكانات والدراسات المتقدمة، حيث يصدق فيهم قول الرسول  : ﴿ درهم سبق ألف درهم ﴾

إلاَّ أنَّ ضرورة الالتفات إلى أفريقيا بشكل سليم ومدروس أصبح أمرًا لا يحتمل التأخير؛ وقد يكون المطلوب مزيدًا من الدراية وفقه المجتمع ومشكلاته التاريخية، وفي تقديرنا أنه لا تتوفر الحكمة المطلوبة في أمر الدعوة ما لم تتحقق تلك الدراية وتتحصل المعرفة والتصور الكامل والدقيق للواقع الذي انتهى إليه الناس هـناك، لأنَّ الحكمة في أبسط مدلولاتها هـي: وضع الأمور في مواضعها؛ فكيف تتأتى الحكمة في معالجة القضايا والمشكلات إذا لم نتمكن من معرفة أبعاد هـذه القضايا، وأسباب تلك المشكلات وتاريخها، والعمر الذي تُووضعت من خلاله؟ وكيف يمكننا توفير المقدمات والعناصر التي تقودنا إلى الحكمة في الدعوة والمعالجة؟ ومن المعروف تاريخيًّا أن انتشار الإسلام في بعض مناطق أفريقيا كان عن طريق التجار والمسافرين، وكان سلوكهم الإسلامي المتميز يبعث على الإيمان ويثير الاقتداء عند الإنسان الأفريقي الذي أشعره الإسلام بقيمته ومساواته بالآخرين، وقد لا يكون هـؤلاء على درجة كافية من الفقه والعلم بدين الله تعالى إلى جانب عوامل أخرى مما أورث اختلاط الإسلام ببعض العقائد والعادات الأفريقية القديمة، واعتبر الكثير منها من الإسلام؛ ولا بد هـنا من الحكمة البالغة في المعالجة؛ وقد تكون المعالجة الأخطر والأكثر ضررًا في التفكير الذي يمارسه بعض الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية بعقل ضيق، ونظر عليل، وفقه قليل، فيوزعون السكان بين التنصير والتكفير ، ويحاصرون أنفسهم فلا يجدون مجالًا لدعوتهم وكأن بعض من تصدوا لأمر الدعوة الإسلامية تخصصوا بتفريق وحدة المسلمين!!

يحدث هـذا في الوقت الذي تفعل الكنيسة ما تفعله من قبول للعادات الأفريقية ابتداءً، لتكون الوسيلة إلى جذب هـؤلاء الأفارقة إلى النصرانية ، ويوالي البابا زياراته للقارة الأفريقية لمواجهة المد الإسلامي ومحاولة انتزاع أفريقيا من المسلمين.

واليوم تتابع النصرانية المدعومة ماديًّا ومعنويًّا من أوروبا وأمريكا توسعها في أفريقيا ، وتتغلب على المصاعب التي عاقت تقدمها، خاصة قضية ارتباطها بالثقافة الاستعمارية الغربية؛ فتبذل الجهود لصبغ النصرانية بالصبغة المحلية، وإقامة (مسيحية أفريقية ) فالبروفيسور (( مبيتي )) يقول: إنه حان الوقت لكي تتصالح المسيحية مع الديانات الأفريقية وأساليبها، وأن يكون طابعها (صنعت في أفريقيا )، كما قال بابا الفاتيكان في زيارته لأوغندا عام 1969م: ((إنّ تكييف الحياة المسيحية في المجالات الدعوية، وفي مجالات الطقوس والنشاطات التعليمية والروحية، ليس ممكنًا فقط؛ ولكن الكنيسة تشجعه، وتجديد أساليب القداس هـو مثال حي على ذلك، وفي هـذا الاتجاه يمكنكم ويجب عليكم أن تكون لكم مسيحية أفريقية)).

ولقد قام المنصِّرون باستثمار طويل الأجل، وحضَّروا الأطر المطلوبة لعهد ما بعد الاستعمار عندما أشرفوا على التربية والتعليم في عهد الاستعمار، وحاولت الكنائس المشاركة في مشاكل وطموحات الشعوب الأفريقية، مثل الاستقلال الوطني، وإنهاء التفرقة العنصرية لتأمين استمرارية دورها في عهد الاستقلال، وقد شعرت هـذه الكنائس بالحاجة إلى التعاون والتنسيق فيما بين مختلف مذاهبها، وها هـي الآن تعمل مع بعضها في هـيئات، مثل: المجلس الوطني المسيحي في كينيا ، والمجلس المسيحي التنزاني، ومجلس كنائس جنوبي أفريقيا، ومجلس الكنائس في زيمبابوي ؛ بل إنَّ هـناك محاولات لإزالة الفروق المذهبية بين مختلف المذاهب المسيحية في أفريقيا... كمخطط للاستقرار والتوسع في المستقبل.

ونحن بهذا لا نقر الخطأ، ولا نريد الإبقاء على الواقع، لكننا لا يجوز بحال من الأحوال أن نخطئ الوسيلة في المعالجة فنعمل على تصليب الواقع وتنفير الناس بالمواجهة المباشرة، بل لا بد من أن نبدأ بالتعليم الصحيح المرتكز إلى الكتاب والسنة، وأن نستفيد من العاطفة الإسلامية في بناء أجيال جديدة ابتداءً، لتنحسر -شيئًا فشيئًا، وجيلًا فجيلًا- دائرة الخرافات والبدع، وبذلك تتم التصفية تلقائيًّا فالعلل المزمنة التي مرَّت عليها القرون لا يمكن أن تعالج بخطبة أو بدرس بعيدًا عن سنة التدرج.

