الجانب الرباني في حركة المودودي
الجانب الرباني في حركة المودودي
لم يكن الجانب الرباني ـ أو (الروحي) كما يسميه بعض الناس ـ مهملا، أو ضعيفا في دعوة المودودي وحركته، وتربية أفراد جماعته. كما يخيل ذلك لبعض الناظرين من بعيد، وذلك لغلبة الطابع العقلي على أتباع الأستاذ المودودي في كتبه ورسائله وخطاباته وتوجيهاته، وغلبة التوجه السياسي على حركة جماعته، واعتبارها جماعة سياسية.
بيد أن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إن الرجل لم يغفل هذا الجانب، ولا كان في زوايا النسيان، أو على هامش الإدراك والشعور عنده، أو في تكوين جماعته، بل كان له شأن أي شأن في التوجيه العام، والتكوين الخاص. وبهذا لم يطغ (المودودي) المفكر، على المودودي (الداعية المربي).
وقد قال أبو الأعلى المودودي ردا على سؤال وجهه له أحد الصحفيين: إن الطريق أمامك صعب، وإن أَمَلَكَ في الإصلاح ضعيف، فماذا أعددت للمشاق والمصاعب التي ستواجهها في طريقك؟ فقال أبو الأعلى: أعددت للمعوقات: دينا، وللشدة: يقينا، وللظلم: صبرا، وللسجون والمعتقلات: قرآنا وذكرا، وللمشانق: (وعجلت إليك رب لترضى) طه: .
وبحسبنا أن نسجل هنا بعض فقرات من كتابه المنشور بالعربية تحت عنوان: (تذكرة دعاة الإسلام) حيث يبين فيه منهاج العمل للجماعة، والصفات اللازمة لكل عضو فيها.
ومن دلائل اهتمام المودودي بالجانب الرباني في دعوته، وتربية أنصاره وأتباعه على الإيمان به والحرص عليه، وجهاد الأنفس من أجله: ما كتبه عن الصفات اللازمة للعاملين في الحركة الإسلامية[1]، فقال:
(وأما أقل الصفات اللازمة التي يجب أن يكون القائمون بهذه الدعوة متحلين بها، فهي على ثلاثة أصناف:
صفات يجب أن توجد في كل فرد منهم بصفته الشخصية.
وصفات لا بد لهم منها لتكوين حياتهم الجماعية والمحافظة عليها.
وصفات يجب أن يكونوا عليها للمجاهدة في سبيل الله.
الصفات الفردية (جهاد النفس):
أما الصفة الأساسية من الصفات الفردية، فهي أن يقبل كل فرد منا على نفسه ويجاهدها حتى يجعلها مطيعة لله ورسوله، خاضعة لكل ما تتلقى عنها من الأوامر والنواهي، وذلك ما قد بينه الرسول بقوله: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"[2] أي قبل أن تخرجوا لمقارعة أعداء الله ومقاتلتهم في العالم الخارجي، عليكم أن تبذلوا ما تستطيعون من الجهد المستمر لمقارعة ذلك المارد الذي هو كامن في داخلكم ولا ينفك يطالبكم بمعصية الله ورسوله والخروج على أحكامهما. فما دام يتربى فيكم هذا المارد وينزلكم على مطالبه المتنافية مع مرضاة الله، فإنه من العبث أن تشهروا الحرب على أعداء الله في الخارج، فإنه ما مثل ذلك إلا كمثل أن تكون في بيتكم زجاجة من الخمر وتحاربون الناس في الخارج لمنعهم من شرب الخمر، الحقيقة أن هذا التناقض لو وجد بين أقوالنا وأعمالنا، فإنه مدمر لكياننا مخنق لحركتنا ومهلك لحياتنا الاجتماعية، فعليكم أولا أن تستسلموا لله وتتجردوا عن كل حرية لذواتكم إزاء شريعته تعالى، ثم تخرجوا تطالبون الآخرين بطاعته.
