نداء إلى العلماء والدعاة والشرفاء
23-04-2013
بقلم: عبد الناصر عبد الحق عبد الباري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. اللهم اجعل الحق في قلوبنا وعلى ألسنتنا، وألهمنا رشدنا. اللهم آمين.. وبعد.
إلى هذا آل الحال بمصر الأمان (ادْخُلُوا مصر إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف: 99) آل الحال بأغنى دولة في العالم -وإن شئت فقل: بمصدر الغنى في الأرض: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ) (يوسف: 55) بنص القرآن..
كل أنواع الخير في العالم خزائنه في مصر- آل الحال بمصر القوة (مصر كنانة الله في أرضه)، مصر إبراهيم ويوسف وعيسى وموسى وأولي العزم من الرسل عليهم السلام.. مصر عمرو بن العاص والقعقاع وعقبة بن نافع والصحب الفاتحين الكرام.. مصر الشافعي والليث بن سعد والعز بن عبد السلام وأئمة العلماء..
مصر صلاح الدين وقطز والقادة الأحرار.. مصر حطين وعين جالوت و6 أكتوبر و25 يناير وأعظم الفتوحات والثورات في التاريخ.. هكذا آل الحال بمصر الأمن والأمان، والثروة والثورة.. مصر الشرع والشريعة والأزهر؛
أن يُراد لها على يد حفنة من المرتزقة العملاء والخونة المفسدين في الأرض من أعداء الله والدين والوطن والإنسانية في الداخل والخارج؛ أن تكون مرتعًا للفتنة والقتل والحرق والتدمير والترويع والتجويع والاغتصاب...
فهل هذا يُرضيكم أيها السادة العلماء والشرفاء ورموز القوى الوطنية والسياسية من أبناء هذا الشعب الأصيل الكريم أو يُرضي أحدًا من العقلاء والأسوياء في العالم أجمع؟!
وهل هذه الحال يجوز في حقكم (شرعًا وعقلاً وعرفًا وإنسانيةً) السكوت عنها؟! أو يُقبل أن يكون مجرد تفاعلنا معها هو بعض الكلمات والتصريحات والبيانات والمؤتمرات أو بعض الأعمال الرمزية التي تتم من بعضنا لا منا كلنا؟!
هل يجوز أو يُقبل في حقكم -أيها الشرفاء!.. أيها العلماء!.. أيها الدعاة!.. أيها الرموز الوطنيون الأحرار!.. أيها الثوار الصادقون!.. أيها الشباب الأنقياء والشعب الأبي الأصيل!- أن نرى الدماء تسيل والأعراض وحرمات الله تنتهك، والثروات ومصدر أرزاقنا تحرق وتنهب، ومؤسساتنا تُهدم وتُعطل وتُدمر، ومستقبل أبنائنا يُضيع، ودولتنا تُهان، .
ورئيسنا ورمز كرامتنا يُقذف ويُسب وتُدبر له مؤامرات الاغتيال والإسقاط و... وشريعتنا وديننا وتاريخنا يُشوه ويُحَرف ويُهان.. كل ذلك على مسمع ومرأى وعلم من العالم وبعد ذلك كله وأكثر نأكل ونشرب وننام ونتلو كتاب الله ونكتفي ببعض ردود الفعل من بعضنا لا منا كلنا؟! هل هذا جائز أو يعذرنا أمام الله وأبنائنا والمستضعفين من النساء والأطفال وأمام التاريخ والوطن والأمة؟!
وإذا كان هذا يجوز -أي سكوتنا عن كل هذا البلاء أو الاكتفاء ببعض ردود الفعل من البعض- فبِمَ تفسرون بيعة الرضوان التي عُقدَت تحت الشجرة لرسول الله من كل المؤمنين الذين معه بيعة على الموت لمجرد أنهم جاءهم خبر أن سيدنا عثمان قُتل في مكة ومُنعوا من العمرة؟!
وبِمَ تفسرون هبَّة رسول الله والمؤمنين بالمدينة جميعًا (الدولة والشعب أو الرئيس والشعب لا الرئيس وحده) لطرد وإخراج اليهود من المدينة لمجرد أن اعتدى يهودي على امرأة برفع طرف ثوبها، فاعتبرها الرسول خيانة للعهد.