ومما لا شك فيه أن للحركة الصوفية دورًا كبيرًا غير منكور ضد المستعمر، وفي نشر الإسلام وحمايته أيضًا، ولها اليوم رصيد كبير من الأتباع والمريدين؛ ولا شك أيضًا أن بعض شيوخها الأوائل كانوا على درجة من العلم، وإن انحدرت الأمور بالوراثة في بعض الأحيان إلى أحفاد قد لا يكون لبعضهم نصيب من ذلك، وإنما جاءت المحافظة عليها بدافع بناء الزعامات وتحصيل المنافع؛ والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن بعض الحكام، ومن قبلهم المستعمر -شأنه في كل مكان من العالم الإسلامي- استغلوا جهل بعض من انتهت إليهم زعامة الطرق الصوفية ، وكان هـذا الجهل مدخلهم لاحتواء هـذه الطرق، وتنميتها والإغداق عليها، وتوظيف أتباعها لأغراض ليست خافية على أحد، حيث ينعمون على شيوخها بالهدايا والأوسمة، مما يشوه الصور الجهادية التاريخية والدور الكبير في حماية ونشر الإسلام في أفريقيا، ويكرس صور الانحراف لمحاربة الإسلام الصحيح.

وبعد؛ فقد يرى بعض الإخوة القرَّاء في الكتاب الذي نقدمه استطرادات كان بالإمكان الاستغناء عنها، كما يرى بعضهم الآخر ضرورة الاقتصار على الملامح المضيئة لإثارة التفاؤل وبعث الأمل في النفوس، ورغبة منَّا في تقديم الصورة كاملة، ومن جميع جوانبها آثرنا الإبقاء على جميع أجزائها.

ونقطة أخرى قد لا تحتاج إلى التأكيد وهي أنَّ للمؤلِّف وجهة نظره في تقويم بعض ظواهر العمل الإسلامي في السنغال ، وهذا لا يعني بالضرورة وجهة نظر ((الأمّة))فمن الحقائق الثابتة أن السنغال تشكيل مركز الثقل والمحور الأساسي بالنسبة للمسلمين في غربي أفريقيا خاصة، وفي أفريقيا عامة، وهو يعد بحق بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ونحن في ((الأمّة))نعتز غاية الاعتزاز بتقديم هـذه الدراسة المستقصية عن الإسلام والمسلمين في السنغال لتكون نواة وباكورة لدراسات جادة عن حاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين، تقدم الصورة الدقيقة والأمينة، وتتحقق بالحضور التاريخي، وتستشرف آفاق المستقبل لتكون دليلًا يهتدي به المسلمون الذين يمارسون الدعوة اليوم؛ خاصة وأنها جاءت بقلم أحد أبناء السنغال، الأخ عبد القادر سيلا ، ولعلَّ تقديم هـذا الكتاب بقلم أخ من البلد نفسه دليل على عالمية المنهج الذي عزمت ((الأمّة)) الالتزام به في أن تكون لجميع المسلمين، وأن تنطلق من مفهوم الأخوة إسلامية الشاملة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي هـدانا لهذا وما كُنَّا لنهتدِيَ لولا أن هـدانا الله ﴾ (الأعراف: 43)

وصلى الله على نبيه الكريم وسلم تسليمًا كثيرًا.

يغمرنا الأمل أن يساهم هـذا الكتاب في التعريف بالإسلام في السنغال تعريفًا من شأنه أن يقرّب إلى ذهن غير المتخصص وضع العقيدة الإسلامية في ذلك القطر الإسلامي، ويعكس -بكل صدق وأمانة- رؤية واضحة عن ماضي وحاضر ومستقبل الإسلام هـناك.

وقد ارتأينا ألاَّ نورّط أنفسنا في نقل صور زاهية متألقة باهية تدغدغ عواطف القارئ، وتستحوذ على مجامع مشاعره، وتدخل البهجة والحبور على نفسه، دون أن تبلّ غليله، أو تشبع رغبة الاطلاع لديه، لأنها لا تعكس الواقع المعاش، بل تطمره وتشوّهه بالتمويه والتزيين والتهويل، مما يحول دون معرفة الحقائق، ويثبط العزم عن تهيئة ظروفٍ لمعالجة ما يستحق العلاج.

وليس المقصد هـنا طرح مختلف أوجه القضايا الإسلامية في السنغال على بساط الدرس والتحليل، وإنما رائدنا أن نعرض -جهد المستطاع- لبعض الأمور المطروحة في الحقل الإسلامي بهذا البلد كي يسترشد بها العاملون في هـذا الميدان.

وقد تعرضنا قصدًا لعدد من العثرات لدى مسلمي السنغال، علّ هـذا أن يساهم في إنارة الطريق أمام أولئك الذين سيتصدّوْن لتدارك ما لا يستحيل تداركه، ويصلحون ما لا مناص من إصلاحه، ويواصلون العمل لترسيخ قواعد العقيدة الإسلامية السليمة؛ إذ الإحساس بالثلم والثغرات ومعرفة مواقع الهفوات من شأنه أن يحفز على الاطلاع عليها، واستيعاب أبعادها، واحتوائها ثم إيجاد حلّ لها.

هذا ولا يتمارى اثنان في توفر العدد العريض بجانب الإسلام في السنغال -حوالي 95%- وفي اكتظاظ المساجد فيه بمن يعمرها، مما يبرهن على تشبث أهله بتلابيب شعائر دينهم.

إذا ترى ماذا يعوز الإسلام في هـذا البلد ما دام مسلموه ملتزمين بالشعائر؟

لا مراء أن في السنغال أقلية تنتسب إلى المعتقدات التقليدية ينبغي تجنيد القوى لإبلاغها دعوة التوحيد وجذبها نحو العقيدة الإسلامية، وسدّ الطريق على المنصِّرين الذين يعمل معظمهم لصالح الاستعمار ، بيد أن هـناك أولوية لا تقل شأنًا عن دعوة عناصر جديد إلى الإسلام، ألا وهي: العمل من أجل العودة بالأغلبية المسلمة إلى حظيرة دينها، وتنقية العقيدة من الشوائب، وغربلة المفاهيم الخاطئة، وإنقاذ المسلم من المعاناة الروحية والارتباك في الولاء.

