المثقف الإسلامي وآليات التغيير الإجتماعي
لعل المعادل الموضوعي للمثقف الإسلامي هو المغيِّر الاجتماعي الرسالي، وأهم أسلحة التغيير الاجتماعي عنده ثقافة واسعة يزيِّنها الالتزام، والثقافة لدى' الإسلامي الهادف، ليست سعة اطلاع وحسب، ولا تعني القدرة المتألقة في فهم الواقع وكفى. ولا هي مجرد إبداع فكري، وإن كان هذا كله جيداً ومطلوباً، ولكن الثقافة والمعرفة عند الإسلاميين نعمة يستحق واهبها الشكر، ولطف يستوجب الكدح لكسب رضا المنعم العظيم سبحانه، وشكر نعمة الثقافة زكاتها، وزكاتها نشرها فكراً ومنهجاً وسلوكاً عملياً يصلح أن يصيِّر من صاحبه قدوة تحتذى، ومن تعاطيه اليومي بمفرداتها شهادة على روعة الفكر الذي يتبنى، والثقافة التي بها يتحلى، وسر انتصار رسولنا الكريم ص، تجسيده العملي لمعرفته الثقافية، وتطبيقه للقرآن المجيد، لقد "كان خلقه القرآن".
إن أمتنا اليوم أحوج ما تكون إلى القدوة والأسوة، وإلى النموذج الإسلامي الذي تشكل الثقافة بعض معالم شخصيته عبر حسن أدائه وتعامله الواعي السليم مع نفسه وربه والآخرين، بل ومع الحياة والأحياء والطبيعة التي سخَّرها الله له منذ أن جعله خليفة في أرضه ليعمرها بالخير والحب والعطاء والصفاء. وتلك هي سنة الأنبياء الذين اجتازوا بوابات المعرفة المكتسبة عندما أهلتهم سماتهم لأن تكون قلوبهم أوعية للإلهام الإلهي الذي تتصاغر أمام أسفار عظمته مكتبات الدنيا وكل مدارس علوم الحياة.
إن الثقافة بالنسبة للإسلامي العامل لا تعني بحال من الأحوال أن يتحول ذهنه إلى مكتبة جامدة، ولا أن يصبح عقله مستودعاً لأكداس من معلومات وعلوم قد يخزنها جهاز الحاسوب "الكمبيوتر"، على صفحة "ديسك" أو دائرة C.D وإنما هي روح شفافة تشع على من يتسربل أثواب كمالها قيماً تأبى إلا أن تنشر عطرها على من حولها من الآدميين.
وإذا ما هبَّت على المثقف ـ أي مثقف ـ نفحة إيمان عاطرة فذلك يعني أن الثقافة لديه تكون قد اكتسبت بعداً رسالياً، تتحول معه من مجرد سعة اطلاع إلى مسؤولية والتزام ووعي وعطاء، ولابد أن تتضاعف مناسيبه عندما تضيّع الأمة بوصلة رشدها في لجج بحار الفتن، وتفتقد علائم هداها وسط أعاصير الفوضى والانفلات.
إن فتنة أزمة الوعي والافتتان بحب الدنيا والارتكاس في وهدة البعد عن الله تحتم على من آتاه الله بسطة في العلم وسعة في المعرفة أن ينهض داعياً إلى الله مغيِّراً، وسراجاً نيِّراً يضيء للحيارى دروب حياتهم المعتمة، ويرسم على دروب قوافل التائهين لوحات عبور وعلائم مرور، تشير بأسهم الوعي صوب الرشاد عند مفترقات الطرق وتقاطعات الخطوط دون أن يقتصر عطاؤه هذا على الأقربين، لأن حضارة الإسلام هي حضارة الحب والرحمة والخلق الرفيع الذي يشع كخيوط أشعة الشمس التي تطل على الجميع بلا استثناء.
وما لم يعكس الإسلاميون ثقافتهم سلوكاً حياً، وفكرهم ممارسات يومية تُغرق الآخرين بفيض ألطافها، فلن يكونوا أهلاً لحمل الأمانة، ولا يمتلكون لياقة المتسربلين بأثواب الحضارة الإسلامية الطاهرة والتي بعض معطياتها أن يتخلقوا بأخلاق الله الرحمن الرحيم، الذي بعث رسوله الأكرم ص، رحمة للعالمين، وفي العالمين خلق كثير لم يؤمنوا بالله طرفة عين، لكن أجنحة الرحمة الإلهية تظلل حتى السادرين في غيِّهم حينما تُبقي باب التوبة مفتوحاً لا يغلق بوجه أحد سوى المشركين، مصداقاً لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء:48).
ومن هنا فإن ساحة عمل المثقف الإسلامي هي كل الأرض، ومخاطبوه هم كل سكانها، لا يضيق صدره بأذاهم، ولا ييأس من هدايتهم، فيظل يدعو ويكدح ويواصل العطاء والفداء، والدعوة والدعاء بأدب جم، وتواضع كريم، كسنبلة القمح الملأى التي تطأطئ رأسها محنيّة العود لامتلائها، لتظل مثيلاتها الفارغات شامخات. أو كالنخلة المثمرة تهدي للذين يقذفونها بالأحجار رطباً جنيّاً، وتمراً شهياً، ولن تغيِّر من طبعها وإن تكاثر عليها الأذى، وتمادى المؤذون.
المصدر: مجلة المجتمع عدد 1411 - 08/01/2000