الحرية أداة للتغير الإجتماعي
الحرية أداة للتغير الإجتماعي
التغيير مطلب ملح لجماهير الأمة العربية ولصفوتها على سواء. والتغيير ضرورة في عصر تتغير فيه بسرعة غير مسبوقة كل أنماط العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية محليا وعالميا. والتغيير أمل لملايين الشباب العربي لا يرون دونه سبيلا إلى استمرار عطائهم لأوطانهم، بل إلى استمرار مجرد حياتهم فيها. وفي القلب من كل عطاء يكمن عنصر الحرية.
"الحياة الثابتة المستقرة ليست -دائما- هي أفضل الممكن أو المتاح أو المقدور عليه، فجريان ماء البحر والنهر يجددهما ويعظم النفع بهما، واستقرار الماء يجعله آسنا لا يشرب ولا ينتفع به، وربما استقذره الناس فطرحوا فيه الفضلات والجيف.
وكذلك الأوطان. إذا لم تأخذ بسنة التجديد والتغيير أصاب أبناءها السأم والملل، وقد ييأس بعضهم من أن يصيب فيها سدادًا من عيش أو طموحًا إلى رقي ورفعة وعلو مكانة، فيهجرها إلى حيث يجد طلبته ويحقق أمنيته.
والذين ينشدون التغيير يتخذون له الوسائل، أو يبحثون عنها، وبعض هؤلاء يسلك طريقًا صحيحًا مؤديا إلى ما يريد، وبعضهم يتنكب الطرق الصحاح جميعاً فيسلك مفاوز لا تبقي ظهرًا ولا تحفظ لطارقها حياة.
فريقان
والوطن العربي مبتلى بفريقين، فريق يرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، فيدافع عن بقائه واستمراره والحفاظ على قيمه السائدة وجماعاته الحاكمة إلى أبد أبد.
وفريق لا يرى فيما هو كائن خيراً أبدًا، ويريد أن ينزع كل ثابت فيه من أصله وينشئ بديلا له من عند نفسه، غير مدرك أن للكون سننا حاكمة إذا اتبعت أثمرت وأنجبت، وإذا خولفت خاب المسعى وتعس الساعي.
والمراقب المنصف أو المواطن العربي المهموم بشئون وطنه يشفق على الفريقين جميعًا، ويشفق على الوطن العربي معهما، بل قبلهما، فقد ضاعت من هذا الوطن قرون خسر فيها ريادته للدنيا، وقيادته لركب التقدم البشري كله، وأصبح يعيش في ذيل القافلة الإنسانية، ويقتات بفتات ما يقدمه له السابقون في ركبها.
ولم يكن لذلك في بدئه، وليس له في استمراره، ولن يكون له في بقائه - إن بقي لا قدر الله له بقاء - سبب أبعد أثرًا، وأكثر خطورة، وأمضى فعلاً من غياب الحرية وفقدانها وتفشي الاستبداد وانتشاره، والتلذذ بالقهر المستمر من المقهورين والمستكبرين على سواء.
والحرية التي أعنيها، والاستبداد الذي أستنكره، والقهر والاستكبار اللذان أرفضهما أمور ليست في مجال من مجالات الحياة دون سواه، ولا في جانب من جوانبها دون بقية الجوانب، ولكنها سمات أصبحت حاكمة في وحدات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية جميعا، في البيت والمدرسة والمكتب والوزارة، في القصر والكوخ والخيمة، في المصنع والمتجر، بل في الطريق العام الذي لا يلتقي الناس فيه إلا لماما.
فأنت ترى الشعب العربي في كل بقعة من هذا الوطن يعيش علاقة توتر واستفزاز وصراع- يستخفي أو يستعلن حسب الأحوال - مع حاكميه. الكثرة غير راضية عن القلة، والقلة أو الصفوة - الحاكمة - غير مكترثة بالكثرة، والأمور تمضي بالكل من محنة إلى محنة. والذين يملكون بعض أسباب الإصلاح لا يستطيعون حمل الآخرين على الأخذ بها، والذين يحتاجون إلى الأخذ بهذه الأسباب معرضون عنها، وكلا الفريقين سيئ الظن بالآخر، وكل منهما يتربص بغريمه - أو من يتصوره كذلك - الدوائر.
وأنت ترى الأسرة إما مفككة لا ربط لها ولا نظام للتنشئة والتربية والقدوة فيها. وإما مغرقة في التخلف ترد وتصدرعن رأي فرد لا يسمح لأحد بمناقشته - فضلا عن مخالفته - ولا يحتاج إلى أن يقدم لرأيه سببا أو مسوغًا، يعيش وحده عيش الأحرار في مجتمعه الصغير، وباقي أفراد هذا المجتمع يحيون في ولايته حياة المملوك بين يدي المالك له.