لا يجهد الزائر للسنغال ملاحظة اهتزاز مواقف المسلم السنغالي من جراء عوامل داخلية وخارجية، يحمل بعضها سمة قيم مجتمع تقليدي أخنى عليها الدهر، أما بعضها الآخر فقد نجم عن طغيان المادة وسيطرة نمط الحياة الأوروبية بفعل رسوبات الاستعمار، فخلف كل ذلك عقلية تجعل المسلم السنغالي يرضى بازدواجية الانتماء وثنائية الولاء، إذ كان أمامه خياران:

إمّا أن يستكين للانصهار والذوبان في بوتقة الحضارة الغربية النصرانية التي تمحو هـويته الإسلامية، ويضيع في خضم الثقافة المادية الماجنة؛ وإمّا أن يرضى بالإسلام دينًا ويلتزم بما يترتب على ذلك من أمور؛ ويعتبر هـذا من مشكلات الإسلام والمسلمين في السنغال.

على أننا لا نعتقد، أنها في كل صورها وألوانها وأبعادها خصائص ينفرد بها مسلم السنغال، بل هـي قاسم مشترك بينه وبين إخوة له في عدد من الأقطار الإسلامية الممتدة من جناحها الغربي؛ السنغال، إلى ما وراء إندونيسيا شرقًا، إذ قلما يخلو بلد من بلاد المسلمين من بعض ما يعانيه هـذا البلد الأفريقي، سواء تعلّق الأمر بالحقل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي.

وفيما يخص السنغال، هـناك بصيص من الأمل، بل هـناك أمل كبير في أن يتم تصحيح الأوضاع بما يرضي الإسلام -إن شاء الله تعالى- وذلك بفضل الصحوة الإسلامية المباركة التي ظهرت طلائعها في الأفق، والتي يسندها جو من الحرية السائدة في البلاد.

عبد القادر محمد سيلا


الفصل الأول: المـعطيات الجغرافيـة والبشريــة

الموقــــع

تقع جمهورية السنغال في أقصى نقطة من غربي القارة الأفريقية بمنطقة ((بين مدارين)) بين درجتي عرض شمالًا 12.30 درجة و 16.30 درجة، وبين درجتي طول 11.30 درجة و 17.30 درجة.

المساحة والمناخ

تبلغ مساحة السنغال: (196 , 197 ) كيلو مترًا مربعًا.

والبلاد عبارة عن سهول منبسطة تقل فيها التضاريس باستثناء مرتفعات ((كيدوغو)) [KEDOUGOU ] وهضبات: تياس [THIES ].

ووقوعها في منطقة ((بين مدارين)) جعلها ذات مناخ متنوع حيث تتميز المناطق الداخلية بارتفاع كبير في درجة الحرارة التي تصل أحيانًا إلى (40 ) درجة مئوية، في حين تتمتع المناطق الساحلية -وبالأخص إقليم الرأس الأخضر حيث تقع العاصمة- باعتدال نسبي في درجة الحرارة إذ تتراوح ما بين 17 و 25 في فترة ما بين ديسمبر ويونيو.

ويمتاز فصل الصيف بهطول الأمطار ابتداءً من شهر يونيو إلى شهر أكتوبر، وتتناقص كمية الأمطار كلما ابتعدنا من الجنوب نحو الشمال، والشمال الغربي اللذين هـما في طريق التصحر.

وتنقسم البلاد إلى مناطق طبيعية أساسية:

  • منطقة حوض السنغال.
  • منطقة ((فيرلو)) [FERLO ] وتقع في الوسط الشرقي.
  • منطقة الوسط الغربي.
  • منطقة الشاطئ ونياني [NIANYES. ]
  • منطقة كازامنسا [CASAmANCE ]
  • منطقة السافان [SAVANE ]

الأنهــار

يعتبر نهر السنغال من أكبر أنهار البلاد، إذ يبلغ طوله (1.750) كيلو مترًا، ينبع من (( غينيا ))، ويجتاز (( مالي )) حيث رافديه ((بافين)) [BAFING ]، و ((باكوي)) ـ [BAKOI ]ونهر السنغال صالح للملاحة في بعض أجزائه في بعض فصول السنة.

• ويأتي بعده نهر ((كازامنسا)) ـ [CASAmANCE ] البالغ طوله (300 ) كيلو متر، ويصلح للملاحة طول السنة.

• ونهر غامبيا: ويبلغ من الطول (1.050 ) كيلو متر، ولا يعبر السنغال إلاّ قسم يسير منه. إلى جانب هـذه الأنهار يوجد ((سين)) و ((سالوم)) وهما ساعدان للمحيط الأطلسي.

ويطل السنغال على المحيط الأطلسي بحوالي (500 ) كيلو متر. وموقعه الاستراتيجي جعله الباب الأمامي لأوروبا نحو غربي أفريقيا وأمريكا الجنوبية .

الحدود والســـكان

يحد السنغال شرقًا: مالي، وغربًا: المحيط الأطلسي، وجنوبًا: الغينيتان [ كونكري وبيساو ] وشمالًا: موريتانيا .

(أ ) السـكان

أ- يبلغ تعداد سكان السنغال ستة ملايين نسمة [1982 ] نسبة الشباب منهم 52% كما توجد نسبة عالية من غير السنغاليين (مليون تقريبًا) على رأسهم الجالية الموريتانية واللبنانية، ثم المهاجرون من مالي والرأس الأخضر .

ب- التمثيل السكاني من حيث الانتماء العرقي والديني

يتركب الشعب السنغالي من جماعات متساكنة من عهود عريقة في القدم، لكنها جماعات لم يكن يجمعها وحدة سياسية أو لغوية، بل احتفظت كل جماعة باستقلالها السياسي ومقوماتها الثقافية وقيمها الأخلاقية، ويمكن ملاحظة تلك الفروق حتى يومنا هـذا.

