حوار مع التعليقات على مقالة ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾
بقلم / أ. د. عبد الرحمن البر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛
فقد تفاعل عدد كبير من الإخوة مع المقالة التي نشرها الموقع بعنوان: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾، كما تفاعل معها عدد كبير من الإخوة على موقع الـ(فيس بوك) وموقع (ساحتنا) منتدى شباب الإخوان المسلمين، وقد كتبت هذا الحوار تفاعلاً مع الإخوة المشاركين في منتدى (ساحتنا)، وهآنذا أنقله لقراء موقعنا الكرام؛ لما أرجو فيه من الفائدة، خصوصًا وقد تشابهت التعليقات والمداخلات والأسئلة، وأرى أنه من الأهمية بمكان أن يكون لنا على هذا الموقع الكريم منتدى نتبادل فيه الحوار مع زوار الموقع إن شاء الله، وهاكم ما كتبته لمنتدى (ساحتنا).
لا بد أن أعلن سعادتي لتواجدي بينكم في هذا المنتدى الطيب الكريم، وأسأل اللهَ أن يكون لهذا التواجد معكم أيها الأحبة فائدة إن شاء الله.
الضوابط العشرة للمشاركة في الحوار
دعوني في البداية أطرح الضوابط العشرة التي أرى- من وجهة نظري- أنها يجب أن تحكم مشاركاتنا، فإن لاقَتْ قبولاً لديْكم فبها ونعمت، وإلا فإنني شخصيًّا سأجتهد في الالتزام بها، ما لم يظهر لي خطأ شيء منها.
1- أول هذه الضوابط: استخدامُ أفضل الألفاظ وأكثرها أدبًا في التعبير عن الرأي، امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)﴾ (الإسراء)، فرُبَّ كلمةٍ طيبةٍ أَلَانَتْ قلبًا قاسيًا، ورُبَّ كلمةٍ جافةٍ أذهبتْ مودَّةً قائمةً، وقد وصف الله أهل الجنة فقال: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ (الحج: من الآية 24)، وعد النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة من الصدقات، وشبابُ الإخوان أولى الناس بهذا الذوق الرفيع.
2- الاعتدالُ في تقويم الأشخاص، وعدم المبالغة في مدح أحد أو ذم آخر، وليقل كما علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا- وَاللَّهُ حَسِيبُهُ- وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ" (متفق عليه).
3- التواضع في طرح الأفكار والآراء وترك التعالي في مخاطبة الآخرين، أو اتهامهم بسوء الفهم وضعف العقل ونحو ذلك، حتى تبقى القلوب سالمة من البغضاء أو الشحناء.
4- ترك الجدال وعدم التمسك بالخطأ متى ظهر للإنسان؛ فإن ذلك مما يغير القلوب، وحتى إذا لم يظهر للأخ أنه أخطأ؛ لكن تباينت الآراء وأصرَّ كل شخص على رأيه ووجهة نظره فعلى العاقل- وكل المشاركين إن شاء الله كذلك- أن يمسك عن اللدد في الخصومة؛ ولنذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ" (أبو داود)، ومن حكم العرب: (من لاحاك فقد عاداك).
5- إحسان الظن بالمشاركين في كل ما أمكن فيه العذر، وترك اتهام النيات أو إساءة الظنون، أو تحميل الكلام على المعنى السيئ متى كان له وجه من الخير يمكن حمله عليه، على حد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يحل لامرئ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا".
6- التأني والتثبت وعدم الاستعجال في الحكم على الأمور بمجرد ورود خبر أو نسبة كلام لأحد في أي وسيلة إعلامية، والانتظار حتى تنكشف الأمور، ويمكن بناء الحكم على أساس سليم وعلى معلومات موثقة، وفي الحديث: "التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (أبو يعلى والبيهقي).