والخائن لا مكان له بين الشرفاء الأحرار ولا في البلد الذي يخونه ويعتدي على أعراضه وممتلكاته؟!
وبِمَ تفسرون -يا سادة- هبَّة جيش المعتصم (الدولة والجيش والشعب) وخروجه متجهزًا لغزو وتأديب الروم من جراء اعتدائهم على امرأة فصرخت: "وا معتصماه!" فسمعها الخليفة والجيش والشعب وهبَّوا جميعا لنصرتها؟!
اقرءوا التاريخ وأجيبونا بما يعذرنا ويعذركم أمام الله، يرحمكم الله؛ فالمسئولية في أعناقكم تجاه الشعب والأحداث.
ونتساءل مع حضراتكم: إذا لم يهب العلماء والدعاة والشرفاء والأحرار من رموز القوى الوطنية والسياسية والشباب في صف واحد وعلى كلمة سواء لنُصرة الشعب وإنجاح الثورة وحماية الوطن والأرض والعرض وتحكيم الشرع وحفظ الثروة والكرامة، بإيقاف هذه الهجمة الشرسة من قوى الشر في العالم داخليًّا وخارجيًّا على مصرنا الحبيبة وشريعتنا المجيدة؛ فمتى بالله عليكم يكون الحراك؟! ومتى يهب الجميع؟!
ومتى يقف الجميع وقفة رجل واحد في وجه هذا الطغيان والفساد؟!
متى تكون التضحية بالغالى والنفيس؟! متى يكون السهر لحماية وحراسة العقيدة والوطن والأمة؟!
متى يكون التعاون على البر والتقوى؟! متى نتناسى خلافاتنا وحظوظ أنفسنا ومنافساتنا على الدنيا ونتجرد لله ولمصلحة الوطن والأمة ولو لفترة حتى النصر؟! متى؟! أخبروني يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هؤلاء المجرمون في حالة استنفار دائم يوميًّا، يعيثون في البلد خرابًا وفسادًا وتدميرًا ما بين اعتصامات وإضرابات وقطع طرق وحرق وقتل واغتصاب، ومن ورائهم إعلام فاسق ومأجور يسوق ويزين للفتنة من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، إن يريدون إلاخرابًا وضلالاً مبينًا.. ألا يحق لكم أنتم أيها الشرفاء أن تكونوا في حال أقوى منهم وأكثر وأسرع بذلاً وجهادًا وتضحيةً وإصلاحًا وإعمارًا وتصديًا لهذا الباطل؟! (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله) (النساء: 104).
ثم إني أتساءل معكم أيها العلماء والشرفاء ورموز الرجولة والوفاء.. يا من تنتظرون صلاح الحال ونجاح الثورة ونهضة الأمة وتخشون الله حق خشيته وتعلمون متى وعلى من يتنزل النصر ويتحقق الإصلاح.
تساؤلات مهمة
س1: هل يتنزل النصر ويتحقق الإصلاح على من أعرض عن شكر نعم الله عليه بحفظها والدفاع عنها واستعمالها في الخير وعلى رأس هذه النعم ثورتنا العظيمة 25 يناير؟!
- وإذا كانت الإجابة: "نعم"، فأذكِّركم بقوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (النساء: 147) وقصة سبأ لما أعرضوا عن شكر النعمة: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سبأ: 16).
س2: وهل يتنزل النصر ويتحقق الإصلاح على المتنازعين المختلفين وتقوم لهم دولة وتبقى لهم قوة؟! فإن أجبتم بـ"نعم" فما تقولون في قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46) وقوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105)؟!
س3: هل يتحقق الإصلاح ويتنزل النصر على المتنافسين على الدنيا والمصالح الشخصية؟!
- فإن قلتم: "نعم"؛ فما تقولون في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ) آل عمران: 152) وذلك تعقيبًا على سبب الهزيمة في غزوة أحد؟!
س4: هل يغير الله ما بنا من إفساد وظلم وبلاء وتنجح ثورتنا دون أن نغير ما بأنفسنا من فساد وخلافات وصراعات على الدنيا وتفرق وتشتت وسلبية وترك للفروض وعدم منع الظلم... إلخ؟!
