28 نوفمبر.. كيف تصطاد عدة عصافير بحجر واحد؟
كفر الشيخ اون لاين | خاص
سبعة عشر شهرًا مرت منذ الانقلاب العسكري على الديمقراطية والشرعية في مصر، والذي كانت أفضل إيجابياته كشف المخبوء، وإزاحة المستور.
فخلال هذه الفترة – التي تقترب من عام ونصف العام - طفَتْ خلالها كل الأقنعة الخبيثة، وظهرت كوالح الدولة العميقة، فخرجت الزنابير من أعشاشها، والذئاب من أوكارها، والحيات من بيوتها، والعقارب من مخابئها.
لم تجن مصر من وراء الانقلاب سوى الخراب والدمار، ذلك أن الانقلاب أطاح بجميع حقوق الشعب الدستورية، وألغى كل الاستحقاقات الانتخابية التي خرج هذا الشعب الأبي فيها ليقول كلمته ويعلن رأيه في حرية كاملة، وإرادة تامة.
استطاع الانقلابيون – وأعانهم عليه قوم آخرون - أن يقلبوا وجه مصر الحضاري إلى صورة مسخ، فلا كرامة سياسية، ولا قوة اقتصادية، ولا تماسك اجتماعي، ولا حقوق مكفولة، ولا أعراض مصانة، ولا حريات متاحة.. عدنا إلى دولة العسكر حيث حكم الفرد الواحد، وحكومة العَجْز والعجائز، ومسئولين كل همهم أن يعبئوا جيوبهم ويملأوا بطونهم من الخزائن التي تحت أيديهم، قبل أن يتركوها لغيرهم.
بتنا بعد الانقلاب في هم دائم، فلم نجد الاستقرار الذي حلمنا بعد، ولا السعادة التي تطلعنا إليها، ولا الاحترام اللائق بنا كبشر، لم نجد سوى إهانات الشرطة وقد عادت وكأنهم يعاقبون الشعب الذي قام بالثورة.. أسعار السلع الاستهلاكية زادت وارتفعت، وأزمات البنزين والسولار والكهرباء تطل برأسها بين الفينة والأخرى.
عشرات الآلاف من الشباب والنساء والفتيات والطلاب في السجون والمعتقلات لا لشيء سوى أنهم يناصرون الشرعية، ويطالبون بحقوقهم كبشر محترمين كما في دول العالم كله، لم يرضوا بالذلة والهوان، لم يرضوا بأن يطأ الفرعون بقدمه على حقوقهم وإرادتهم السياسية التي خرجوا من أجلها خمس مرات.
أكثر من ستة آلاف شهيد ارتقت أرواحهم إلى ربهم تشكو ظلم الظالمين، وبطش الطغاة المجرمين، وصمت السلبيين، وسلبية المتخاذلين، واستهزاء المغيبين.
سبعة عشر شهرًا ولا يزال الحراك الثوري قائمًا في شوارع مصر وميادينها كافة، هذا الحراك الذي يقوده الشباب، ويشارك فيه الشيوخ، وتهتف فيه النساء، ويلهب حماسته الطلبة، ويعطيه الزخم الثوري تشكيلات الأولتراس المساندة والمؤيدة للشرعية، لم يفرق بينهم انتماء ديني أو مذهبي أو نوعي أو أيديولوجي أو حزبي.. فالجميع على قلب رجل واحد من أجل استرداد الكرامة التي سلبت، والحرية التي غيبت.
سبعة عشر شهرًا عانى فيها الناس من الظلم والقتل والسجن، ومن دون شك أنّ الظلم مرُّ ولكن استمراره أمرَّ منه وأبشع، والقتل فظيع ولكن حرق الجثث والتنكيل بها أفظع وأشد، والسجن قبيح ولكن تعذيب السجناء العزّل أشدّ قبحًا وسوءًا.
تعلق الثوار - خلال بعض فترات السبعة عشر شهرًا الماضية - بجولات تحالف الشرعية في دول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وغيرهما، ولكنهم اكتشفوا أنهم تعلقوا بقشة لم تقو على الصمود في وجه الرياح والأعاصير، حينئذ تذكرت هتاف الثوار في سوريا الشقيقة: "ما لنا غيرك يا الله"، ليعلم الثوار وأصحاب الحق أن تعلقهم بغير الله استخذاء، قد يكون من باب الأخذ بالأسباب، صحيح، ولكنه أبدًا لن يرقى لأن يكون هو الفيصل في الأمر دون إرادة الله تعالى ومشيئته.
مرّ الحراك الثوري خلال الفترة الماضية بفترات يتخللها مدّ وجزْر، وصعود وهبوط، وقوة وضعف، لكنه استطاع أن يحافظ على قوامه متماسكًا، وعلى صفه مترابطًا، وعلى حراكه فاعلاً، حتى خرجت دعوة الجبهة السلفية – وهي عضو في تحالف الشرعية - تدعو لانتفاضة "الشباب المسلم"، في موجة ثورية قوية وهادرة، لا تبغي بها سفك الدماء، كما أشاعوا عنها، ولكنها أرادت إحياء الهوية الإسلامية، والمحافظة على الشرعية الدستورية، كما أعلنت هي في تصريحات قادتها وبياناتهم.