الهجرة إلى الله:
ثم قال: (وبعد درجة الجهاد تأتي درجة الهجرة. ليس المعنى الحقيقي للهجرة أن تهجروا دياركم، وإنما هو أن تهجروا معصية الله، وتفروا منها إلى طاعة الله ومرضاته. والمهاجر الحقيقي إذا كان يخرج من بيته، فلأنه لا يجد في وطنه مجالا لقضاء حياته وفق أحكام الله ورسوله. أما إذا خرج رجل من بيته ومع ذلك لم يدخل في طاعة الله ولم يقلع عن معصيته؛ فإنما قد ارتكب حماقة وما استفاد شيئا مما كابد في هجرته من محنة ومشقة وهذا ما بينه الرسول في غير واحد من أحاديثه. قيل: "أي الهجرة أفضل يا رسول الله؟" قال: "أن تهجر ما كره ربك".[3] فواضح من هذا أن المرء ما دام مصابا بمعصية الله، فإن هجره لوطنه لا قيمة له ولا وزن عند الله، ولذا فإني أريد منكم أن تحاربوا القوى العاتية في داخلكم قبل أن تحاربوها في الخارج، وأن تهتموا بذات أنفسكم وتسخيرها لطاعة الله في المكره والمنشط قبل أن تبذلوا جهودكم لإدخال الكفار الاصطلاحيين في الإسلام، أو عليكم ـ إذا قلنا بكلمات أوضح ـ أن تكونوا كالفرس المربوط بالحبل إلى وتد مغروز بالأرض، فهو مهما جال، لا يرجع أدبا إلى ذلك الوتد، كما يقول : "مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيته. يجول ثم يرجع إلى آخيته" فمثل هذا الفرس يكون في شأنه مختلفا كل الاختلاف عن ذلك الفرس الطليق الذي يجول في كل ميدان، ويدخل في كل حقل وينقض بكل جشع على كل مكان يرى فيه كلأ أخضر. فعليكم أن تجردوا أنفسكم من صفات هذا الفرس الطليق وتروضوها على صفات الفرس المربوط بالحبل).[4]اهـ.
دعوة المجتمع إلى الله:
ثم بعد ذلك يحث المودودي أتباعه على سلوك طريق الدعوة إلى الله وهو، الطريق الذي سماه القرآن جِهَادًا كَبِيرًا في قوله تعالى لرسوله في سورة الفرقان: فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وهو جهاد البيان والتبليغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وقول الحق وإن كان مرا.
ومن تنبيهات المودودي المهمة والنيرة هنا قوله لأتباعه:
(ولكن ينبغي أن لا يشرع في هذا الصراع والجهاد إلا بالعقلية التي يعالج بها الطبيب مريضه، فإنه في حقيقة أمره لا يحارب المريض وإنما يحارب ما فيه من المرض، ويكون كل سعيه متصفا بروح النصح والمواساة، فهو إن كان يجرّع المريض أدوية مُرة أو يجري العملية الجراحية في عضو من أعضائه، فعلى إخلاص منه ونصح للمريض لا على عداوة له، وإما يكون كل حنقه على المرض لا على المريض، فهكذا يجب أن تدعوا إخوانكم الواقعين في الغفلة والضلالة إلى طريق الرشد والهدى، فلا يشعرون أبدا بأنكم تنظرون إليهم بنظر الازدراء والاستخفاف أو أنكم تضمرن العداوة لأشخاصهم. وليجدوا فيكم المواساة والإخلاص والمحبة والأخوة الإنسانية. إنه لا يكون القيام بالدعوة الحقيقية ـ كما قلت لكم باختصار في مؤتمرنا السابق ـ بالمناظرات الخطابية والكتابية فإن هذه المناظرات طرق سطحية للدعوة، وضررها أكبر من نفعها، وإنما الطريق الحقيقي المجدي للدعوة أن تكونوا مظاهر مجسدة ونماذج حية للدعوة. فحيثما يقع عليكم نظر الناس، فليعرفوا من سمو سيرتكم وطهارة أخلاقكم: أن هؤلاء هم السالكون لسبيل الله، وفي ذلك قال النبي : "فإذا رُؤوا ذُكِر الله"[5] ا.هـ.[6]
وصايا وتوجيهات:[7]
وتحن عنوان (وصايا وتوجيهات) تحدث الإمام المودودي حديثا قويا عميق التأثير فقال:
(ويحلو لي أن أتقدم إليكم ـ ونحن في الجلسة الختامية من اجتماعنا السنوي الذي استغرق أربعة أيام ـ بطائفة من الوصايا والتوجيهات اللازمة التي لا بد لنا منها في مواصلة المعركة، كسلاح خلقي، وزاد روحي، حتى لا تتجه كل خطوة من خطواتنا في المستقبل إلا إلى الطريق الصحيح، وبصورة تقرّب إلينا غايتنا).