- وهنا أذكِّركم بقانون السماء الذي لا يتغير ولا يتبدل من أجل أحد: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
س5: هل تنجح الثورة ويتحقق الأمن ويتم الإصلاح للذين لا يتناهون عن المنكر ولا يأخذون على يد الظالم، ولا يأتمرون بالمعروف و... و...؟!
- الذي ينتظر الإصلاح والحال هكذا أذكره بقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78، 79) وما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه سيدنا أبو بكر: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، .
- ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليوشكن أن يعمكم الله بعقاب من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم، ثم لا تُنصرون"، فلا نصر ولا استجابة ولا رفع للعقاب والبلاء واللعنة إلا بتحقيق الشرط: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ).
س6: وأخيرًا، هل تتحقق النهضة والتقدم والأمان ويُمَكن للشرع وتُبنى مصر الجديدة -وهل تم ذلك على مر التاريخ لأي أمة حتى في وجود رسولهم معهم؟!- دون تحقق الإجابة الصحيحة والشرعية على كل الأسئلة السابقة وما شابهها، ودون أن نفعل ونقدم كما فعل وقدم أصحاب رسول الله مع رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم؛ أي دون تضحية وبذل ووحدة وتعاون وتجرد تام لله والأمة، ووقفة صادقة من الجميع خلف القائد وولي الأمر في وجه الفساد وأهله؛ حتى يتم تطهير البلاد منهم والتمكين للخير والصلاح والصالحين وشريعة رب العالمين؟!
- وأتساءل معكم سادتي الكرام، خاصةً الذين يلقون باللوم في كل ذلك على الرئيس بمفرده أو الحكومة بمفردها أو جهة واحدة بمفردها ويتناولونها بالهجوم غير الشرعي ولا العقليـ وأحيانًا ولا الإنساني: هل أخمد فتنة الردة ومنع الزكاة القائد والخليفة أبو بكر بمفرده حتى يخمدها الرئيس محمد مرسي وحده؟! وهل حرر صلاح الدين القدس بمفرده؟!
- وهل طرد التتار قطز وحمى مصر والأمة بمفرده؟! ارجعوا إلى التاريخ لتعرفوا ماذا كان دور العلماء والشرفاء ورموز الوطن المخلصين في هذه الأزمات، وكيف وبمن تحقق النصر، وبعدها انظروا على من يقع اللوم وتتعلق المسئولية.
وأسوق إليكم هذه الإطلالة البسيطة لعبد فقير، على صفحات من التاريخ توضح لنا على عاتق من تقع المسئولية، ومن الذي بيده الحل والخلاص.
الحل والخلاص بيدكم أنتم أيها العلماء والشرفاء ورموز الوطن الأوفياء.
والحق أنه دائمًا كان العلماء هم محور أي نهضة، وهم اللاعب الخفي أو الظاهر في تقدم الشعوب وبناء الحضارات.
ولم يكن بتاتًا دور العلماء قاصرًا على الرواية أو الترجمة أو التفسير أو الشرح، بل كان للعلماء دائمًا أدوار سياسية واجتماعية على مر تاريخ الإسلام.. كانت هذه الأدوار دائمًا كفيلة بأن تنقذ الأمة كلما حلت بها كبوة، أو استشرى فيها ضعف، أو دب في كيانها الوهن.
وحين أنقب في أحداث التاريخ الإسلامي عن هذه الأدوار يبرز لي -رغم عني- الدور الذي لعبه أبو حامد الغزالي رحمه الله في تصحيح مسار الفكر الإسلامي وإحياء وبعث علوم الدين.
ويخطئ المؤرخون والمفكرون إذا نسبوا تحرير بيت المقدس من الصليبيين إلى صلاح الدين الأيوبي وحده.
وما كان جيل صلاح الدين سوى إفراز طبيعي لجهود مضنية بذلتها أجيال قبله من أجل تقويم المعوج، وبعث موات علوم هذا الدين. ويتقدم هذه الأجيال مجدد القرن الخامس وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي.