رأينا في جمعة 28 نوفمبر إقبالاً كبيرًا لم يحدث من عدة شهور مضت، وهو إن دل على شيء فيدل على أن تحت الرماد نار، وليس قلة الأعداد في المسيرات علامة ضعف، فمؤيدو الشرعية كُثُر ولكن البعض منهم كان يحتاج إلى تجديد في الحراك والهدف والوسائل؛ ليبدءوا موجة جديدة تستمر لفترة طويلة.
استطاع التحالف اليوم أن يضرب عدة عصافير برمية واحدة (كما يقولون)، فمن جهة استطاع أن يفرق بين الجبهة السلفية والدعوة السلفية (حزب النور)، فالجبهة عضو في تحالف دعم الشرعية، وتصدرها للدعوة لانتفاضة 28 من نوفمبر تحمل رسالة للشعب بأن قوى الإسلاميين مجتمعين (الجبهة السلفية والإخوان) لن تسمح للوطن أن تختطفه عصابة العسكر، ما يعطي زخمًا قويًا ومشاركة أوسع من الشباب ومؤيدي الشرعية، أما حزب النور المنضوي تحت "الدعوة السلفية" فأصر على الزج بنفسه داخل "الطابور الخامس"، ودافع عن قادة الانقلاب، واتهم الداعين لتظاهرات 28 نوفمبر بالإرهابيين والمتطرفين.
ومن جهة ثانية تحالف دعم الشرعية بهذه الدعوة أن يرهق قوات أمن الانقلاب طوال الأسبوع الماضي في تحركات وخطط وتوترات وخوف وقلق وفزع بصورة لم يسبق لها مثيل منذ انقلاب 3 من يوليو، وهو ما يؤكد على أن الانقلابيين يعانون، وهم في همٍّ دائم، وخوف متواصل.
ومن جهة ثالثة استطاع التحالف أن يحدث حالة من "الإفاقة" بين مؤيدي الشرعية في طول البلاد وعرضها، وخاصة بين الشباب، الذين كانوا يصرون على الخروج والاحتشاد، وأصابت بعضهم – لبرهة من الوقت – حالة من الكآبة واليأس والإحباط، فجددت دعوة الخروج في "انتفاضة الشباب المسلم" الدماء، وأعادت ضخها في الشوارع والميادين فائرة قوية حاشدة هادرة.
ومن جهة رابعة أحْيَتْ "انتفاضة الشباب المسلم" في نفوس المصريين معنى الهوية، وخاصة الإسلامية، التي جاء الانقلابيون لمحاربتها ومحاصرتها بغية القضاء عليها، ونبهت الكثيرين إلى أن المعركة أكبر من صراع على كرسي وحكم، وأنها تهدف إلى هوية الدولة الإسلامية وإلى المشروع الإسلامي في المنطقة بأسرها من أجل تقويضه والقضاء عليه.
ومن جهة خامسة كشفت "انتفاضة 28 نوفمبر" كثيرًا من العملاء والخونة الذين تزيوا بلباس الثورة حينًا، لكنهم كشفوا عن وجههم القبيح بعد الانقلاب، ثم أكدوا بشكل فج أنهم في خدمة الانقلاب، سواء بتدليس الإعلاميين، أو فتاوى علماء السلطة المقبوحين.
ومن جهة سادسة دلّلت هذه التظاهرات وفضحت "الدولة العسكرية" الانقلابية التي تحكم مصر الآن، فيكفي مشهد الدبابات والمجنزرات في الشوارع، ومن ثم فقد أبطلت كل حجج الانقلابيين في إيهام العالم بأن مصر تسير على "خارطة طريق" نحو الديمقراطية، وانكشف للرأي العام العالمي أنها تسير فقط على جنزير دبابة وطلقات الرصاص.
ومن جهة سابعة فقد لعب التحالف – هذه المرة – سياسة بطريقة صحيحة، فكان توجيه الدعوة إلى "انتفاضة الشباب المسلم" من قبل الجبهة السلفية، ويباركها التحالف، ويؤيدها الإخوان، في تقاسم واضح للأدوار، وإبراز الكيانات الفاعلة في التحالف، ولإبعاد الظن أن الإخوان فقط هم من يديرون المشهد، بل إن هناك قوى أخرى فاعلة.
ومن ناحية أخرى فقد سعى التحالف إلى إرباك الانقلابيين واستنزافهم، فيخرج بيان الدعوة إلى "انتفاضة الشباب المسلم" قويًا هادرًا، تتزلزل منه دولة الانقلابيين بجميع تشكيلاتها الأمنية، ويحدث شروخات هائلة في اقتصاد الانقلابيين؛ من إغلاق مشروعات استثمارية، وإلغاء أفواج سياحية، وتوقف مشاريع كاملة، وشلل تام في الحياة الاجتماعية، وتخبط في العلاقات السياسية.
ثم يفاجئ التحالف الجميع قبل بدء الفعاليات بساعات أن حماية وصيانة الدم المصري مقدم على كل شيء، وأنهم سيفوتون الفرصة على مليشيات أمن الانقلابيين الذين أرادوا أن يحدثوا مجزرة في هذا اليوم، وأن يُعملوا آلة القتل في الجميع دون استثناء، وأن يستأصلوا الثورة من الشوارع الميادين كافة، فأرجعوهم بخفي حنين، لم ينالوا ما أرادوا من دحر الثورة والقضاء على الثوار، وهو درس رائع وناجح جدًا ملخصه: اعرف أين ومتى وكيف تبذل الجهد وتجني الثمرة.
المصدر
- مقال:28 نوفمبر.. كيف تصطاد عدة عصافير بحجر واحد؟موقع:كفر الشيخ أون لاين