7- عدم المسارعة على رد كلام أحد قبل أن تحسن فهمه وتقف على حقيقته، ولو اقتضى ذلك أن تستفهم منه عن مراده بوضوح قبل أن تسارع بنقد كلامه أو نقضه، ومن لطيف ما أوصى به أحد الحكماء ابنه أن قال له: (لا ترد على أحد جوابًا حتى تفهم كلامه؛ فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك، ولكن أفهم عنه، فإذا فهمته فأجبه، ولا تتعجل بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم، فإن الجواب قبل الفهم حمق).
8- مراجعة النفس باستمرار؛ ليكون القصد من الحوار معرفة الصواب، وليس الانتصار لوجهة نظر على أخرى، فالحق أحق أن يتبع أيًّا كان قائله، ومن كلام الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا، وأحببت أن يخطئ، بل أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه من الله رعاية وحفظ، وما كلمت أحدًا قط وأنا أبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسانه).
9- التماس العذر لأخيك فيما غاب عنك من أمره أو من حقائق لا تعرفها، فالمؤمن يطلب معاذير إخوانه، ولا يسعى مثل المنافقين في تتبع عثراتهم أو التماس الخطأ في كلامهم، وبذلك تبقى الأخوة قائمة والمودة متجددة مهما اتسع الخلاف أو كثرت القضايا المختلف فيها، فلا يفسد الخلاف ودًّا، ولا يقطع صلة.
10- توقير الكبار وأهل الفضل وحفظ أقدارهم وتقدير جهادهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا" (أحمد والترمذي)، ولا يصح أن تستهوينا مقولة (هم رجال ونحن رجال)؛ حتى ننسى فضلهم وجهادهم، حتى لو خالفناهم في بعض آرائهم، وقد قال الإمام الشافعي: (الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده ولو بلفظة).
أعرض على حضراتكم هذه الضوابط لتكون ميثاق شرف فيما بين المشاركين في هذا المنتدى، إن لقيت قبولاً لديكم، وإلا فأنا شخصيًّا ملتزم بها إن شاء الله.
بعد هذه المقدمة التي آسف لطولها؛ فإنني أتوجه بخالص الشكر لكل من أثنى على مقالتي، وأسأل الله أن تحقق مقصودها من الذكرى التي علمنا الله أنها تنفع المؤمنين.
وبعد؛ فبالنسبة لبعض الإخوة الأحبة الذين أثاروا بعض الأسئلة، فسأحاول في إيجاز أن أجيب بما أعلم، وليعذروني إن تجنبت الحديث عما لا علم لي به أو عما لم تتضح لي حقائقه كاملة، وأنا أشكرهم بدايةً لحسن ظنهم بي، وأحب أن أؤكد للجميع أنني أحترم وأدين بالفضل لكل الإخوان الكرام الذين سبقونا على الطريق ومهدوا لنا سلوكه، وأسأل الله أن يجزل عطاءهم وأن يسدد آراءهم، وأن يحفظهم لدعوته قادة مربين ومعلمين مخلصين، ولا يمنع اختلافي مع بعضهم في بعض الآراء أو في تقدير بعض المواقف أن يظل إجلالهم يملأ قلبي ويسكن روحي، ولم يزل أهل الفضل والخير يخالف بعضهم بعضًا، ومودتهم قائمة، وأخوتهم دائمة، والحمد لله.
- بالنسبة لما أثاره الأخ الكريم مجدد الدين، فإنما رجوت يا أخي أن يكون المقال تذكيرًا لا تسكينًا، ولست في وارد حكاية ما حصل، فلن أزيد شيئًا على ما قيل، وكل ما يُتَصَوَّر أن يحصل أن ينقسم المتابعون إلى فريقين، أحدهما يؤيد ما أقول، والآخر يصرخ ويندد؛ لأنني أرى أن البعض قد تخندق في آراء مسبقة تجعل الحديث في الموضوع مجرد إثارة لا أكثر.