وأبو حامد لم يكن مجرد عالم يلقي الدروس ويكتب المصنفات، بل كان قلبًا مهمومًا بجراح هذه الأمة المتفككة، الواقعة فريسة بين أنياب الصليبيين، وكان عقلاً مفكرًا، وبصيرة نافذة يرى مواطن الخلل، وطبيبًا يشخص الداء ويعرف الدواء.
لقد أدرك أن العدو الحقيقي ليس الصليبيين، بل هو الاستبداد والجهل والخرافة، فراح الرجل ينقذ علوم الدين بعد أن كانت قاصرة على كلاميات فارغة بين الفلاسفة، وخلافيات تافهة بين المعتزلة والحنابلة، وبدع متداولة بين الرافضة والمتصوفة.
فسطر الرجل إحياء علوم الدين ليكون ثورة على هذا الواقع المميت، وسطر معه سير شباب حملوا هذا الفكر المستنير، وجعلوه واقعًا تعيش الناس به، فأنقذ الله به الأمة، وتوج الله هذا الجهد بتحرير البيت.
ويبرز لي أيضًا في السياق نفسه، سلطان العلماء وبائع الملوك عز الدين العز بن عبد السلام.
وحينما أتحدث عن سلطان العلماء، فإنني أتحدث عن مشروع قومي قاده الرجل في شتى مناحي الحياة، في الدين وفي السياسة، وفي القضاء وفي الاقتصاد وفي الجهاد.
أتحدث عن مكافح سياسي وقف في وجه الطغيان، وأعلن من فوق منبره خيانة الصالح إسماعيل ببيعه السلاح للصليبيين والاستقواء بهم ضد أخيه الصالح نجم الدين أيوب. وهذا الموقف أودى به إلى الاعتقال والنفي، لكنه لم يخش في الله لومة لائم.
وأتحدث عن قاضٍ شجاع، وقف في وجه السلطان نجم الدين أيوب ضد تدخله في القضاء وهو ليس من حقه، وأداه إنكاره تدخل السلطان في القضاء أن قام فجمع أمتعته ووضعها على حماره ثم قال: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، وتجمع الناس حوله وأرادوا الخروج معه.
وأتحدث عن مربٍّ حكيم تربى على يديه المظفر قطز الذي جمع الله به شمل المسلمين، وقيضه لجهاد التتار ودحرهم وتخليص بلاد المسلمين منهم، بعد أن ابتليت بهم بلاءً عظيمًا.
وأتحدث عن مجاهد باسل، جيَّش الشعوب وجهزهم بالإيمان والقوة، ليدحر الله به أعداء الإسلام في الداخل والخارج.
وأتحدث عن اقتصادي بارع شارك في وضع خطة تمويل العمليات العسكرية ضد التتار.
ولما أمر قطز بجمع الأموال من الرعية للإعداد للحرب، وقف العز بن عبد السلام في وجهه، وطالبه بألا يأخذ شيئًا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يُخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم؛ حتى يتساوى الجميع في الإنفاق.
وأتحدث عن مفكر عظيم، وضع منهاجًا دينيًّا وفقهيًّا وسياسيًّا، كان بمنزلة مشروع قومي عظيم، قاد به مصر نحو الوحدة والنهضة وقيادة الأمة الإسلامية وإنقاذها من الهلاك.
وعندما أقلب صفحات التاريخ الإسلامي، يبرز أمام ناظري صفحة مضيئة لعالم من علماء المسلمين نشر الإسلام وحده في أواسط إفريقيا، وأنشأ وحده دولة إسلامية من العدم، قادت قوة الإسلام في الغرب، وأنقذ الله بها الأندلس من السقوط، ليأذن الله لهذه الحضارة أن تمتد قرونًا أخرى تعلِّم البشرية الخير. إنه عبد الله بن ياسين المجاهد الفذ، والعالم الفقيه الذي دعا الناس إلى الإسلام في إفريقيا من الصفر، كما يدعو الأنبياء والرسل الأمم إلى رسالاتهم، فجاء بجمع غفير من الناس أسس بهم دولة المرابطين التي كانت أعظم قوة عسكرية واقتصادية وعلمية في إفريقيا آنذاك.