على أن مما يثلج الفؤاد أن ظروفًا موضوعية في طريق التوفير لتكوين وحدة وطنية تسمح باندماج مختلف العناصر التي يتشكل منها الشعب السنغالي، وذلك بفضل سهولة المواصلات والاتصالات وانتشار الإسلام، موحد الشعوب. ومن نتائج هـذه العوامل أن إحدى الجماعات العرقية ولغتها سيطرتا على الساحة السنغالية منذ قرن تقريبًا، فساعد ذلك على تجانس الشعب، وقضى إلى حد بعيد على التنافر القبلي السائد في مناطق عديدة من القارة الأفريقية. علاوة على أن الجماعات العرقية أو اللغوية لا قيمة لها، حيث لا تتعدى اللغات المحلية -وهي تعكس عدد الجماعات العرقية- سبعًا، من بينها: أربع لها أهمية باعتبار تعداد الناطقين بها. النصرانية بعض الأتباع من ((السرير))، كما لا تزال المعتقدات التقليدية حية فيها، ولها أتباعها وكهنتها، لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام تقدم الإسلام. وينتسب مسلمو ((السرير)) إلى الطريقة التجانية والمريدية .

(ج) ((بول وتكلور)) [PAUL]

الـ ((بول)) أو فلاتة، رعاة أبقار غير متمركزين بعدد وافر بإقليم بعينه، وتميل بشرتهم إلى البياض، وملامحهم وسيمة يشبهون الإثيوبيين. دخل الفلاتيون الإسلام من عهد بعيد، غير أن طائفة ((توكلور)) -وهي تتكلم بلغة ((بولار)) مثل: ((بول - الرعاة))- تسكن أصلًا حول ضفاف نهر السنغال ، وبالأخص في القسم الغربي منه، وقد أسلمت قبل وصول المرابطين المنطقة، وأدّت دورًا هـامًا في نشر الإسلام في المناطق المجاورة لها، وتشتغل بالزراعة، وبفعل جفاف شمالي السنغال هـاجر عدد من أفرادها إلى مناطق أخرى. وينتمي حوالي 90% من التوكلور والبول إلى الطريقة التجانية.

(د) جماعة ((جولا)) [DIOLA]

توجد ((جولا)) في جنوبي السنغال المعروف باسم ((كازامنسا))- [CASAmANCE ] وتتعاطى الزراعة، وخصوصًا زراعة الأرز، وتم إدخالها في الإسلام على يد جارتها ((ماندنكي))، وتبلغ نسبة الإسلام بينها 70% على أن الإرساليات التنصيرية بدأت تبذل جهدًا كبيرًا لنشر النصرانية بين ظهرانيها، وخصوصًا في مقاطعة ((ووسوي ـ OUSSOUYE)) ومنذ فترة قريبة، بدأت جهات إسلامية سنغالية تهتم بالمنطقة لنشر الإسلام فيها، ومنافسة البعثات الكاثوليكية (هـ) جماعة ماندنيكي)) (([mANDINKE],,

وجاخانكي [DIAKHANKE ] وبامبارا [BAmBARA ] لا تتجاوز نسبة هـذه الجماعة 7% من مجموع السكان، يقطن معظمها في جنوبي وشرقي البلاد. وتتعاطى الزراعة والتجارة، ويعود إسلامها إلى عهد إمبراطورية مالي ، وتنتسب أغلبيتها إلى الطريقة القادرية .

(و) هـناك مجموعات عرقية ولغوية متميزة

تحتل مراكز دنيا من حيث عدد أفرادها لكن بعضها يؤدي دورًا لا يستهان به في مجال التجارة كجماعة سراخولي [SARAKHOULE ] وتقطن في أقصى الشمال الشرقي من السنغال، ولها ماضٍ مجيد في الإسلام حيث إنها مؤسسة مملكة ((غانا)) التاريخية في القرون الوسطى.


الأديان (الإسلام والنصرانية والمعتقدات التقليدية)

وقد اتضح من خلال هـذه اللوحة التي رسمناها لتعكس التشكيلات العرقية ومواطن كل جماعة ونشاطها ونسبة انتشار الإسلام بينها، أن الديانة الإسلامية تستقطب ما لا يقل عن 95% من السكان في الوقت الذي لا يصل عدد النصارى على مختلف نحلهم ومللهم (200.000 ) نسمة من أصل (6.000.000 ) نسمة.

وتحسن الإشارة إلى أن النصرانية تجد الأتباع من بين جماعتي: ((جولا والسرير)) على أنه لا تزال السباق على جميع الأوراق الرابحة لكسب المعركة، أضف إلى ذلك أن هـذه الفئة في سبيل الانقراض والتلاشي نهائيًّا لنفور الشباب من تلك المعتقدات البالية.


الطبقات الاجتماعية

الطبقات الاجتماعية، موضوع الحديث هـنا، لا تعني بالضرورة تفاوتًا في مستوى الدخل، وليس أساسها غنى وثروة فئة، وفقر وحرمان فئات أخرى من المجتمع الواحد.

فمفهوم الطبقة في المجتمع السنغالي، وفي عدد من المجتمعات في غربي أفريقيا أساسه أصلا تقسيم الأدوار و المهام داخل المجتمع الواحد.

ونظرًا للتحديد الدقيق لتلك الأدوار برزت حدود وأسوار لا سبيل لتخطيها بين أفراد المجتمع الواحد نتيجة تباين مناهج حياتهم، وهكذا وجدت طبقة المحاربين والحدادين والنساجين والصيّادين والعبيد... كل فئة تقوم بمهمة في المجتمع تختلف عن مهام طائفة أخرى.

وتختلف أسماء هـذه الفئات الاجتماعية من جماعة لأخرى، لكن تتفق تقريبًا على وجود الطوائف التالية:

  • طبقة النبلاء، وتتألف من الأمراء والأعيان وكبار رجال الدولة، وتقوم بأعباء السلطة السياسية.
  • طبقة الأحرار، وتشمل الفلاحين والمشايخ، وعامة الشعب ويطلق عليها لدى بعض الجماعات ((بادولو)) [BADOLO ] وتعني: الفقراء والمستضعفين...
  • طبقة الحرفيين، وتشمل طوائف عديدة: نساجين، صيادين، إسكافيين ومغنين...
  • طبقة العبيد، وهي على نوعين: عبيد الملك، وعبيد آخرين، حيث إن الأولين باعتبارهم ركيزة عرش الملوك ليسوا مملوكين إلا بالاسم.