كيف ننظر إلى الاختلاف بين القادة المربين
- ما أحب أن أقوله، وما يجب أن أقوله: إن الاختلاف الذي حصل لا ينقض دينًا ولا يهز شرعًا، ولا يصادم قطعيًّا من الدين (من وجهة نظري)، وإنما هو اختلاف في الاجتهاد؛ للمصيب فيه أجران وللمخطئ أجر واحد، وقد سأل عمر بن الخطاب رجلاً: ما فعلت في موضوع كذا؟ فقال: أشار عليَّ زيدُ بن ثابت وعليٌّ بكذا، فقال عمر رضي الله عنه: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال الرجل: وما يمنعك، والأمر إليك؟ قال عمر رضي الله عنه: لا، هذا رأي، والرأي مشترك.
وخالف عمر بن الخطاب أبا بكر رضي الله عنهما في كيفية تقسيم الأموال على المسلمين، فرأى عمر أنه ينبغي أن يراعي التفاوت بين السابقين إلى الإسلام والمتأخرين الذين دخلوا فيه بعد نصر الله والفتح، واستدل بقول الله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)﴾ (الحديد)، وقال أبو بكر: الجميع عندي سواء، والتفضيل المذكور في الآية إنما هو عند الله، ثم أنفذ أبو بكر رأيه، ولم يغضب عمر، ولم يعلن نكيرًا على اجتهاد أبي بكر، فلما تولى عمر غيَّر ما فعله أبو بكر وفاضل في تقسيم المال بين السابقين والمتأخرين، فلم يعلن أحد عليه النكير، ولما دنا أجله تبيَّن له أن رأي أبي بكر كان أسدَّ وأحكم، فتمنى لو أنه فعل مثل ما فعل أبو بكر.
وهكذا ينبغي أن ننظر إلى ما جرى بين إخواننا الأفاضل الكرام من اختلاف، ويظل للجميع في قلوبنا كامل التقدير، وننفي عن الجميع سوء الظن أو القول بأن أحدهم كان حريصًا على إقصاء الآخر، وأنا أشهد الله أنني ما لمستُ ذلك في أحدٍ منهم ممن لقيت ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)﴾ (يوسف)، وهذا ما أردت التأكيد عليه في المقال الذي عنونته بالآية الكريمة ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾.
- وهنا أقول للأخ بلال: إن القياس لا يقتضي أن يكون المقيس والمقيس عليه متشابهين من كل الوجوه، لأنهما لو تطابقا من كل الوجوه فإن ذلك يعد نصًّا لا قياسًا، ولو اشترطنا ذلك لبطل القياس كله، ولصار كثير من نصوص الشريعة معطلاً مقيدًا بالسبب الذي نزل فيه، والله أعلم.
- ثم أعود إلى ما حدث بخصوص الخلل اللائحي، وما حدث بخصوص مذكرة د. الزعفراني اللذين تكلم عنهما الأخ مجدد الدين لأقول: من الطبيعي أن ينظر الإخوان في كل ما قيل، وأن يعملوا على معرفة ما يعد خللاً، ثم يفكروا فيما يمكنهم معالجته من ذلك؛ لكن ذلك يا أخ مجدد لن يكون، ولا ينبغي أن يكون تحت سيف التهديد أو الضغط من أحد أو لأحد، فمراجعة اللوائح والهياكل والنظم حاجة للتطوير والتجديد والتقدم بالعمل، بغض النظر عن مطالبة أحد به أو عدم المطالبة، وأرى- من وجهة نظري- أنه يكفي أن تعرف هذا أنت وجميع الأحبة من الإخوان ومن محبي الإخوان؛ لتطمئنوا على سلامة السير إن شاء الله.