ولست هنا أمام مجاهد محارب أو عالم ديني، بل إنني أمام رجل متكامل العلوم والفنون، كان مؤسس الدولة وفقيهها الدينى والسياسى والعلمى والاقتصادى، فضرب مثالاً لشمولية الإسلام، وأثبت أن الإسلام ليس بضع فروض تؤدى، أو صلوات تقضى، وليس سلسلة من الشروح والمتون تمتلئ بها الكتب ويسهر الطلبة في دراستها معزولين عن الحياة، بل إن الإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
بهذه الجولة الفاحصة في صفحات التاريخ، أخلص إلى حقيقة هامة؛ هي أن العالِم الحق الذي يستحق الثناء الإلهي والوراثة النبوية، ليس بالذي يحبس نفسه بين أرفف الكتب، أو يلصق قدميه على درجات المنبر، لكن العالم الحق هو الذي تكتمل فيه شمولية الإسلام.. العالم الحق هو رجل سياسة حين تطغى الطواغيت، وهو رجل حرب حين تُغتصَب البلاد، وهو ثائر حين يتفشى الفساد، وهو مجدد عظيم يضع المنهاج الذي يقود الأمة إلى النهوض.
العالم الحق هو الذي يتكلم يوم أن يصمت الناس، ويقود يوم أن يتقهقر الناس، ويقاوم يوم أن يتخاذل الناس، ويوحد يوم يتفرق الناس، ويعلـِّم يوم يجهل الناس.. العالم الحق وريث الأنبياء، هو مشروع نبي في كل عصر؛ يقيم الإسلام في الأرض، فيؤدي الأمانة، ويبلغ الرسالة، ويجاهد في الله حق الجهاد حتى يأتيه اليقين.
الحل في العلماء
أعود إلى السؤال والجواب: كيف يتقدم العلماء ركب هذه الأمة فيجددون لها حياتها وينهضون بها وينقذونها من براثن الهلاك؟!
كيف يستعيدون هذا الدور المفقود الذي كلفهم الله به؟! تساءلت يومها: كيف يكون الحل في العلماء؟!
وكيف يصبح العلماء عاملاً مؤثرًا في معادلات السياسة والحرب ونظام الدولة الاجتماعي والسياسي والثقافي؟!
وهل واقع العلماء اليوم يعطي بشارة أن يكون لهم دور ملموس في قيادة الشعوب نحو تخليصها من الإذعان للعبودية والاستبداد كي تسترد حريتها فيطرد بها الله قتلة أنبيائه والمفسدين في أرضه؟!
التجرد لله والأمة والجهاد مع الوحدة وتصحيح العقيدة
سمعت عبارة منسوبة إلى الصحابي البدوي البسيط ربعي بن عامر، قالها وهو يقف أمام قائد الفرس رستم عقب معركة القادسية حينما سأله رستم عن الإسلام، فقال ربعي: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".
لقد فهم ربعي من الإسلام ما يكفيه كي يتحدث عن هذا الدين العظيم ببلاغة الشعراء وحكمة العلماء، مع قائد أقوى دولة في الأرض حينذاك.
وقد اخترقت هذه الكلمات البسيطة قلبي وعقلي، فصار صداها يتردد في رأسي، ويختصر عندي كثيرًا من الشروح والمتون التي تتحدث عن الإسلام وعقيدة التوحيد.
لقد فهمت -منذ سمعت هذه الكلمات القوية البيان، البسيطة التكوين- أن وظيفة الإسلام الأولى أنه كفاح سياسي لأجل عتق الناس من كافة العوالق الأرضية.
وهذا –لعمري- هو التوحيد الصحيح: كفاح سياسي شديد، غايته تحرير الناس لربهم من كافة طواغيت الأرض، ليخلص الناس إلى ربهم؛ يأخذون من عزته عزة، ومن كرمه كرامة، ومن علمه علمًا، ومن قيوميته إيمانًا ويقينًا.
وحينما غدوت يافعًا، كان هذا المفهوم يترسخ يومًا بعد يوم.
لقد أعملت خاطري وعقلي في كتاب الله عز وجل فكانت هذه الحقيقة تزداد رسوخًا مع قراءتي كل آية.
إن القرآن الكريم لا تكاد سورة من سوره تخلو من تحريض الناس على مجابهة الطواغيت، وتخليص الأوطان والشعوب من استبدادهم إلى الله الواحد.