ويهمنا أن ننقل عنه هنا ما قاله عن ضرورة (الاتصال بالله) حتى لا يظن الظانون أن المودودي كان رجلا (عقلانيا) وكان صوت (الروحانية) عنده خافتا. وذلك ناشيء عن القراءة الناقصة للتراث المودودي.
الاتصال بالله:
قال المودودي:
إن أول شيء ما زال الأنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء الأمة يوصون به أتباعهم وأصحابهم عند كل مناسبة، هو أن يتقوا الله ويعمروا قلوبهم بحبه ويتقربوا إليه بطاعته وعبادته. وهذا ما أوصيت به رفاقي دائما ولا أزال أوصيهم به إذا ما سنحت لي الفرصة لذلك في المستقبل، اتباعا لسنة الأنبياء وأسوة بالخلفاء والصلحاء، فإن هذا ما يجب أن يكون مقدما على غيره، ما في ذلك شك. فالإيمان بالله مقدم على غيره في العقيدة، والاتصال بالله والتقرب إليه مقدم على سواه في العبادة، وخشية الله في السر والعلانية مقدم على سواه في الأخلاق والعادات، وطلب مرضاة الله مقدم على سواه في المعاملات والأعمال. وبالجملة فإن صلاح حياتنا إنما هو منحصر في أن لا يكون مقصودنا وراء كل ما نبذل من الجهود والمساعي إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا سيما هذا الأمر الذي قد قمنا لتحقيقه بصورة جماعية، فإنه لا يمكنه أن يتقدم ويؤتي ثمراته إلا باعتمادنا على اتصالنا بالله سبحانه وتعالى، فسيكون قويا على قدر ما يكون اتصالنا بالله قويا محكما، وضعيفا على قدر ما يكون اتصالنا بالله ضعيفا.
من الظاهر الذي لا خفاء فيه أن كل عمل يقوم به الإنسان في هذه الدنيا، دينيا كان أو دنيويا، لا يحفزه عليه ولا يقدمه في سبيله إلا الغرض الذي لأجله يقوم بذلك العمل، ولا ينشأ فيه الجد والكد والجهد إلا إذا كان ذلك العمل آخذا عليه لبه ملتحما مع روحه وقلبه وكان متحمسا لتحقيقه في واقع الأمر. فالذي يعمل ـ مثلا ـ لنفسه، لا يمكنه أن يعبد نفسه بدون أن يكون فيه الأثرة وحب الذات، وهو على قدر ما يكون شديدا في حب النفس، يخدمها بكل إخلاص وحماسة وجد واجتهاد، والذي يعمل لذريته، يكون مأخوذا بحبها، ولأجل هذا الحب يضحي براحته وماله ونفسه في صلاح ذريته ولا يخاطر بدنياه فقط، بل يخاطر بآخرته أيضا في سبيل أن يترك ذريته بعده مترفلة في النعيم والرفاه وغد العيش، والذي عمل لأمته أو وطنه، يكون مشبعا بحبها، لذا يحتمل الخسائر والأضرار الفادحة ويعاني مصاعب السجن والاعتقال ومحنهما ويصل ليله بنهاره وقد يضحي بنفسه ونفائسه في سبيلهما. فأنتم إن لم تكونوا قد قمتم بأمر هذه الدعوة، لنفوسكم وأهوائكم، ولا يحملكم عليه غرض من أغراضكم العائلية ولا تطمحون من ورائه إلى مصلحة من مصالحكم القومية أو الوطنية، وإنما الذي تقصدونه وتطمعون فيه بقيامكم بأمر هذه الدعوة هو أن تظفروا بمرضاة الله في الدنيا والآخرة، فلا يعصبن عليكم إدراك أنه ما دامت علاقتكم بالله غير قوية، لا يمكن أن يكتب لهذا الأمر شيء من التقدم والرقي، وإنه لا يمكن أن يقترن بشيء من الجد والإخلاص والتجرد والحماسة، إلا إذا أصبحت كل مطامعنا مركزة على إعلاء كلمة الله. إنه لا يكفي أن تكون للمشركين في هذا الأمر علاقة بالله؛ بل يجب أن لا تكون لهم علاقة إلا بالله وحده، لا تكون علاقتهم به سبحانه وتعالى علاقة من علاقاتهم، بل يجب أن تكون هي وحدها علاقتهم الحقيقية الوحيدة، فيكون كل تفكيرهم متجها إلى أن لا تنقص علاقتهم بالله ولا يعتريها شيء من الوهن بل تتقوى وتزداد مع مرور الأيام.