- وأما أستاذنا الكبير الدكتور إبراهيم الزعفراني- حفظه الله- فهو يعرف تمامًا كيف يتابع مذكرته، وكيف وممن يتلقى الرد عليها، ولا أرى من المناسب أن يطلب كل أخ أن يعرف كل شيء عن كل شيء، أو أن يشغل كل الإخوان أنفسهم بكل ما يجري ويتركوا ما هو أهم من الأعمال، ولعل فيما ذكرت كفاية- من وجهة نظري- والله أعلم.
- وأما ما أشرت إليه من فقه إدارة الأزمات فأمر جميل وعظيم، وأنا أدعو نفسي أولاً وأدعو جميع إخواني في كل المستويات إلى تعلم هذا الفقه، والاستفادة القصوى مما جرى، والاجتهاد في تعظيم الإيجابيات وتجنب السلبيات، ومراعاة المستجدات التي كشفت عنها هذه الأزيمة- تصغير أزمة- (على حد تعبير أخي الحبيب الأستاذ الدكتور صلاح سلطان حفظه الله) على مستوى الصف، وعلى مستوى المجتمع وعلى المستوى الإعلامي وعلى كل المستويات، ونسألكم إخواننا الكرام الدعاء لنا بالتوفيق والرشاد، وأطالب الشباب بعرض أفكارهم ورؤاهم، حتى ولو لم يُؤخذ ببعضها، فإن عقول الشباب لا شك أكثر حدةً، وربما أنشط في ابتداع أفكار جديدة، والله يوفقككم ويرعاكم.
- أما سؤالك عما سوف يحدث بخصوص الجهاز الإعلامي الإخواني، وما سوف يحدث بخصوص مجلس الشورى الجديد والقديم فهذه أسئلة أترك للأيام أن تأتيك بإجابتها إن شاء الله، ونحن معك نسأل الله أن تكون الفترة القادمة خيرًا وأفضل للجماعة وللإسلام، وأن يولي علينا أصلحنا بإذن الله.
للمجتهد المصيب أجران وللمخطئ أجر
بالنسبة للأخ العزيز بلال، فليس عندي جديد أضيفه تعليقًا على ما أوردته في مداخلتك سوى أن أقول: إن ما قد يكون حصل بين بعض إخواننا القادة الكرام المحترمين من اختلاف في سلامة بعض الإجراءات أو وجهات النظر؛ لا يعدو كونه اجتهادًا من كل منهم، ونرجو الله أن يكتب للمصيب منهم أجرين، وألا يحرم المخطئ منهم أجر الاجتهاد، ومن فضل الله أنهم جميعًا كانوا أعف من أن يتناول بعضهم بعضًا بالسوء على النحو الذي حصل من بعض الشباب، غفر الله لنا ولهم، وهدانا وإياهم سواء السبيل.
إخواني الأحبة.. قد أكون استرسلت معكم وأطلت الكلام عن غير سابق قصد، فمعذرةً للإطالة، وقد كنت استعددت هذه الليلة لكتابة موضوع آخر في شأن آخر، لكن ما قدره الله خير، وأسأل الله ألا يحرمني متعة التواصل معكم، وأن يوفقنا جميعًا إلى خدمة ديننا ونشر دعوتنا وإنهاض أمتنا، والله أكبر ولله الحمد.
آخر كلام في الحوار
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما قبل؛ فسلام الله ورحمته وبركاته على الأحبة عمومًا وعلى الذين شرفوني بالتعليق والمشاركة خصوصًا، ويشهد الله أني جد سعيد بتواجدي معكم، ومطمئن تمامًا بإذن الله أنه ما دامت الجماعة المباركة تضم أمثالكم، وتشتمل على مثل هذه العقول الناهضة فهي إلى خير بإذن الله.