على أن تقسيمات ثانوية تحصل داخل بعض الفئات لا محل للتعرض لها هـنا.

ومع مرور الزمن اختفى الأصل المهني لهذه الفئات، فأصبحت حقائق اجتماعية لها وقعها في تصرفات الأفراد والجماعات وعلاقاتهم.

ورغم التطور الحاصل في عقلية السنغاليين، فلا تزال هـذه الفروق حقيقة اجتماعية معاشة، وخصوصًا في الأوساط المحافظة وبالأخص منها في الريف؛ فلا تقبل طبقة الأحرار مصاهرة طبقة الحرفيين مثلًا.

وتجد الإشارة إلى أن الاستعمار الفرنسي استعان بالطبقات الاجتماعية الدنيا لتحطيم الطبقات العليا التي قاومته، وذلك لإهانتها على يد الطوائف التي كانت مهانة من قبل.

المعطى الاقتصادي

السنغال دولة زراعية أساسًا، وزراعتها تقليدية تقادم عهدها حيث تتمحور على قوة عضلات الفلاح دون تدخل المحراث التقليدي؛ فضلًا عن الأدوات الميكانيكية المتطورة‍‍ ويعد ذلك أحد أمراض البلاد المزمنة.

وإذا كان الاكتفاء الذاتي أساس الاقتصاد السنغالي قبل عهد الاستعمار ، فإن الإدارة الأجنبية لم تغير شيئًا ذا قيمة كبيرة، فلم تتطور زراعة المواد الغذائية الاستهلاكية بل تم تشجيع إنتاج الفول السوداني المهيأ للتصدير، وفي الوقت ذاته أهملت المحصولات الأخرى، ولم يتزامن ذلك كله مع صناعات متطورة ومتنامية.

على أن هـناك بعض المصانع، وخصوصًا في إقليم الرأس الأخضر الذي يتمتع بعدد كبير من المصانع مما جعله في الصف الأول من المناطق الصناعية في غربي أفريقيا.

أما جوف الأرض فيحتوي على بعض الثروات المعدنية التي لم يُستغل أكثرها مثل: الفوسفات، الحديد، المرمر، الذهب.

كما تتمتع البلاد بثروة سمكية هـائلة، ويشتغل 10% من السكان بصيد الأسماك.

التراث الثقافـي

تبعًا لتغاير أصول ولغات وتاريخ الشعوب المتساكنة في السنغال ، فإن الحديث عن التراث الثقافي في هـذا البلد متشعب، غير أن مما يسهل المعضلة وجود تشابه ملحوظ بين مختلف ألوان التراث الثقافي لهذه الشعوب، فضلًا عن الاتجاه القوي نحو توحيد وسائل التعبير عن هـذه الثقافة منذ زمن؛ وذلك لتدخُّل عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها حين الحديث عن التركيب السكاني.

وتتميز هـذه الثقافة بالشفوية ، أي: أنها لم تدون؛ إذ لم تدخل الكتابة إلى السنغال إلا بعد انتشار الإسلام، فأغلب ما تمت كتابته كان باللغة العربية أو باللغات المحلية بالحروف العربية ويغلب عليه طابع الإسلام.

وتحتل القصص والأمثال والشعر والأغاني والموسيقى وآلات الطرب مركز الصدارة.

ويعتبر فن القصص أهم مقومات الأدب الشعبي . والتراث القصصي عبارة عن أساطير وأقاصيص تقوم الحيوانات بدور الأبطال فيها، وتتقمص دور الإنسان، وتتصرف تصرفاته، وتتكلم بلسانه؛ داخلة في خفايا نفسه، منتقدة تارة المجتمع، وحاثَّةً طورًا آخر على عمل الخير ومكارم الأخلاق والرفق بالأيتام والضعفاء، وتنتهي الأقاصيص بالعبر والحكم، وقد تأثر بعض هـذه القصص بالإسلام فأصبح يستعير منه لونه ومادته.

وكان ولا يزال حتى يومنا هـذا -خصوصًا في الأرياف- يتحلق الرجال والنساء والولدان حول ضوء النار، يوقدونها للمسامرة، وخلالها يستمعون إلى القاصّ يحكي لهم أقاصيص وأساطير شيقة تخلب الأفئدة، وتستحوذ على مجامع القلوب.

والى جانب الأقاصيص تحتل الملاحم درجة عالية في التراث الشعبي، وتدور غالبًا حول شخصيات تاريخية حقيقية أو أسطورية. وتعد ملحمة (( محمد تشام )) بلغة ((بولار)) أغزر وأغنى ملحمة في هـذا الباب، فهي تروي حياة ومعارك المجاهد (( عمر الفوتي ))؛ وكان المؤلف قد شارك شخصيًا في جميع حملات الفوتي العديدة، فهي في نظر بعض العارفين لا تقل قيمة عن ملاحم (( هـوميروس )).

ويعكس ذلك كله تنوع وثراء (( الفولكلور )) السنغالي الذي يسير في طريق التأصيل والحفظ والثبات... هذا وسيأتي الكلام في فصل مستقل عن اللغة العربية باعتبارها أهم مكونات التراث الثقافي السنغالي.


نبذة عن التاريخ السياسي للسنغال

ليس القصد هـنا عقد دراسة مستفيضة عن تاريخ السنغال ، بل الهدف إعطاء فكرة عن الشكل السياسي السائد قبل الاحتلال الفرنسي، مما يساعدنا على استيعاب الظروف التي اكتنفت انتشار الإسلام.