لا خلاف بيننا أن علاقتنا بالله هي روح هذا الأمر وعماده، وإني أحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره على أن ليس في جماعتنا أحد يغفل عن هذه الحقيقة، ولكن هناك طائفة من التساؤلات قد تقلق أكثر أعضاء الجماعة، هي: ما هو المراد الحقيقي بعلاقة الإنسان بالله؟ وكيف له أن يعمل على تقوية هذه العلاقة وتنميتها؟ وكيف له أن يتبين هل حقا هو متمتع بالعلاقة بالله، وإن كان فإلى أي مدى؟ وقد شعرت مرارا بأن أعضاء الجماعة ربما لا يعرفون لهذه الأسئلة جوابا واضحا، يجدون أنفسهم في صحراء لا معالم فيها ولا إشارات تبين لهم الطريق واضحا إلى غايتهم المقصودة، فلا يعرفون كم قطعوا من الطريق وكم من مراحل لا تزال أمامهم لقطعها، ولأجل هذا، فإن كثيرا منهم يضلون في طيات تصورات مبهمة، وبعضهم يميلون إلى طرق غير موصلة إلى غايتهم المقصودة، وبعضهم يتعذر عليهم التمييز بين الأمور المتعلقة بغايتهم من قريب أو بعيد، وبعضهم تعتريهم الحيرة والوجوم. ولذا فإني لا أريد اليوم الاكتفاء بنصيحتكم بأن تتصلوا بالله وتتقربوا إليه، بل سأحاول ـ على قدر جهدي وعلمي ـ أن أرد لكم على ما مر من الأسئلة:
معنى العلاقة بالله:
ثم يشرح المودودي مفهوم العلاقة أو الاتصال بالله تعالى، شرح المربي العارف البصير، فيقول:
المراد بعلاقة الإنسان بالله، على حسب القرآن الكريم: أن تكون حياته ومماته وصلاته ونسكه لله تعالى وحده قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] وأن يعبده مخلصا له الدين حنيفا.
وقد شرح النبي في عدة من أقواله هذه العلاقة بين العبد وربه بحيث لم يترك غبار على مفهومها. فإذا تتبعنا أقواله ، علمنا أن معنى العلاقة بالله: "خشية الله في السر والعلانية"[8] و"أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك"[9] و"أن تلتمس رضا الله بسخط الناس"[10] خلافا لأن تلتمس رضا الناس بسخط الله. ثم إن هذه العلاقة إذا توثقت حتى يكون حب الإنسان وعداوته، ومنعه وعطاؤه، كله لله وحده، دون أن تشوبه شائبة من رغبة النفس أو كرهها، فمعنى ذلك أنه قد استكمل علاقته بالله "من أحب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".[11]
ثم عليكم أن تستحضروا في كل وقت من أوقاتكم دعاءكم الذي تدعون به كل ليلة في آخر ركعة من صلاتكم الوتر، أفلا تقولون: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونتسغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد[12]، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحَق"[13] عليكم أن تتدبروا كلمات هذا الدعاء وتروا أي علاقة تقرن بإبرامها بينكم وبين الله في كل ليلة من لياليكم.
وقد انعكست صورة هذا العلاقة أيضا في ذلك الدعاء الذي كان يدعو به النبي الكريم إذا قام يصلي بالليل. فكان يقول في هذا الدعاء مخاطبا ربه جل وعلا: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت".[14]
طريقة توطيد العلاقة بالله:
ويزيد المودودي الأمر بيانا وتوضحيا في طريقة ترسيخ الصلة بالله، فيقول:
(أما تنشئة هذه العلاقة بالله، فليس لها إلا طريق واحد هو: أن يؤمن الإنسان بالله وحده ربا وإلها لنفسه ولسائر المخلوقات في السماوات والأرض، ولا يعقد صفات الألوهية وحقوقها وصلاحياتها إلا مختصة به سبحانه وتعالى، وأن يطهر قلبه من كل شائبة من شوائب الشرك. فإذا ما أتم الإنسان كل هذا على هذا الوجه انعقدت العلاقة بينه وبين الله تبارك وتعالى.