لقد تدبرت آيات الله عز وجل وهي تحكي موقف إبراهيم عليه السلام مع النمرود الطاغية الذي خدعه جبروته وطغيانه فظن تيهًا أنه رب هذا الكون، وتدبرت كيف غلبه إبراهيم بشجاعته وإيمانه العميق، وتدبرت قبلها موقفه عليه السلام وهو يدخل مع سادات قومه في كفاح سياسي شجاع من أجل تحطيم عقائدهم البالية المتحجرة.
ولقد قطعت رحلات مع آيات الله عز وجل يمنة ويسرة فوجدتها لا تكاد تخلو من تمجيد للكفاح الطويل الذي قطعه موسى عليه السلام لأجل تحرير البلاد والعباد من سطوة فرعون وظلمه وطغيانه.
ولقد طوفت الترحال بسور القرآن الكريم، فوجدتها لا تخلو من تخليد وتمجيد للمكافحين من الأنبياء والصديقين، الذين وقفوا في وجه الفساد وضحوا بأرواحهم في محاربة الطغيان.
ولهذا لم أندهش حينما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه أن أعظم شيء في الإسلام هو الكفاح السياسي في محاربة الطغيان. قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد، كلمة حق عند إمام جائر".
ولم أندهش أيضًا وأنا أرى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يساوي بين منزلة الرجل الذي أعدمه سلطان ظالم ومنزلة حمزة بن عبد المطلب، فقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الشهداء، حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
من كل هذا، أفهم أن وظيفة الإسلام الأولى هي أنه كفاح سياسي لمحاربة الجور والظلم والفساد، وأفهم أن "التوحيد" الحق هو تخليص الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
إن التاريخ يذكِّرنا بمواقف مشرفة للصحابة والتابعين في مكافحة الطواغيت وقيادة الشعوب في الثورة ضد فسادهم.
والمواجهة بين الدعاة والطغاة صورة تكررت كثيرًا عبر تاريخ هذه الأمة. والدور الريادي المنوط بعلماء الأمة ودعاتها يدفعهم دومًا إلى هذه المواجهة، بالنصح والوعظ، وقيادة الناس وقت الأزمات.
والدعاة والعلماء يتحملون في هذه المواجهات الكثير والكثير من المحن والابتلاءات، وهو قدرهم الذين رضوا به وعاشوا وماتوا من أجله.
تساءلت يومها: كيف يكون الحل في العلماء؟! وكيف يصبح العلماء عاملاً مؤثرًا في معادلات السياسة والحرب ونظام الدولة الاجتماعي والسياسي والثقافي؟!
وهل واقع العلماء اليوم يعطي بشارة أن يكون لهم دور ملموس في قيادة الشعوب نحو تخليصها من الإذعان للعبودية والاستبداد كي تسترد حريتها فيطرد بها الله قتلة أنبيائه والمفسدين في أرضه؟!.. وبعد هذه الإطلالة أظن أن الأمر قد اتضح.
وبعد.. فالحل بيد العلماء والشرفاء ورموز القوى الوطنية الأوفياء، ويتمثل فى توجيه القائد الصالح (رئيس الجمهورية ومعه الحكومة) والعلماء والدعاة، والشرفاء من رموز الوطن، والقوى الوطنية والثوار، والشباب الصالحون المصلحون، متسلحين ومعتصمين بالعلم والوحدة والتجرد التام لله، ومصلحة الوطن والأمة والثورة- الشعب وقيادته إلى إقامة الحق والعدل، والحرية والأمن، والحكم الرشيد والنهضة على أرض هذا الوطن العزيز.
وذلك يتطلب وقتًا وصبرًا، وحكمةً وتضحيةً عزيزةً، وتناصحًا صادقًا وإيمانًا عميقًا، ووحدةً وثقةً وولاءً تامًّا إلى أن يتم النصر وتتحقق أهداف الثورة.