وأما بعد؛ فإنني أضيف هذا التعليق ليكون آخر مداخلة لي إن شاء الله في هذا الموضوع؛ حيث أرى أن وجهات نظر الجميع قد وضحت والحمد لله، ولم يبق لدي- شخصيًّا- ما أضيفه بعد مشاركاتكم القيمة، ولهذا فأنا أريد أن ننتقل إلى موضوع آخر نُثْريه بالحوار والمناقشة إن شاء الله، وأختم ببعض الإشارات السريعة:
1- أنا ممن يرون أن الحوار لا يقتضي بالضرورة أن ينتهي باتفاق المتحاورين على كل شيء، بل متى اتضحت الآراء ففي هذا كفاية، وفي القدر الذي نتفق عليه بركة ومقدمة لاتفاق في نقاط أخرى، وسنرى بعد حين أن ما يجمعنا ونتفق عليه أكبر بكثير مما تتباين آراؤنا فيه، وأنا أرفض تمامًا مصطلحات من قبيل (الإفحام- الإلزام- التفنيد- الإسكات... إلخ)، فنحن في مناقشة لا في منافسة، وحسبنا أن يفهم كل منا الآخر ولو لم يقتنع برأيه وحججه، ما دام يثق بإخلاصه وسلامة نيته، وقد حدث أن الإمامين أبا حنيفة ومالكًا- رحمهما الله- بعد أن صليا العشاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (متعنا الله جميعًا بالصلاة فيه، قولوا: آمين) وقفا على باب المسجد يتناقشان في بعض المسائل ويختلفان، حتى إذا أدلى كل منهما بحجته ولم يقتنع بحجة الآخر أمسكا عن الجدال وانتقلا لمسألة أخرى، وتكرر ذلك عدة مرات، وبقيا كذلك حتى طلع الفجر، ولم يصدر عن أي منهما كلمة عيب في صاحبه، رحمهما الله وخلَّقنا بأخلاقهما.
2 – أنا سعيد جدًّا بمشاركة الأخ عياش، وأوافق تمامًا على أن الثقة يجب أن تكون في المؤسسات، وألا تكون خاضعة للانطباعات الشخصية، بل للضوابط المتفق عليها، وأرى مع ذلك أن الثقة في المؤسسات لا تلغي الثقة في الأفراد الذين عرفنا صدقهم وعدالتهم، وهل المؤسسات إلا بأهلها، ومن روائع ما قاله إمامنا البنا (وما أكثر روائعه): (يقولون إن العدل في نفس القاضي وليس في نص القانون) وقد قِيل: أعطني قانونًا جائرًا وقاضيًا عادلاً أضمن لك العدل، فكيف إذا اجتمع الأمران عدالة القانون وعدالة القاضي؟ وهو ما نسعى- ويجب أن نسعى- إليه في هذه الجماعة المباركة بفضل الله.
ومع ذلك فأنا لم أتجه بكلامي إلى قضية الثقة، إنما تحدثت عن أهمية حسن ظن المؤمن بنفسه وبإخوانه، وحسن الظن لا يعني العصمة، ولا ينفي الخطأ؛ لكنه يدفع الأخ إلى التماس المعاذير لإخوانه وبخاصة فيما غابت عنه بعض حقائقه، كما يدفع إلى رجاء هدايتهم إلى الصواب الذي يرضاه الله، وإلى الدعاء لهم بذلك.
هذا رأيي، وجزى الله عياشًا وإخواننا جميعًا كل خير، وإن كنت أتوقع منه ومن أحبتنا جميعًا في المستقبل استخدام ألفاظ أقل حدة وأكثر دقة في التعبير عما تنطوي عليه صدورهم من خير، وما تختزنه عقولهم من أفكار راقية.
3- كفاني أخي أبو المجدد التعليق على مسألة مذكرة الأخ الحبيب والأستاذ المفضال الدكتور الزعفراني، وكذلك كفاني أخي جندي العقيدة التعليق على كلام أخي عبد الجواد، فما كتباه هو بالضبط ما قصدته، أتم الله عليهما وعلى الجميع النعمة.
وإلى لقاء في حوار آخر رائق شائق ماتع مع حضراتكم، وحتى ذلك الحين- وهو قريب- أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر : نافذة مصر