وأما توطيد هذه العلاقة وتنميتها فإنما تنحصر في طريقين: طريق الفهم والتفكر. وطريق العمل.
وتقويتها بطريق الفهم والتفكر هي أن تدرسوا القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة عن كل فهم وتدبر مرة بعد أخرى، لتستعينوا بهما في معرفة ما يوجد بينكم وبين الله تعالى من وجوه النسبة من حيث الفطرة، ومن حيث الواقع، حتى إذا عرفتم هذه الوجوه واستعرضتم حالكم، فعليكم أن تنظروا أي وجه من هذه الوجوه قد حافظتم عليه، وإلى أي حد تحققون مقتضياته، وأي نقص تشعرن به في أنفسكم في شأنه، فعلى قدر ما يتقوى هذا الشعور فيكم، تزداد علاقتكم بالله تعالى استيثاقا.
فمن وجوه النسبة بينكم وبين الله ـ على سبيل المثال ـ أنكم عباده وهو معبودكم، ومنها أنكم خلفاؤه في الأرض، قد خول إليكم ما لا يعد ولا يحصى من نعمه وآلائه، ومنها أنكم لما آمنتم به فقد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة. ومنها أنكم مسؤولون أمامه وهو لا يحاسبكم حسب ظاهركم بل قد سجل عنده جملة حركاتكم وسكناتكم ونياتكم وإرادتكم. فهذه وكثير من أمثالها هي وجوه النسبة بينكم وبين الله تعالى، فعلى فهمها والشعور بها والوفاء بمقتضياتها تتوقف قوة علاقتكم بالله وتقربكم إليه. وإنكم على قدر ما تغفلون عنها ولا تتفكرون في الوفاء بمقتضياتها تبتعدون عن الله وتنفصم صلتكم عنه، وعلى قدر ما تكونون منتبهين إليها ساهرين على الاحتفاظ بها والاهتمام بشأنها، تكون علاقتكم به قوية عميقة.
إلا أن هذا الطريق الفكري لا يؤتي ثماره، بل لا يمكن التمسك به إلى مدة طويلة، ما لم يكن مستندًا إلى الطريق العملي، وهو الطاعة المخلصة للأحكام الإلهية، وبذل النفوس والنفائس في كل طريق يفضي إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. ومعنى الطاعة للأحكام الإلهية: أن تعملوا بكل ما أمر به الله تعالى، عن طواعية نفوسكم، وعلى منشط منكم ومكره، سرًا وعلانية، بدون أن تراعوا فيه غرضًا دنيوياً، وإنما تراعون فيه وجه الله عز وجل، وأن تنتهوا عن كل ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى سرًا وعلانية، على كراهية ونفرة قلبية منكم، وأن لا يكون الباعث لكم على هذا الانتهاء خوفكم من مضرة دنيوية، ولكن خوفكم من الله تعالى وحده، وهذا ما سيرتفع بكم إلى درجة تقوى الله.
وأما ما سيرتفع بكم إلى درجة الإحسان بعد درجة التقوى هذه، فهو أن تعملوا لترقية كل فضيلة يحبها الله ورسوله،وإحباط كل رذيلة يبغضها الله ورسوله، وأن لا تضنوا في هذه السبيل بكل ما تملكون من نفوسكم ونفائسكم،وأوقاتكم وجهودكم، وقواكم الفكرية والقلبية، مع ملاحظة أن لا ينشأ في قلوبكم شيء من الزهو والاغترار بما تأتون به في هذه السبيل من أعمال التضحية والإيثار والفداء، ولا أن يمر بخلدكم أنكم قد صنعتم بها إلى أحد يداً، بل يجب أن تكون فكرتكم على كل حال أنكم مقصرون في أداء ما عليكم من حق خالقكم سبحانه وتعالى.
وسائل تنمية العلاقة بالله:
وإن اختيار هذا الطريق وسلوكه ليس بشيء هين، بل هو شعب من أصعب الشعاب يحتاج اجتيازه إلى قوة غير عادية. وفكر المودودي في الوسائل التي يمكن أن يستعان بها في تنشئة هذه القوة في الإنسان: من الصلاة بفرائضها ونوافلها، مع إحياء النوافل ما أمكن ذلك.