أنت ترى هذا النموذج الذي تتفرد به الأسرة العربية مكررًا في كل موقع، حتى حين يريد أحد أن يبلغ المدى في طغيانه ويصل إلى الغاية القصوى في استبداده بالرأي والأمر والنهي، واستحقاق الطاعة والانقياد، رأيته يشبه نفسه برب الأسرة، أو سيد العائلة.
هذا التصوير الذي وصفت، واقع في جماعاتنا السياسية، وجماعاتنا المهنية، وتجمعاتنا العلمية، وهو يفسد من ذلك كله أضعاف ما يصلح - إن كان يصح مع الاستبداد إصلاح - وإذا صادفت مكانا أو جماعة صغيرة أو كبيرة قد سلمت منه وبرئت من أدوائه فهي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، ويثبت الظاهرة ولا يكذبها.
داء ودواء
إذا كان الواقع يشهد للعربي بأنه لا يقل عن أحد من خلق الله ذكاء، ولفطرته بأنها ليست بطبعها، أخبث من فطرة سائر الناس، ولقدراته العقلية والفكرية - حين يتاح له الانطلاق أو الانعتاق- بالإبداع والتجديد والابتكار، والإضافة الخلاقة في كل مجالات المعرفة، وفي كل العصور، وفي المجتمعات جميعها فإنه لابد من سبب وراء الاختلاف البشري أدى بحالنا - العربي- إلى أن نصبح حيث نحن في عالم اليوم، وبغيرنا إلى أن يصبح حيث هو.
أنا أزعم - غير مدع - أن السبب الذي جعلنا كما ترانا هو هذه الظاهرة العجيبة: ظاهرة الاستبداد والقهر وفقدان الحرية، وأن الذي دفع سوانا من الخلق في الغرب والشرق إلى أن يتنافسوا على سيادة الدنيا وقيادتها هو برء مجتمعاتهم من هذه الظاهرة الممرضة القاتلة.
البرء لا يأتي دون علاج، والعلاج لا يقدم بلا ثمن، ولم يعرف التاريخ- بقدر معرفتنا عنه- أمة تخلصت من داء القهر ومرض الاستبداد ونعمت بصحة الحرية وعافيتها إلا وقد دفعت لذلك ثمنا غاليا من الأموال والأرواح.
قراءة الحوادث القريبة في السنين العشر الأخيرة وحدها، تدل أولي الألباب على أن سنة التاريخ مستمرة، وأن اتجاه الريح واحد، يقوى ويضعف، ولكنه لا يتغير.
وليس عند العقلاء شك في أن الذي سبقنا الآخرون إليه لابد أن نلحقهم فيه، وإذا كنا نستورد من العالم الحر كل شيء، ونقلده في الصغيرة والكبيرة ونتخذ منه في الرخاء صديقًا ومشيراً، وفي الملمات ناصرًا ومجيرًا، فما الذي سوف يحول بين قومنا وبين السعي إلى جعله قدوة في الحرية، كما جعلته صفوتنا قدوة وأسوة في كل شيء سواها؟
وليس عند العقلاء شك في أن صفوتنا ليست أسعد الناس بتخلفنا السياسي والفكري والعلمى والثقافي، ذلك لأن تخلف المجموع لا يكون إلا دليلاً على تخلف الصفوة نفسها، وتقصيرها. وقد يكون - في بعض الأحيان- دليلا على عدم آدائها الأمانة التي تتحملها. وإذا لم يكن كل ذلك صحيحاً، فإن بعضه صحيح لا ريب فيه.
صراع مع التخلف
والصراع الدائر - مستعلنا في بعض البقاع ومستحييا في بعضها الآخر- على طول الوطن العربي وعمقه هو صراع مع التخلف الذي يشين وجه الأمة العربية، ويكذب الصادق الصحيح من تاريخها، ويثير الخوف المسوغ على مستقبلها.
وحين نقول إن مفتاح حل أزمة التخلف كلها، وتغيير الواقع المكروه كله هو في استعادة الجميع في هذا الوطن حرياتهم، فنحن لا نغالي ولا نبالغ ولا نتوهم.
لا نغالي لأن الحرية في ضمير العربي هي جزء من الفطرة التي فطره الله عليها، فهذه الفطرة في نصوص القرآن الكريم، ولا تخالفه في ذلك النصوص المسيحية، تتضمن حق الناس في الاختيار، حقهم في اختيار الرأي، واختيار الفعل المترتب على هذا الرأي. ولأن هذا الأمر قديم قدم وجود الإنسان ذاته على وجه هذا الكون فقد اختار القرآن الكريم أن يثبت معناه مقترنا بوقائع ترجع إلى أبي البشر جميعا: آدم عليه السلام.