جبهة للاصطفاف الوطني
هذا الهدف الذي ذكرته يحتاج إلى جبهة للاصطفاف الوطني خلف الرئيس من كل فئات وشرائح الشعب بقيادة العلماء والشرفاء ورموز القوى الوطنية، وتحت مظلة الازهر الشريف -حتى تكون جبهة محايدة يثق ويتلقى منها الجميع- وأرى أن يكون على رأس هذه الجبهة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وهيئة كبار العلماء، والهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، وعلماء ورموز الجبهة السلفية، والجماعة الإسلامية، والإخوان المسلمين، وأهل العلم والدعوة في مصر، والقوى الوطنية والسياسية، والثوار والشباب الصالح الذين يريدون الإصلاح والخير للبلد، .
ومن ورائهم باقي أبناء الشعب الكريم؛ يهبُّون هبَّة رجل واحد بإرادة قوية وعزيمة صادقة؛ لإعادة بناء مؤسسات الدولة وإتمام مسيرة الإصلاح واستكمال أهداف الثورة، مساندين رئيسهم ومدافعين عنه، في جهاد لا هوادة فيه ولا ضعف ولا استكانة، حتى يتم النصر وتتطهر البلاد من الفساد والمفسدين ونرى ضوء شمس الحضارة والنهضة والأمان والرخاء والحكم الرشيد؛ تعم أرجاء هذا البلد الكريم.. وشعارنا جميعًا: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) تجردًا وإيجابيةً من الجميع.
هذه الآية تقول لنا جميعًا إن منع الفساد وبناء النهضة لا يتم إلا بالتجرد لله والإيجابية والمشاركة وبقوة من الجميع، وإلا فذو القرنين الملك الصالح الذي أوتي من كل شيء سببٌ وقوة، كان أولى به أن يقول للقوم الذين استنجدوا به: "اجلسوا وارتاحوا وتفرجوا حتى أقيم لكم السد الذي يحميكم"، وكان قادرًا على ذلك، لكنه تشريع لأسس بناء الحضارات وتحقيق الأمن!!.
والدور يتمثل في الآتي:
- -مساندة الرئيس والدفاع عنه- مع نصحه وتقويمه- بكل أشكال الدفاع الشرعي والقانوني، والإعلامي والجماعي والفردي، بكل الوسائل حتى يعلم الشعب أين الحق.
- 2- حملة توعية وتوجيه للشعب بكل الوسائل: مؤتمرات وبيانات، وخطب جمعة وفضائيات، وإعلام مسموع ومرئي ومقروء وإلكتروني، وقوافل دعوية وتوعية تجوب قرى ومراكز ومحافظات مصر كلها؛ لتوضيح الحقائق وأعمال الرئاسة والحكومة والإنجازات التي تمت، وكشف الفساد والمفسدين وموقفهم الشرعي والقانوني، وتوجيه الناس إلى دورهم الحقيقي تجاه ما يحدث وما يدعون إليه من مشاركة وإيجابية في بناء مؤسسات مصر لا هدمها...إلخ هذا الدور المنوط بهم في (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).
- 3- أن تجهروا بكلمة الحق التي تعذركم أمام الله في كل ما يحدث من قبل المجرمين وموقفه من الشرع والقانون بحيث يتضح للشعب حقيقة موقفهم الشرعي وموقف ما يفعلونه وما يجب علينا تجاههم، وحتى يتبين للجميع خيوط المؤامرة ومَن وراءها في الداخل والخارج، وحتى لا يلتبس على الناس الحق بالباطل في ظل هذه الحملة الإعلامية المسعورة على البلد والشعب والشريعة.
- 4- المشاركة الحقيقية المباشرة والمستمرة والشاملة في كل خطوة وعمل تقوم به الدولة والقوى الشرعية في سبيل الإصلاح والبناء؛ .
وذلك حتى يقتدي بكم الناس وينزلوا إلى ميدان العمل والبناء ويتركوا السلبية والاستماع والانجراف وراء أهل الباطل والإرجاف في المدينة، فتسير القافلة ويعلو صوت الحق والقوة والحرية، وتبقى الكلاب تعوي حتى تموت بغيظها إن شاء الله.
هكذا يمكن أن يتنزل النصر ويتم الإصلاح ونستكمل أهداف الثورة، ونعذر قبل كل ذلك إلى الله في أمر ديننا ووطننا وأمتنا.. والحمد لله رب العالمين.
- بالتربية والتعليم بسوهاج