ومن ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا على كل حال، مع الاجتهاد في استحضار القلب ليوافق اللسان.
ومن إنفاق المال في سبيل الله، ومنه الزكاة، وليست هي كل المطلوب. وكذلك صوم رمضان والتطوع بعد رمضان (لعلكم تتقون).
مقياس العلاقة بالله:
ويبين المودودي لأنصاره ورجال دعوته (المعيار) الذي يعرفون به مدى علاقتهم بالله صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، فيقول:
(أما كيف لكم أن تعرفوا مدى علاقتكم بالله وهل أنها في ازدياد وتقدم أم في نقص وتقلص مع مرور الأيام، فلا حاجة لكم لذلك إلى البشائر في النوم ومظاهر الكشف والكرامات ومشاهد الأنوار في الحجرات المظلمة لكل ذلك، فالله تعالى قد وضع في قلب كل إنسان آلة لمعرفة مدى علاقته بالله، فله أن يقيسها بهذه الآلة في حالة اليقظة وفي ضوء النهار في أية ساعة من ساعاته إذا شاء. استعرضوا حياتكم وتصرفاتكم ومساعيكم وكل ما تجيش به قلوبكم من العواطف والمشاعر والنزوات، ثم حاسبوا أنفسكم لتروا إلى أي حد أنتم صادقون مخلصون في بيعكم الذي عقدتموه بينكم وبين ربكم، بإيمانكم به وتصديقكم لكتابه ورسوله، وهل أنتم تتصرفون في ما عندكم من ودائعه تصرف الأمين أو تختانون فيها، وأي جزء من أوقاتكم وأموالكم ومواهبكم الفكرية تصرفونه للسعي في سبيله وأي جزء منها تصرفونه في أعمالكم وشؤونكم الأخرى، وكيف يكون من قلقكم واضطرابكم وحزنكم وألمكم لو حل المكروه في مصالحكم الشخصية، وماذا يبلغ بكم هذا القلق والاضطراب والحزن والألم عندما ترون الناس في الدنيا يخرجون على الله وشريعته خروجا سافرا وينتهكون حرماته علنا؟ فهذه وأمثالها من الأسئلة التي يمكنكم أن تلقوها على أنفسكم ثم تتلقوا منها جوابا في أي ساعة من ساعات ليلكم أو نهاركم، فتعرفوا مدى علاقتكم بالله أو قطيعتكم عنه؟ وأما البشائر والانكشافات والكرامات والأنوار والتجليات فلا يهمنكم اكتسابها، فإنه لا كشف أعظم من إدراك حقيقة التوحيد في متاعب هذه الدنيا المادية الخلابة، ولا كرامة أكبر من الاستقامة على جادة الحق إزاء ترغيبات الشيطان وذريته وترهيباته ومواعيدهم ووساوسهم، ولا مشاهدة للأنوار أحق للقدر والإجلال من الاهتداء لنور الحق، واتباعه في دياجير الكفر والفسق والعصيان والضلال المطبق على رؤوسنا اليوم، وإن أكبر بشرى يمكن أن يرتاح إليها المؤمن وهي: أن يقول: ربي الله، ثم يستقيم على صراطه المستقيم (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت: .
إيثار الآخرة على الدنيا:
ثم يختم الإمام رحمه الله هذه الوصايا بوصيته الضرورية الأخيرة، فيقول:
وأريد أن أوصيكم بعد ذلك بأن تؤثروا الآخرة على الدنيا في كل علم من أعمالكم، وتجعلوا سعادتكم هي المقصود الوحيد من ورائه.