على أن تاريخ السنغال مرتبط إلى حد ما بتاريخ بعض الأقطار المجاورة له، مثل: (( مالي )) التي كانت تسيطر في فترة ما على أجزاء شاسعة من غربي أفريقيا، ومناطق من شرقي وجنوبي السنغال، ولا بد أن يعترف الدارس أنه ما كانت هـناك وحدة سياسية حقيقية بين الأراضي التي يطلق عليها اليوم اسم السنغال، وإنما كانت مقسمة إلى دويلات لا تجمعها إلاّ صلات واهية، وأهم هـذه الوحدات السياسية هـي:

مملكة ((جولوف)) [DIOLOF]

تقع جولوف في الوسط الغربي من السنغال، وتقطنها جماعتا ((أولوف)) و ((بول)) ـفلاتةـ وكانت أقاليم عديدة تابعة لها ثم انفصلت عنها بسبب اضطرابات داخلية، وعاصمتها ((يانغ ـ يانغ)) [YANG-YANG ] ويحمل ملكها لقب ((بوربا)) [DOURBA].

مملكة ((والـو)) [WALO]

وتقع في منطقة الفيضانات ما بين مدينتي (( بودور )) PODOR و (( أندر )) N'DAR، وتقطنها جماعة ((أولوف)) أساسًا وكانت عاصمتها (( أندير )) N'DER.

وقد كان الفرنسيون يدفعون لها إتاوة منذ استقرارهم بمدينة ((أندير)) سنة 1659م إلى أن تم ضمها إلى المستعمرات الفرنسية عام 1856م.

مملكة ((كاجـــور)) [DIOR]

وتحتل سهلًا واسعًا بين المحيط الأطلسي وأقاليم (( جولوه )) و (( سين )) و (( سالوم )) وكانت لامباية [LAmBAYE ] مقرَّ بعض ملوكها.

كانت تسكن هـذه المملكة بصفة أساسية جماعة ((أولوف)) وكانت مسرحًا لمعارك عديدة في القرن التاسع عشر ضد الاستعمار إلى أن سقطت بيده عام 1886م.

فوتا -الإمامة- "fouta - toro"

تقع فوتا على ضفاف نهر السنغال، وتمتاز عن غيرها من المناطق السنغالية بأنها عرفت الإسلام قبل سواها، وقامت فيها أول حكومة إسلامية تطبق شريعة الله تعالى.

فبعد فساد وانحلال نظام ((ساتيك)) ساتيك : اسم النظام السائد في (فوتا) قبل حركة المسلمين الهادفة إلى تصحيح الوضع.

قامت حركة مباركة بقيادة (( سليمان بال )) و (( عبد القادر كان ))، فأطاحت بحكم الاستبداد.

وكان من محاسن نظام الإمامة أنه قام بنشر الإسلام ورعاية المساجد وتشجيع مجالس العلم. ويحسن أن يُسجل هـنا بكل اعتزاز ما كتبه أحد المستعمرين المعاصرين للإمامة وهو (( بيتيون )) [PETION ] بخصوص تحريم أئمة ((فوتا)) ممارسة النخاسة في مملكتهم باعتبار ذلك منافيًا لمبادئ الإسلام ﴿ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ﴾ فقد كتب ((بيتيون)): ((رفض الإمام ـملك بولـ هـدايا الشركة، محرمًا بيع رعاياه، ومانعًا مرور قوافل العبيد)).

وفي الحقيقة حملت ((فوتا)) أمانة نشر الإسلام في الأقاليم المجاورة لها، وهي التي أمدت السنغال كذلك بأهم رجالاته الدينية والفكرية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن الحالي، أمثال: عمر الفوتي ـ 1864م، مابا جاخوبا ـ 1867م، مالك سي ـ 1822م، أحمد بامبا ـ 1927م.

ممالك كازا منسا

وتعتبر جماعة ((بينونك ـ [BAINONKE ] ـوهي في طريق الانقراض ـ أقدم سكان جنوبي السنغال، ومؤسسة مملكة كازامانسا وقد قامت جماعتا ((مانديكنكي وجولا)) باحتوائها.

أما جماعة ((جولا)) فلم تشتهر بمؤسسات سياسية منظمة ذات قيمة تاريخية تستحق الذكر، في حين شيدت جماعة ((ماندينكي)) في إطار إمبراطورية مالي أو خارجها ممالك في ((كازامنسا وغامبيا ونياني ونيومي ووولي )) وكانت قد جاءت بالإسلام من مالي، وبطول العهد ضعف عندها الوازع الإسلامي، وظهرت لدى أمرائها المعتقدات التقليدية الأرواحية.

والقاسم المشترك لهذه المؤسسات السياسية كلها باستثناء نظام الإمامة في ((فوتا تورو)) أن صلاحيات ملوكها كانت في الأساس ضيقة ومحدودة، ومع مرور الزمن اتسع نطاقها حتى أصبح نظام طغيان واستبداد ليصل إلى ذروته مع طلوع القرن التاسع عشر.

وهذه الإمارات التي أثبتنا أسماءها ومواقعها نماذج لإمارات أخرى لم نتعرض لها، كما أنها جميعًا ـعدا الإمامة في فوتاـ تطغى عليها الأرواحية كدين رسمي كان يتعايش مع الإسلام.


المعتقدات

لم يكن الإسلام سائدًا في أي إمارة من الإمارات المذكورة، وإن كان حضوره ملموسًا في جميعها، حيث كانت الجالية الإسلامية تكوّن كتلة اجتماعية متماسكة مشكّلة جماعة ضغط سياسي هـام وعنصر تطور، وركيزة للإدارة الحكومية.

وتكمن أهمية الوقوف على بعض المعتقدات الأرواحية في أنه يساعد على فهم عقلية المسلم السنغالي الحالي، وتعليل بعض مواقفه وتصرفاته التي قد تتنافى مع مبادئ الإسلام، فهي مواقف وتصرفات يستغربها من يجهل حقائق اجتماعية وتاريخية كانت خلفية لها.