فآدم نهي عن أفعال بعينها ففعلها، وسمى القرآن الكريم ذلك عصيانا وغواية، وتبعتهما توبة، وتحذير أبدي لكل أبناء آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
... فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (طه 117- 126).
الاختيار فطرة
فالاختيار- وهو نتيجة للحرية - فطرة، من بدلها، أو "أعرض عنها"، كانت معيشته كما وصفتها الآيات "ضنكا"، وكان حشر يوم القيامة على غير صفة الكمال التي خلق عليها، فيبدله الله بالبصر عمى.
وبعد أن تم الاستخلاف في الأرض لآدم وبنيه قرر القرآن- مكررًا - هذه الحقيقة، حقيقة حرية الآدميين، في أهم شأن وأخطره: شأن الإيمان والكفر: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (الحج- 18). فمخلوقات الله جميعا تسجد له سجود تكوين لا يتخلف، إلا الإنسان فإن سجوده سجود اختيار قد يكون وقد لا يكون. وليس لهذا من معنى ولا سبب، إلا تحقق كمال الحرية ولازمها: الاختيار بلا إجبار.
فليس مغاليا من يعتقد أن في العودة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها يكمن الأمل في تغيير حالهم الذي يكرهونه ويضيقون به - حال الضنك- إلى حال يتمتعون فيه وينعمون به، حال الإكرام.
ونحن لا نبالغ حين نعطي كل هذه القيمة للحرية باعتبارها أداة التغيير الحقيقية في الوطن العربي، لأن الأمة التي تربي أبناءها وبناتها على الخضوع والانقياد تقتك فيهم ملكة الإبداع والابتكار، والشاب الذي لا يملك الأمر الكبير- في العمل أو في الحياة- مناقشة ولا ردا سيخضع بالتعود - إن لم يكن بالرعب - لكل آمر وناه، والحاكم الذي يرى تلك سمة المجتمع كله لن يتسع صدره لرأي غير رأيه وسيجعل شعاره "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وقوم هذا حالهم لا يبعد أن يخرجوا - قريبا أو بعيدا - من قبول الطاعة المبصرة إلى الوقوع في الطاعة العمياء، وعندئذ يكونون كالذين وصفهم القرآن الكريم ووصف طغيانهم: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين. فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (الزخرف - 54 - 56).
سلاح لنا لا علينا
ونحن لا نتوهم حين نرى العربي قادرًا حين يعيش حرًا حقيقة لا شعارًا، على أن يسابق فيسبق، وأن يعمل فينتج، وأن يصنع في الأرض مستقبلا زمنه ما صنعه أباء له فيها وأجداد فيما استدبرنا من الزمان. نحن لا نتوهم لأننا لا نرى فارقًا يحس أو يقاس ويحسب بين الأمة العربية وغيرها من الأمم إلا فارق الحرية الموجودة عندهم، المفقودة عندنا.
ونحن لا نتوهم لأن العربي الذي هاجر من بلاده أو هجرها، سرعان ما تبوأ بين أبناء أي أمة قدر له العيش في كنفها مكان الصدارة والريادة، لم يقعده عن ذلك شيء في طبعه أو مزاجه أو ذكائه، وإنما مكنه منه أن حلبة السباق هناك مفتوحة لكل قادر، حين عاقه في بلاده أن أغلب حلبات العدو مخصصة لذوي العاهات.
ونحن- أخيرًا - لا نتوهم حين نجعل للحرية كل هذه القيمة، لأن المواقع القليلة التي أتيح لها في بلادنا - أو بالأدق في بعضها - أن تنعم بنوع من الحرية في الاختيار، والحرية في صنع القرار استطاعت في سنين معدودة أن تحقق ما ظل أملا يراود الناس عقودًا من السنين مديدة.
وحسبك أن تتأمل منصفاً - في مصر وحدها- حال نقاباتها المهنية، ونوادي جامعاتها، وحال صحفها الحرة، وشأن عشرات الصناعات الخاصة فيها. وتقارن ذلك كله وتقيسه إلى ما كان منذ ثلاثين سنة لتعلم كيف تصنع الحرية بالطاقات الكامنة، وكيف يصنع أصحاب هذه الطاقات بها، ولتوقن أن الحرية مهما ضاق البعض بتبعاتها هي أنفع للناس وأرضى لله من ضدها مهما حاول المنتفعون به - أي بهذا الضد - تجميل وجهه وتحسين صورته.
فهل يدرك قومنا أن الحرية سلاح لهم لا عليهم، وأنها أداة التغيير الضامنة لقوتهم المحققة لعزتهم؟ أم تراهم يفضلون أن يردوا ماء آسنا عرفوه على أن يقطعوا واديا قريبا، أو ينشئوا سفرا قاصدا يؤدي بهم إلى ضفاف نهر جار لا ينقطع، عذب لا يتغير، معطاء لا يبخل.