إن الذي نجد بيانه في غير موضع واحد من القرآن الحكيم: أن الدار الآخرة هي (دار القرار) وهي (دار الحيوان) أي هي المقام الأبدي السرمدي لحياة الإنسان، وإننا ما بعثنا في هذه الدنيا الفانية إلا للاختبار: مَنْ منا يثبت نفسه أهلا لوراثة جنة الله ونعيمها، مستخدما ما أوتي في هذه الدنيا من المتاع القليل، والتصرفات المحدودة والفرص الضيقة؟ ليس اختبارنا في هذه الدنيا في إبراز مهارتنا في تسيير الصناعات والتجارات والزراعات والحكومات، ولا في إنشاء الأبنية والشوارع، ولا في إحداث مدنية راقية رائعة، وإنما هو في أداء حق خلافة الله في ودائعه: هل نقضي هذه الحياة الدنيا متمردين عليه أم خاضعين لقانونه؟ وهل نعمل فيها تحقيقا لمرضاته أم تحقيقا لمرضاة أنفسنا ومرضاة أرباب من دون الله؟! وهل نبذل فيها جهودنا لتزيين الأرض حسب المعيار الإلهي أم نكثر فيها الفساد، ونهلك فيها الحرث والنسل؟ وهل نقاوم فيها القوى الشيطانية ونعمل على كسر شوكتها أم نستسلم لجبروتها ونخضع لقوانينها؟ إنه ما كان اختبار أبينا آدم في الجنة إلا في هذا الأمر. وهو الذي سيكون فيه اختبارنا لوراثة الجنة الأبدية في الآخرة. إذن فليس المقياس الحقيقي لفوزنا أو خسراننا أنه من أدى اختباره متربعا فوق كرسي للحكم ومن أداه معلقا على خشبة الشنق ومن منا كان اختباره بإعطائه سلطات عالية أو بإعطائه كوخا متواضعا. إن هذه الظروف المؤقتة الطارئة خلال فترة الاختبار إن كانت ملائمة للإنسان، فهي لا تدل على فوزه وسعادته، وإن كانت على عكس ذلك، فهي لا تدل على خسرانه وشقائه، وإنما الذي ينحصر فيه نجاحه وسعادته الأبدية في حقيقة الأمر هو أن يثبت نفسه في حياته الدنيا عبدا وفيا لله، متبعا لمرضاته أينما جلس من الأماكن ومهما أعطي من الوسائل لأداء الاختبار.
إخواني وسادتي! إن هذه الحقيقة التي وضعتها بين أيديكم، لا يكفي أن تفهموها مرة واحدة، بل إنه من الواجب عليكم أن تبذلوا كل جهودكم لتجعلوا أنفسكم تتذكرونها وتستحضرون مقتضياتها في أذهانكم دائما، وإلا فإنكم لا تأمنون أبدا أن تغفلوا عنها ولا تعملوا في الدنيا إلا غافلين عن الآخرة وجاعلين الدنيا أكبر همكم. والسبب في هذا أن الآخرة حقيقة وراء الحواس والمشاعر لا تشعرون بها في هذه الدنيا، وإنما تشعرون بها بعد مماتكم فلا يمكن أن تدركوها وتركوا نتائجها المرضية وغير المرضية إلا بالفكر والكد الذهني، وأما الدنيا ـ على العكس من هذا ـ فشيء تشعرون به، وتذوقون حلاوته ومرارته، وتمثل أمامكم نتائجه المرضية وغير المرضية في كل حين من أحيانكم، ولذا فهي تحاول دائما أن تغركم بأن نتائجها هي النتائج الحقيقية. إن آخرتكم إذا فسدت، فإنما تشعرون بشيء من مرارتها في ضمائركم بشرط أن تكون ضمائركم حية. وعلى العكس من هذا فإن دنياكم إذا فسدت، تشعر كل جارحة من جوارحكم بوخزتها، كما أنه يستشعر بها ويُشعركم بها كل من أولادكم وأقاربكم وأصدقائكم وعامة أفراد المجتمع، منفردين ومجتمعين. وكذلك إن الآخرة إذا صلحت، فإنما تشعرون بحلاوتها في ناحية من نواحي قلوبكم بشرط أن لا تكون هذه الناحية مصابة بالغفلة والشلل، وأما إذا صلحت الدنيا، فهي تنعش جميع وجودكم، وتستلذ بها كل حاسة من حواسكم. وتشارككم في الشعور بها جملة أفراد مجتمعكم. وهذا هو السبب في أن الإيمان بالآخرة وإن لم يكن صعبا من حيث هو عقيدة، إلا أنه من الصعب حقا أن تقضوا حياتكم كلها وفقا لمقتضياتها بجعلها وجهة وحيدة لنظركم وأساسا وحيدا لنظامكم للأخلاق والأعمال، وأن الاستخفاف بالدنيا باللسان مهما كان هينا فإنه ليس من السهل أبدا أن تجردوا قلوبكم عن حبها وفكرتكم عن طلبها. فهذه الكيفية ـ التجرد عن حب الدنيا ووطأتها ـ يتطلب التكيف بها إلى جهد كبير غير عادي ولا يمكنكم أن تحافظوا عليها في أنفسكم إلا بسعي متواصل.[15]اهـ.