فالإنسان السنغالي، شأن غيره من الأفارقة، متشبث بالقيم الروحية ، فقلما يقوم بحركة هـامة أو تافهة دون أن تسبقها فكرة دينية. بل الأمر كما قال (( دولافوص )) [DELA FOSSE ] ((لا وجود لأية مؤسسة في أفريقيا السوداء، سواء أكانت في الميدان الاجتماعي أو السياسي، بل حتى في مجال النشاط الاقتصادي، لا تنبني على تصور ديني، أو لا يكون الدين حجر الزاوية فيها. فهذه الشعوب التي يستنكر أن يكون لها دين هـي، في الواقع، من بين الشعوب المتدينة على وجه الأرض)) ((أديان أفريقيا السوداء)) : ديشام DE SCHAmPS الأرواحيـة [L'ANmISmE ]

الأرواحية هـي الاعتقاد بقوة روحية في الأشياء، أي: اعتقاد أن للأشياء أرواحًا مشابهة لتلك التي لدى الإنسان.

ويعتقد أتباع الأرواحية أن الروح هـي مبدأ الفكر والحياة العضوية في آنٍ واحد. وتهدف العبادة عند معتقديها إلى تزويد الحياة البشرية بمدد من القوة، وضمان بقاء الإنسان لأطول مدة. أما المرض والإعياء والفشل... فأعراض تدل على نقص القوة الحية.

وتتركب أهم عناصر تلك المعتقدات من:

  • إله سام خالق للأكوان، بعيد عن العالم الأرضي؛ مما حمله على إنابة الكهان عنه
  • آلهة من درجة دنيا، وهي مندمجة في قوة الطبيعة.
  • أجداد الجماعات، وهم بمنزلة الأرباب.
  • قوة خفية تتمثل في التعاويذ والتمائم .

ويعيش المعتقد بالقوة الحيوية في محيط تؤطره الغيبيات في مختلف أكناف حياته، وتدفعه عقيدته إلى اعتبار العالم المحيط به ألغازًا غامضة وأسرارًا دفينة لا يتطاول إلى كشف كنهها إلا عقول خاصة لها استعداد خاص لتلقيها من ((اللامرئي))...

لا أمن ولا سلامة لغير الموهوبين الذين رؤيتهم معتمة، ولا مندوحة لهم إلا الالتجاء إلى الكهنة والسحرة ، و إلى الطقوس والقرابين والتمائم والتعاويذ لاستعطاف قوة الطبيعة، واتقاء شرها، والتقرب إليها زلفى، واستدرار رحمتها...

وتتمثل المؤشرات غير المرئية في أرواح الجدود، ضامنة استمرارية حياة القبيلة أو العشيرة المنتمية إليهم، وفي أرواح الموتى بصفة عامة، وفي الطلاسم والتعاويذ التي يصنعها الكهان، زاعمين أنها ذات أو السيئة. فأساس فكرة عبادة أرواح الأسلاف ـالتي يُعتقد أنها وسيطة بين الأحياء والآلهة وأنها شفيعةـ هـو أن الحياة على الأرض لا تتوقف بمفارقة الروح للجسم، بل هـي استمرار سرمدي للفعالية والحيوية، إذ ليس الموت حدثًا يسبب قطع الصلاة بين الأحياء والأموات، إنما هـو غفوة وارتخاء من جراء ضعضعة في القوة الحيوية…

على أن غموض الطبيعة وصعوبة فك ألغازها حدا بالإنسان الذي هـذا معتقده إلى الاستنجاد بالكهنة طلبًا لتفسير أو تعليل مظاهر الطبيعة، والارتماء في أحضان صانعي التمائم والتعاويذ، وجعله متشائمًا، محاطًا بأنواعٍ لا تحصر من الخرافات تعتّم عليه حياته.

ومن سوء حظ أتباع الأرواحية أنهم لا يضعون فاصلًا بين الروح والمادة، فالإنسان والموجودات الأخرى ليسوا سوى قوة حية ذات فاعلية تخضع ـفي اعتقادهمـ لمشيئة طبيعة فاعلة…

ويكون الوسيط بين الإله والأحياء جدّ الجماعة الأسطوري، أو تمثالًا أو قناعًا أو حجرًا أو حيوانًا أو شجرًا، أو أي مظهر آخر من مظاهر الطبيعة، ويتباين دور الآلهة الوسطاء وعددهم وأهميتهم من منطقة لأخرى، ومن جماعة لجماعة ثانية…

وتعتبر عبادة الحيوانات من أقدم العبادات المعروفة في غربي أفريقيا. فلدى بعض الجماعات في السنغال ـقبل إسلامهاـ اعتقاد مفاده أن الجماعة ونوعًا من الحيوان من جرثومة واحدة. ونجد بقايا هـذا الاعتقاد ليومنا هـذا لدى بعض القبائل السنغالية المنحدرة من إمبراطورية مالي . فقد جاء في سيرة حياة الكاتب الغيني (( لاي كامارا )) [LAYEKAmARA ] أن والده قال له ذات يوم:

عشيرتنا. فقد ظهرت لي في جيلنا هـذا، وبعد أن شرح الوالد لابنه كيف تم لقاؤه مع جنية عشيرته قص عليه الحوار الذي دار بينهما؛ حيث قالت له الحية: ((قدمت، كما نبهتك سابقًا لكنك لم ترحب بي، بل لاحظتك وأنت تتهيأ لأسوأ استقبال لي، فقد لمحت ذلك في عينيك، لماذا تنظر إليّ هـكذا؟ أنا جنية أجدادك، وبصفتي كذلك قدمت نفسي إليك لأهليتك. إذن لا تخف مني؛ واحذر من طردي فإنني جالبة لك النجاح)) LAYE KAmARA:((LENFT NOIR((14,16 et 17

وتحت وابل من الأسئلة وإلحاح شديد من ((لاي كامارا)) الذي كان طفلًا صغيرًا رأى أباه يداعب حية صغيرة الحجم ذات مساءٍ، حكى عليه القصة، وهي على جمالها تعكس جانبًا واقعيًا من حياة هـذه الشعوب التي اعتنقت الديانة الإسلامية منذ عهود قديمة وظلت تحتفظ ببعض بقايا معتقدات مجتمع ما قبل الإسلام.