أبو الأعلى والعنف:
ويرى المودودي: أن أقوى أنواع التغيير هو التغيير الفكري والنفسي، فالإنسان إنما يقاد من فكره ومن إرادته. وإذا كان الماركسيون يقولون: غير علاقات الإنتاج ووسائله يتغير التاريخ، فالمودودي يرى ما يراه القرآن حيث يقول: غير الأنفس ـ أو غير ما بالأنفس ـ يتغير التاريخ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد: 11].
ولهذا لا يرى المودودي ضرورة لاستخدام السلاح أو العنف في التغيير المنشود، ولا يقبل التغيير عن طريق انقلاب عسكري.
ولقد مرت بالأستاذ المودودي وجماعته ظروف عصيبة، وتحديات عنيفة، واعتداءات شرسة، لم تتورع عن إراقة الدم عندما وجدت الفرصة. وكان يمكن أن تنهزم فكرة (الصراع السلمي) أمام هذه الهجمات العدوانية من خصوم الجماعة من حكام وأحزاب، لا تخشى خالقا ولا ترحم مخلوقا.
ولكن المودودي لم تلن قناته، ولم يحد عن مبدئه، وظل إلى آخر رمق يرفض أن يقاتل إلا بسلاح الفكر، وسيف الحجة والبرهان.
تطاول عليه بعض خصومه الحزبيين برهة من الزمن، وتناولوا شخص الأستاذ بكلمات وتصرفات ينفد معها صبر الحليم، وأراد بعض إخوانه يوما أن يردوا الأذى بأذى، ويدفعوا السيئة بمثلها، فيأبى الرجل كل الإباء. فلما قالوا له: يا أستاذ إنهم يؤذوننا فيك إيذاء عظيما! أجابهم بقوله: إذا آذوكم إيذاء عظيما، فعليكم أن تصبروا صبرا عظيما، بل صبرا أعظم!
وفي أوائل الستينيات كان الحكم العسكري الحاكم يضطهد الجماعة الإسلامية ويضيق عليها بكل الوسائل، ولكنه لم يجد مبررا يمنع به نشاط الجماعة، ويحول دون اجتماعاتها، فلما كان يوم اجتماع أركانها السنوي، حرضت السلطة الحاكمة من يطلق النار على المودودي عند خطابه السنوي المعتاد. ولكن الرصاصة أخطأته فقتلت عضوا آخر. وهنا قال بعض المقربين للأستاذ: ينبغي أن تجلس، ولا تقف لتتكلم، تفاديا لرصاص الآثمين. فكان جواب المودودي بكل بساطة ووضوح: إذا قعدت أنا فمن يقوم؟!
ورغم هذا كله لم يستشط غضبا، ولم يدفعه هذا الموقف وأمثاله بعده إلى اتخاذ العنف سبيلا.
[1] من خطاب الأستاذ المودودي ألقاه في الاجتماع السنوي للجماعة الإسلامية الذي عقد في دار الإسلام بالهند في شهر مارس 1944م. (خليل الحامدي).
[4] تذكرة دعاة الإسلام ص 45-47.
[6] تذكرة دعاة الإسلام ص 49،48.
[7] ألقى الأستاذ المودودي تلك الوصايا والتوجيهات في ختام الاجتماع السنوي الذي عقدته الجماعة الإسلامية في 13 من نوفمبر 1951م بمدينة كراتشي (خليل الحامدي).
[12] نحفد مضارع حفد أي نسرع ونخدم.
[13] هذا هو القنوت المأثور عن ابن مسعود رضي الله عنه، ويلتزم الأحناف قراءته بعد القيام من ركوع الركعة الثالثة في الوتر.
[15] راجع فصل (وصايا وتوجيهات) الفصل الخامس من (تذكرة دعاة الإسلام) ص 45-77.
المصدر
- مقال:الجانب الرباني في حركة المودودي موقع : القرضاوي