يرتبط الحيوان بالإنسان بالعهود، ويتحاور معه، ويساعده على تذليل الحياة، مقابل تقديمه وتنظيم طقوس له. فهو يجسّد جنية العشيرة، فقتله أو مسّه بأذًى بجلب المصائب والنوائب للفرد والجماعة معًا، بينما استرضاؤه يؤدي إلى الرفاهية والنجاح، فوق ذلك كله فليس الحيوان أخرس ولا أعجم بل له لغة يتفاهم عن طريقها مع خواص الناس، ويعقد عهودًا ومواثيق تبقى سارية إلى أبد الآبدين… في زعمهم.

ولم تكن الحيوانات وحدها محل عبادة وتقديس لدى معتقدي القوة الحيوانية وإنما يعبدون بعض النباتات والمعادن.

يحتوي الشجر على روح فعالة؛ فإنه ـعند اجتثاثه ـ يجب استرضاؤه بالقرابين والأدعية؛ خصوصًا إذا كان دوحًا وذلك قصد إبطال رد فعله، وتتصرف الجنُّ في المعادن تمنحها لمن يتخذها أولياء وأخلاء، وتمنعها عمن لا يسترضيها.

والمعدن بحد ذاته كائن حي يستطيع أن ينفع ويؤذي. وبقصد اتقاء شره ينبغي لطائفة الحدادين أن يكون لهم استعداد تام لمواجهته، فهم لذلك يتسلحون بالأسرار والأدعية يخيفون بها القوى المعادية في المعدن. وكذلك يتحصن الصيادون ـفي البر والبحرـ بالأدعية تقيهم من شر فرائسهم، وكان كبار الصيادين من أمهر وأكبر الكهنة والسحرة.

الطقوس وأماكن العبـادات

تتركب الطقوس من عناصر عدة، منها: الرقص على إيقاعات الطبول ـ تم ـ تم ـ والغناء الذي يستغرق جزءًا هـامًّا منها، ثم القرابين التي تقدم إلى أرواح الجدود في مناسبات عندما يصيب المرض أحد أفراد الأسرة، أو حين يستعد الفلاح للبذر، أو حينما يحل موسم الحصاد، أو يلمُّ بالبلاد جفاف، ففي هـذه المناسبات يتقرب الأرواحيُّ بدجاج أو غنم أو بقر فيذبحه على قبر أسلافه.

وتعد ثمرة ((الكولا KOLA)) الكولا: البندق الأفريقي، يعتقد كثير من علماء السنغال أنه هـو الطنبول ـ وكذلك علماء غربي أفريقيا عموماـ وهو خلاف ذلك، ولقد استعملنا الكلمة الأجنبية لشهرتها. مقدسة ورمزًا للاحترام، وتقدم حتمًا في الحفلات الدينية، وقد تأثر المسلمون بهذه العادة فأصبحت عنصرًا هـامًا في حفلاتهم في السنغال.

وهناك ممارسات معقدة وشائكة تقوم بها فئة من الكهنة، فضلًا عن أن الطقوس متشعبة ومتعددة، لا قانونًا محدودًا يربطها، حيث تختلف شعائر شعب عن آخر، وجماعة أو منطقة عن أخرى، بل حتى بين قريتين متجاورتين؛ ونتيجة لفقدان ضوابط لها، وخشونة بعض مظاهرها وتعددها، وعدم هـيمنة واحدة منها فإنها أصبحت تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام قوة الإسلام موحد الشعوب.

وما استطاعت الأرواحية ـإلا نادرًاـ تأسيس هـياكل للعبادة، إذ غالبًا ما يكون المعبد عبارة عن محراب صغير، أو زاوية في بيت رئيس الأسرة يمارس فيها أفرادها شعائر الأرواحية. وقد يكون ضريح زعيم الجماعة موضح تقديس حيث تصب عليه الألبان والمياه وتذبح عليه القرابين…

ظاهرة الخوف من الطبيعة والسحر والسحرة

تتكون تصورات المجتمع التقليدي السنغالي ومدركاته من تجارب كثيرة، منها: تلك التي تأتي من العالم المرئي، أي: من ظواهر الطبيعة المباشرة. فليست الطبيعة مجرد مادة ترى وتلمس وتحس بل وراءها قوة فاعلة متحركة ومحركة تتصرف في مجاري الأمور حبذا لو اعتقدوا أن القوة للرب الواحد الأحد.

يخضع لها الإنسان ويرتبط بها ارتباطًا لا فكاك له، فرخاء الهيئة الاجتماعية وسلامة أعضائها وحياة كل فرد خاصة أو عامة من صحة ومرض ونجاح وفشل وسعادة وشقاء تتوقف على التأثيرات الطيبة أو السيئة الآتية من العالم غير المرئي. وهم لذلك لا يرون أملًا للوصول بمشروع من مشاريعهم إلى مرافئ النجاح إلا إذا أمنوا شر قوى الطبيعة التي تطاردهم وتلاحقهم ولا تدعهم يتنفسون لحظة.

وسوف نرى أن الخوف من ثوران الطبيعة، والعمل على ابتغاء مرضاتها، والتحصن ضدها لم يختف في السنغال رغم انتشار الديانة الإسلامية بين ظهراني أهله.

السـحر في مفهوم الأرواحـيين

والسحر في مفهوم الأرواحيين نوعان:


الفصل الثاني: طرق انتشار الإسلام في غربي أفريقيا

  • (1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه...
  • (2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق…

وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين.

يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر.

ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!.

كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت.

والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم. ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول.

ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:
حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..
وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.
REN DUMONT AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE.P 250 كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي.

وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين.

وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر.