الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الإتجاه الإسلامي بتونس»
لا ملخص تعديل |
|||
سطر ١: | سطر ١: | ||
'''<center>الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة | '''<center>الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الإتجاه الإسلامي بتونس </center>''' | ||
مراجعة ١١:٠١، ٣٠ سبتمبر ٢٠١٠
مقدمة
إن حركة الاتجاه الإسلامي بتونس تتخذ منطلقاً لها العقيدة الإسلامية المباركة: القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي إليها يعود تحديد المواقف والرؤى إزاء قضايا الوجود عموما والوجود الإنساني بصفة خاصة.
وترى أن أي عمل تغييري نحو الأفضل، وأي منهاج للحياة، يجب أن ينبثق عن جملة تصورات واضحة لمنزلة الإنسان ووظيفته في هذا الوجود وعلاقاته ببقية عناصر الكون، لأن هذا المعنى به ترتبط كل الحياة. وانطلاقا من مبدأ التعامل الصادق والمسؤول مع ديننا الحنيف، واعتمادا على مبدأ الشمول في فهم الإسلام بشكل لا يحصره في مجال العقائد والشعائر، بل يتعداه ليشمل إلى جانب ذلك الحيز الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، نرسم في ما يلي الأسس العقائدية والأصولية لحركتنا، حيث تكون معالم نلتقي حولها ونجعلها منطلقا نبني عليه عقيدتنا، ونتفاعل به مع الواقع فكراً وممارسة.
ولا يفوتنا أن نشير أننا لا نؤسس عبر هذه الأسس عقيدة جديدة ولا تصورا مقطوع الجذور، وإنما هو رصد لمنهج التقى عليه أبناء هذه الحركة، ينطلق من كناب الله العزيز، ويسترشد بالفكر الإسلامي عبر مساره الطويل.
ونحن نقدر أن هذه الأسس العقائدية والأصولية، حقيقة بأن تستنهض همم الكافة للتفاعل معها بكل رشد وإيجابية، وللتعامل من خلالها معنا ككيان واضح الأسس محدد المعالم.
وتضم هذه الأسس محورين رئيسيين:
- محور عقائدي
- محور أصولي منهجي
المحور العقائدي
تتبوأ العقيدة مكانة مركزية ضمن النسق الإسلامي العام، فهي الأساس الذي تنساب منه بقية التصورات والأفكار والأحكام، وعليه كلما صحت العقيدة وسلمت من الشذوذ والانحراف، كلما استقامت صور الحياة واندفعت نحو الأفضل والأكمل.
ولـمّا كان للعقيدة مثل هذا الدور في حياة الإنسان وصلاح الكون، اقتضى ذلك انبناؤها على اليقين الذي لا يرتقي إليه احتمال، ولا يداخله ظن.
وإن عقيدتنا لتستقي أركانها من القرآن الكريم والسنة المتواترة، وتستقي فروعها من ظواهر الكتاب المعضدة بما صح من أحاديث نبوية مجتمعة.
وأركان العقيدة ستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. وقد ورد ذكرها جميعاً في آيات محكمات. قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" [البقرة 285 ] وقال أيضا: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [ التوبة 51]
1- الإيمان بالله تعالى
إن عقيدة المسلم تقتضي الإيمان والتصديق الجازم بوجود الله، كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك، وهو اطمئنان القلب وسكون النفس إلى ذلك بحيث لا يبقى في القلب أدنى مرض وظلمة، ولا في العقل أقل شبهة أو ريبة في وجود الله جل جلاله، فلو ضل الناس جميعا عن الإيمان به، ثبت هو على ذلك الإيمان.
والإيمان بأن الله واحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر، عليم حكيم عادل حي قادر سميع بصير، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، وأنه خالق كل شيء ومدبر أمره: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" [ الأعراف 54 ] وأن وجوده مباين تمام المباينة للوجود الكوني ذاتا ووضعا.
ونؤمن أن له ذاتا سبحانه، وصفات لذاته، وهو المتصف بكل صفات الكمال، والمنزه عن كل صفات النقص: "فاطر السماوات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [ الشورى 11]
وهو الغني عن الشريك في الذات والصفات، وأن الوحدانية من أخص خصائص الألوهية والربوبية المطلقة. ونؤمن بما وصف به نفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو المنزه عن المشابهة بخلقه، وعليه فإن ألفاظ النصوص المفيدة للتشبيه لا تفهم على ظواهرها، بل نضعها في إطار التنزيه المطلق. ونؤمن بأنه المتفرد بالحاكمية المطلقة وبالعبادة له دون سواه: "والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب" [الرعد 41 ] "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" [التوبة 31 ]
2- الإيمان بالملائكة
إلى جانب إيماننا بعالم الشهادة فإننا نؤمن بعالم الغيب، والملائكة أحد عناصر هذا العالم، كما أخبر بذلك القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، وهم مخلوقات غيبية من نور محضهم الله تعالى للخير والعبادة وتنفيذ أمره القاهر.
وأن الإيمان بالملائكة ليحي في النفس البشرية من المعاني ما يجعلها تستوحي أكثر فأكثر صور الخير والرحمة والعدل أثناء سعيها إلى الاكتمال والقيام بأعباء الأمانة، كما يزكي شعور الأنس والاطمئنان أثناء مجاهدة قوى الشر المختلفة.
3- الإيمان بالكتب
إن إيماننا بالله يقتضي الإيمان بأنه سبحانه قد أنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام، كتباً مقدسة لهداية الناس والتشريع لهم، وإن ما بقي منها اليوم بين أيدي أهل الكتاب هي كتب حرفها المفسدون منهم، فلا تعتمد لاختلاط الحق بالباطل فيها، وأن القرآن الكريم جاء مهيمنا عليها وملغيا لاعتبارها، فكان هدى خاتما وحجة قائمة على الناس كافة إلى قيام الساعة.
والقرآن هو كلام الله الأزلي الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظه العربية ومعانيه الحقيقية من الله عز وجل، وهو مصدر هذه الشريعة الأول ومرجع كل أدلتها، والأصل الذي يتفرع عنه كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ينبوع الحكمة وآية الرسالة.
وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف والتزييف “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [ الحجر 9]
4- الإيمان بالرسل
وهو الاعتقاد الجازم بأن الله ـ رأفة بعباده ورحمة بهم ـ قد بعث في كل أمة منهم رسولا، وهم بشر اصطفاهم المولى سبحانه من بين عباده، وخصهم بالوحي، وعصمهم دون سائر الناس من النقائص، وحفهم بالرعاية والعناية الربانية.
والوحي هو تلقي نبأ مقطوع بمصدره الإلهي بغير السنن والطرق المعهودة عند البشر، وإننا نؤمن بجميع رسل الله الذين ورد ذكرهم في القرآن أو لم يرد، دون تفريق بينهم، فنشهد لهم جميعا بالرفعة والعصمة والأمانة والصدق والتبليغ، وإن كنا نقر تفاوت منازلهم عند الله تعالى.
مرتبة الطلب، فلا يقبل عمل إذا لم يكن وراءه هذه العقيدة كدافع للعمل وواقع حسبما تقتضيه هذه العقيدة. فإن اختلت العقيدة أو فسدت أو كانت باطلة أو لم تتضمن أصولها كان العمل فاسدا أو غير مقبول، وبقدر رسوخ معالم العقيدة وأصولها في النفس يكون العمل ثقيلا في ميزان الحساب.
وعليه، فإننا لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وتوابعها مما سبق ذكره، وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض برأي أو معصية، إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
إن العقيدة في التصور الإسلامي ليست مجرد معرفة تجريدية طبيعتها التأبي عن معالجة الواقع وبحث قضاياه، بل هي نظام كامل متناسق في حياه الإنسان والكون، وهي توحيد الطاقات والقوى والميولات والنوازع في اتجاه الخير والعدل والحق، ولها صور عملية واقعية وأبعاد في حياة الفرد والمجتمع.
وأن النسق العقائدي يستمد موازينه وقيمه ومفاهيمه من إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والعبادة والسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه، ويقدم للإنسان رؤية متكاملة ينظر بها إلى الكون والحياة ونهجا شاملا في تصرف الإنسان، سواء في سياسة نفسه فرداً أو مجتمعاً أو في تعامله مع الكون أو في صلته بخالقه، وبذلك يكون التوحيد في التصور الإسلامي هو مسار للطبيعة وكائناتها، وغاية لإبداع الكون، وهدى للحياة، ووسيلة لبناء الحضارة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس نظرية ذهنية أو لفظ يتردد على الألسن من دون محتوى أو منهج يحدد العلاقات الكونية والاجتماعية: "ولقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان" [الحديد 25 ]
وعلى هذا الأساس من التوحيد، فنحن لا نفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لا نفرق بينهما بوصفها من مقتضيات توحيد الله وإفراده سبحانه بالألوهية والحاكمية، ولا نفرق بينهما لأن الانحراف عن أي منهما يخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا.
وبذلك، فالتصور الإسلامي يعلن تحرير الإنسان من نوازع الهبوط والارتكاس وظلمات الشرك والجهل والخرافة والخوف، ويعلن تحرير العلاقات الاجتماعية من كل ألوان التسلط ومهاوي الهلاك والسقوط في المظالم ومحق الكرامة الإنسانية "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" [ الأعراف 157 ]
ويقوم التوحيد في فهمنا، على دفع الإنسان إلى منطقة الفعالية والتأثير واقتحام الكون ثقة واطمئنانا، لمنع أي ضرب من ضروب الظلم والاستغلال والتفكك المعيقة لدور الإنسان في الخلافة والعمارة: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة 29]
إن العقيدة الإسلامية في فهمنا تقضي على كل العوائق القائمة على تجميد طاقات الإنسان وإهدار إمكانياته وكرامته، وتركز معاني المسؤولية للنهوض بأعباء الأمانة في ممارسة دور الخلافة عبادة لله، وبذلك يجسد الإنسان ضمن هذا التصور معاني الاستخلاف والاقتراب من الله والكدح المستمر: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" [ الانشقاق6 ]
وهذا التجسيد للاستخلاف يبدأ بتحرير النفس من آثار العبودية لغير الله تعالى، والثورة العامة على عوامل الخوف والسلبية، ويدعو إلى الجهاد في سبيل إحلال العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة على أساس قيم الحرية والخير والعدل.
وإن حملة التوحيد وهم يقدمون للبشرية هذا التصور الجديد، يقيمون معه منهجا كاملا للحياة، يقوم على تكريم الإنسان وعلى إطلاق يديه وعقله وضميره وروحه من كل عبودية، وعلى إطلاق كل طاقاته لينهض بالخلافة عن الله في الأرض، عزيزا كريما كما أراده خالقه، وفي نهوضه بالخلافة وهو حر كريم يملك أن يقدم إضافة حضارية وهو في أوج حريته وفي أوج كرامته وعزته، حتى تتخلص الإنسانية من الضياع والتيه عبر بناء صرح الأمة الإسلامية الموحدة، وإقامة دولة الحق والحرية والقوة والعدل، التي تأخذ بيد الإنسانية نحو طريق العبودية لله وحده، وتنصر المستضعفين في الأرض.
المحور الأصولي المنهجي
إن قضية العقل والنص يجب أن توضع في سياق التأصيل المنهجي والعقدي والمعرفي، حتى لا تطرح ببساطة وانبتات. فهذه المسألة فرع من تصور عقدي شامل يتعلق بمنظومة متكاملة، وإذا كان الهدف من دراسة هذه القضية ومن معالجة العلاقة بين العقل والوحي هو تحديد ما لكل منهما من دور في إنجاز مهمة الإنسان في الوجود، فإن السياق يقتضي أن تطرح هذه القضية ضمن تأصيل عقائدي.
منزلة الإنسان في العقيدة الإسلامية
تفسر العقيدة الإسلامية الوجود على أنه يشمل طرفين: الأول هو الله جل جلاله والثاني ما سواه من عناصر الكون جميعا.
والإنسان كائن ينتمي إلى الوجود العالمي ضمن الطرف الثاني، ولذلك فهو يشترك مع سائر المخلوقات في مظاهر واحدة مثل الاشتراك في المأتى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو" [ غافر 62 ]
والاشتراك في المصير: "ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير" [ المائدة 18]. والاشتراك في بعض عناصر التكوين "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع" [ النور 45]
غير أن الإنسان في وحدته مع عناصر الكون، يمتاز عليها بالرفعة في مظهرين هما: التكريم والتسخير. وقد ظهر تكريم الإنسان في أول لحظة من وجوده بسجود الملائكة له ـ وهي أشرف المخلوقات ـ مؤذنا بتراجع ما دونها. وبتكوينه من عنصرين أساسيين لم يستجمعهما أي مخلوق آخر، هما: العنصر الترابي المادي والعنصر الروحي العقلي وهو ميزة الإنسان على غيره، إذ من آثاره:
-القدرة على استيعاب العالم الخارجي استيعابا معرفيا يسهل له الإشراف عليه "وعلم آدم الأسماء كلها" [البقرة 31ـ] وذلك بما يجمع الإنسان في تكوينه من عنصري المادة والروح الذين تفرقا في الكون.
-حرية الإرادة والاختيار، فقد خلق الإنسان مزودا بملكات واستعدادات يميز بها بين الحق والباطل في العقائد، وبين الخير والشر في الأفعال، وبين الصدق والكذب في الأقوال: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" [ الإنسان 3] "وهديناه النجدين" [البلد 10 ]
وقد يسر الله عز وجل للإنسان سبل ذلك التمييز بما أرسل به رسله من بينات لقوم الناس بالقسط، ويتبع هذه الحرية مسؤولية في تحمل تبعات الأعمال: "كل نفس بما كسبت رهينة" [ المدثر 18]. فيكون الحساب في اليوم الآخر حسب تلك الأعمال وهو مقتضى العدل الإلهي الذي وسع كل شيء.
ومن شأن إدراك هذه المسؤولية والإيمان بما يتبعها من ثواب وعقاب، أن يجعل لحياة الإنسان غاية سامية هي التعلق بالخير وفعله ونبذ الشر وتركه وتحقيق خلافة الإنسان على الأرض.
ويظهر تميز الإنسان في هذا الوجود تميز رفعة عن بقية عناصر الكون في تسخيرها له بما يخول له توظيفها في مصلحته وفق منهج الخلافة في الأرض: "ويسر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" [الجاثية 13]
ويبدو هذا التسخير فيما صنع عليه من هيئة تتلاءم مع المهمة التي أنيطت بعهدة الإنسان وهي مهمة الخلافة، ونحن إذ نؤكد على هذه المعاني العقائدية إنما نبرز أبعادها الأخلاقية على سلوك الإنسانية، إذ يؤدي الاعتقاد بوحدة الإنسان والكون إلى تحقيق الشعور منه وينفي مشاعر الخوف والعداء له، ويؤدي شعور الرفعة بالتكريم والتسخير إلى اقتحام الكون واستثمار موارده: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [ الملك 15]
كل ذلك يعتبر إطارا مساعدا لأداء الإنسان وظيفته كما ارتضاها له خالقه سبحانه وتعالى، وهي الخلافة في الأرض، على معنى أن يكون خليفة في الكون ينجز تعاليمه بما يؤدي إلى تحقيق مصالحه التي يستجمعها ترقيه فردا ومجتمعا، عبر التفاعل مع الكون وعمارة الأرض، وفيما جاء في آية الخلق: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [ البقرة 30]. من تسمية الإنسان بهذه الوظيفة دلالة على محورية هذه الوظيفة للوجود الإنساني ومنهج تحقيق هذه الخلافة وهو العبادة: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [ الذاريات 56] وهذا المدلول للعبادة يندرج فيه كل السلوك الإنساني فهو عبادة إذا كان مستجيبا للأمر الإلهي.
وبهذا المعنى للعبادة يتوجه الإنسان إلى الله بكل خاطرة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل سعي في الحياة، توجها خالصا متجردا من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى الخضوع لله.
وبهذا التوجه يتحقق معنى العبادة، فيصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، وهذا كله تتضمنه وظيفة الخلافة التي تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض.
إن أداء هذه المهمة الوجودية كما رسمتها العقيدة الإسلامية يضفي على الوجود الإنساني قيمة عظيمة تتحقق بها العزة والكرامة، لأنها مهمة بعيدة الهدف، مما يجعل الإنسان وهو يسعى إلى تحقيق ذلك الهدف البعيد "مرضاة الله بتحقيق أوامره في ترقية الذات وعمارة الأرض" يستصغر كل الأهداف الصغيرة التي من شأنها أن تبدد جهده وتعطل من سعيه إلى الكمال.. وقد جاءت الرسالات السماوية بواسطة الرسل الكرام عليهم السلام تتابع الواقع الإنساني في تطوراته وتقلباته، لترشيد الإنسان إلى هذه الوظيفة ومنهج تحقيقها ثم جاءت النبوة الخاتمة تحدد المنهاج النهائي للخلافة، ليكون الموجه الأبدي للإنسان، فيما ينبغي أن يعتقد من حقيقة الوجود وفيما ينبغي أن يسلك في تصريف الحياة.
وقد زود الله هذا الإنسان بالعقل وجعله أساسا للتكليف بالخلافة لما ركب فيه من قدرة على إدراك الحق وتحمل الأمانة.
فكيف يكون تعامل العقل مع الوحي في سبيل استجلاء مضمون المنهج الخلافي أولا، وفي سبيل تنزيه في الواقع ثانيا؟
الوحي والعقل
لقد انتظمت أنظار الفكر الإسلامي في هذه القضية في قطبين:
قطب نصي:
اعتبر المنتمون إليه أن تعاليم الوحي هي المحدد الوحيد في كل الأزمان للمنهج الخلافي، دون أن يكون للعقل سوى دور التنزيل المباشر لظواهر النصوص، وقد ترددت هذه الوجهة بين درجات من الحرفية المتفاوتة، مثلتها الحشوية والظاهرية ونفاة القياس.
قطب عقلي: قام على الـتأويل والمقاصد، وترددت هذه الوجهة بين إهدار الدلالة اللغوية وبين القول بالظرفية الزمنية للأحكام النصية، وقد مثلها الباطنية وغلاة المؤوّلة.
وانتهى الأمر في القضية إلى اختزال لدور العقل إلى ما يقارب الإلغاء، واختزال لدور الوحي إلى ما يقارب الإهدار
ولمعالجة هذه المسألة ينبغي التعرض لحقيقة وخصائص كل من الوحي والعقل:
1- حقيقة الوحي وخصائصه
الوحي "السمع أو النقل أو النص" هو جملة التعاليم الهادية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا إياها عن ربه، ومنضبطة في النص القرآني ونصوص الحديث الشريف: "قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون" [ الأنباء 45] وللوحي خصائص منها:
إن مصدر الوحي هو الله ولا مدخل لذات النبي فيه، فالقرآن إلهي المصدر لفظا ومعنى، والحديث القدسي إلهي المصدر في معناه دون لفظه، كما أن الحديث الشريف لا يخرج عن كونه وحيا لقوله تعالى "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" [ النجم 4]
خطاب الوحي كلي عام للناس كافة إلا ما جاء دليل بتخصيصه، ذلك لأن الإسلام جاء يخاطب كل البشر: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" [ سبأ 28]
خطاب الوحي شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" [ النحل 89] حقائق الوحي مطلقة، لأنها صادرة عن علم إلهي مطلق بما ينبغي أن يكون في حياة الإنسان، ولذلك فهي غير خاضعة للتعقيب الإنساني في ذاتها، سوى العمل العقلي لاستجلاء أحكام الوحي: "والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب"
حقائق الوحي لا تنافي حقائق العقل ومبادئه وإنما هي جارية على مقتضاها، لأن مناط التكليف هو العقل، وإذا افتقد العقل ارتفع التكليف أصلا..
أحكام الوحي راجعة غالبا إلى الحكم على أجناس الأفعال، كحلية البيع وحرمة الربا، وبالنظر العقلي الخالص يتم إلحاق أفراد الأفعال بأجناسها حسب الزمان والمكان.
إن الوحي إذا كان في مجالي العقيدة والعبادة فإنه يحدد مبادئ وأحكاما تفصيلية نهائية لا مجال لتغييرها عملا بالقاعدة الأصولية: لا يعبد الله إلا بما شرع، وإذا كان الوحي في مجال التشريع الاجتماعي والسياسي، "أو ما يسمى فقه المعاملات" فإنه عدا بعض الاستثناءات المحددة ـ يكتفي بوضع أصول كلية ورسم قواعد عامة تفتح أمام العقل البشري مجالا متسعا يمكنه من الاجتهاد في استنباط ما لا نهاية له من التطبيقات العملية لتلك الأصول، وتحويلها إلى تشريعات تفصيلية متصلة بواقع الحياة تمسح كامل جوانبه، ومتلائمة مع مستلزمات كل تطور يمر به المجتمع والإنسانية عامة.
فالوحي لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة بوصفها علاجا موقوتا أوتنظيما مرحليا يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، ولكن يقدمها دائما باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، والقادرة على التكيف وفقا لظروف مختلفة.
وعلى هذا الأساس ترك الوحي منطقة فراغ في الصورة التشريعية التي نظم بها الحياة، لتعكس العنصر المتحرك وتواكب تطور العلاقات وتدرأ الأخطار التي تنجم عن هذا التطور المتنامي على مر الزمن. إن منطقة الفراغ تعبر عن قدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الوحي لم يترك منطقة الفراغ هذه بالشكل الذي يعني نقصا أو إهمالا، وإنما حدد للمنطقة أحكاما تمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء المجتهدين صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية بحسب الظروف لملء ذلك الفراغ.
يشتمل الوحي على نصوص قطعية الدلالة، لا تحتمل إلا معنى واحداً ونصوصا ظنية الدلالة يتردد معناها بين وجوه محتملة تتسع لها أساليب العرب في القول كالتردد بين الحقيقة والمجاز، وبين الإطلاق والتقييد، وبين العموم والخصوص.
كما يشمل نصوصا قطعية الورود وهي القرآن والحديث المتواتر، ونصوصا ظنية الورود وهي أحاديث الآحاد..
2 - حقيقة العقل وخصائصه
العقل وسيلة إنسانية للإدراك والتمييز والحكم، فهو قوة إدراكية معيارية حمل على أساسها الإنسان أمانة الخلافة وخوطب على أساسها بالوحي ليتحمله فهما وتطبيقا. ومن خصائص العقل:
أنه وسيلة بوسعها إدراك الحقيقة إذا التزمت بالموضوع والمنهج، وقد جعل الله إهماله موجبا للوم والتقريع "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" [ الملك 15]
إن له دورا هاما في إثبات قضايا العقيدة بالنظر في الآيات الكونية، ودورا هاما أيضا في استيعاب الوحي المجرد من جهة، وتفريغ ما تركه للتفصيل بحسب المتقلبات المستمرة في الحياة من جهة أخرى، والنظر في منهج تطبيق هذا أو ذلك على الواقع الإنساني من جهة ثالثة.
إنه لا يصل إلى الحقيقة مباشرة، وإنما يسلك طريقا أساسها النظر أو الفكر. وهذا الطريق يتصف بالمرحلية والتدرج والترابط، فهو طريق المقايسة والموازنة والانتقال بين المقدمات للوصول إلى النتائج.
وفي هذه المراحل من الأخطار ما يهدد بإعاقة العقل عن إصابة الحق، فالإنسان خلق عجولا مما قد يعرضه لتعجل المراحل في النظر العقلي، وركب على نزعات من الهوى قد تشوش عليه ترتيب تلك المراحل، كما أنه اكتسب في خضم حياته الانشداد إلى موروث الواقع والعادة مما قد يؤدي به إلى الغفلة عن مراحل النظر. إن العقل الإنساني محكوم بظروف المادة زمانيا ومكانيا، لأنه يعتمد معطيات الحس، وهذه المعطيات لا تمكن من إصابة الحق المطلق في تقدير ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الإنسانية فعلا وتركا، وغاية ما في الأمر أنها تمكن العقل من الإدراك النسبي للحق والخير.
3 - تحديد قيمة الأفعال الإنسانية بين الوحي والعقل
تنطوي الأفعال الإنسانية على أوصاف تقويمية لها ذاتية فيها غير مضفاة عليها من خارجها، وإن نفي هذه القيمة يؤدي إلى حرج عقلي وحرج ديني عظيمين، إذ العقل يأبى دعوى التناقض في قيمة الشيء الواحد، والشرع يأبى التسوية بين المتناقضين كالسجود لله والسجود للطاغوت.
إن القيمة الذاتية للأفعال الإنسانية تندرج ضمن ما ركب الله عز وجل عليه الكون من سنن وعلل وأسباب، فهذه القيمة ليست مستقلة عن ذلك التدبير الإلهي.
الوحي هو المصدر الأول الذي يكشف عن تلك القيمة ويخبر عنها ويقدر الأفعال على أساسها، ذلك أن الله هو صاحب العلم المطلق بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، فهو أعلم بما ينطوي عليه كل فعل من خير للإنسان أو شر.
خلق الله في الإنسان عقلا وهيأه لأن يكون على قدرة للكشف عن قيم الأفعال وتقديرها، وهذا بدليل جعله مناطا للتكليف، كما أن الشرع لم يتكلم في كثير من تفصيلات ما يصل إليه العقل، وهذا ما يعطي للعقل دور تتبع المستجدات من أفعال الإنسان وتقويمها على ضوء روح الشريعة ومقاصدها.
للعقل حدود في تقدير الأفعال الإنسانية، إذ أنه يتحرك في معطيات الزمان والمكان المحدودة، فإذا كان دور الوحي الإخبار بقيم الأفعال، فإن دور العقل استيعاب ذلك الخبر وتمثل التقدير الشرعي. والحقيقة العلمية الثابتة لا تصطدم بحقيقة شرعية ثابتة، ويأول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
وإذا لم يرد الوحي بتقدير بعض الأفعال فإن للعقل أن يقدرها وذلك على ضوء روح الشريعة ومقاصد المصلحة العامة، وما مشروعية الاجتهاد إلا إقرار بهذا الدور للعقل.
منهج التعامل مع الوحي فهما وتطبيقا
إن "حركة الاتجاه الإسلامي"، انطلاقا من التزامها بمبادئ الإسلام في عملية إحداث التغيير الاجتماعي الشامل، تعتمد في إطار تعاملها مع نصوص الوحي من الأصول والقواعد ما يلبي احتياجات الحياة المتجددة، تحقيقا لمصلحة الإنسان دون إهدار أو تعطيل لنصوص الكتاب والسنة، ودون إلغاء لدور العقل في فهمها وتنزيلها في واقع الحياة. هذا المنهج ذو مرحلتين: مرحلة الفهم، ومرحلة التطبيق الواقعي.
1 - منهج فهم الوحي
إن موضوع مرحلة الفهم هو البحث عن مراد الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه في نصوص الوحي، وهذا البحث يعتمد أسسا تهدي إلى الفهم ويؤدي إهمالها إلى التعسف على تلك النصوص.
أولا: الأساس اللغوي
نفهم نصوص الوحي طبقا لمنطق اللغة العربية وقواعدها وأساليب استعمالها وصيغ تراكيبها في البيان وقت التنزيل، ويجب في ذلك الاعتماد على حقائق الألفاظ والتأكد من حدود المعاني المقصودة بها والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء.
ثانيا: الأسس المقاصدي
ونفهم نصوص الوحي على أساس المقاصد الشرعية وهي المعاني والحكم والغايات التي وردت في التشريع، سواء نص عليها الشارع في الوحي أو أشار إليها، أو ما استقرئ من مجموع تصرفات الشريعة في أدلتها وعللها وأحكامها.
وهذه المقاصد تتعلق بالإنسان وترجع في عمومها إلى تحقيق مصلحته الشاملة وضمان سعادته في الدنيا والآخرة، ومن المهم أن نلاحظ أن هذه المقاصد ليست بمعان خارجة عن نصوص الوحي حتى نطلب إدراكها من جهة غير جهة تلك النصوص. ومقاصد الشريعة تنقسم بحسب اعتبارات ثلاثة:
فهي بحسب اعتبار أثرها في قوام أمر الأمة ثلاث أقسام: مصالح ضرورية ومصالح حاجية ومصالح تحسينية. وهي بحسب اعتبار تحقق الاحتياج إليها فعلا في قوام أمر الأمة أو الأفراد: مصالح قطعية ثابتة ومصالح ظنية ومصالح وهمية باطلة.
وهي بحسب تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها وأفرادها: مصالح كلية.. مصالح جزئية. وتقدير الصلاح والفساد راجع إلى الشريعة نفسها، فالمصلحة في الشريعة الإسلامية ليست متروكة للاضطراب واعتماد الأمزجة والأهواء في تقديرها.
وللمصلحة ضوابط في كشفها وتحديدها وهي:
- اندراجها في مقاصد الشريعة.
- عدم معارضتها للكتاب العزيز.
- عدم معارضتها للسنة الشريفة.
- عدم معارضتها للقياس.
- عدم تفويتها مصلحة أهم منها.
ثالثا: الأساس الظرفي
ونفهم نصوص الوحي قرآنا وسنة على أساس معرفة ما صح من مناسبات النزول التي تحمل من مقتضيات الأحوال ومن القرائن ما يكون ضروريا في فهم المراد من النصوص، وقد تؤدي الغفلة عن ذلك إلى صرف المعنى إلى غير محله، كأن يصرف حكم في المؤمنين وقد نزل في الكفار أو العكس.
رابعا: الأساس التكاملي
ونفهم نصوص الوحي على أساس التكامل بين أحكام الشريعة، فالتناقض فيها محال، كما نراعي في ذلك توقف بعض النصوص على بعض في تبين المراد الإلهي منها، فرب آية قرآنية ناسخة لحكم آية أخرى، ورب آية يفهم منها حكم عام وقد وقع تخصيصه في آية لاحقة.
خامسا: الأساس العقلي
ونفهم نصوص الوحي على أساس ما توصل إليه العقل الإنساني من معارف وحقائق علمية، إذ أن النص قطعي الثبوت والدلالة لا يناقض الحقيقة العلمية الثابتة، فإذا كان في النص احتمال لأكثر من معنى وجاءت الحقيقة العلمية ترجح إحدى الاحتمالات، تعين في هذه الحالة فهم النص بما وافقها.
وبناء على هذه الأسس نجتهد في فهم المراد الإلهي، غير أن هذا الاجتهاد في الفهم يتنوع باختلاف النص ذاته، من حيث ثبوته ودلالته، قطعية كانت أم ظنية.
فالنصوص القطعية وروداً ودلالة ينحصر عمل العقل في فهمها في إدراك المعاني التي تدل عليها واستيعابها وتمثلها كتمثل الحدود والكفارات.
والنصوص الظنية إما أن تكون ظنية من حيث الدلالة بحث يمكن أن يفهم منها أكثر من وجه واحد من وجوه المعاني، كالمشترك من الآيات القرآنية مثلا، أن تكون ظنية الثبوت بحصول تردد في نسبتها إلى مصدر الوحي كبعض الأحاديث النبوية.
فإذا كان الحديث ظني الثبوت، كان من عمل العقل التحقق من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بطرق من النقد معروفة في علم الحديث سندا ومتنا.
وإذا كان النص ظني الدلالة كان عمل العقل متحققا في الاجتهاد في مختلف الاحتمالات التي هي مظنة أن تكون مرادا إلهيا لترجيح إحداها بقرينة معتبرة شرعا.
وإذا كان سبب الظنية في دلالة النص غموض وإبهام به، فإن التأويل هو طريق الخروج منه بصرف المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي، غير أننا نقيد التأويل بشروط تحفظ من الزيغ، إذ كثيرا ما يكون التأويل مدخلا إلى التحلل من بعض التزامات الشريعة، وأهم هذه الشروط:
- أن يكون التأويل في مجال النصوص ظنية الدلالة.
- أن يقوم على دليل قوي يبرره.
- أن يكون في اللغة ما يسعه منطوقا أو مفهوما أو مجازا.
- أن لا يتعارض مع نص قطعي أو أصل شرعي
ومن المهم أن نتساءل في هذا الصدد عن القيد الزمني لهذه الأفهام العقلية، فهل هي أفهام مطلقة عن الزمن على معنى أنها مستمرة فيما بين السابق واللاحق على نفس الوضع دون أن يصيبها تغيير بتغير الزمن؟ أم أنها أفهام تنالها قيود الزمن على معنى أن كل جيل من الناس بحسب تغاير الزمان والمكان له أن ينشئ أفهاماً قد تخالف السابقين وتكون هي بدورها عرضة لأن تخالفها أفهام اللاحقين؟
إن الأفهام العقلية لنصوص الوحي تنقسم في هذا الخصوص إلى نوعين: أفهام قد ينالها التغيير بتغير الزمن، وأفهام ثابتة على مر الزمن لا يمكن أن ينالها التغيير بين السابق واللاحق.
- فالأفهام القابلة للتغيير: هي تلك الأفهام التي نشأت من النظر في نصوص ظنية في ثبوتها أو دلالتها ما لم يرد فيها إجماع من الصحابة، إذ قد تكون الأدلة والقرائن التي انبنت عليها تلك الأفهام محل نظر جديد بناء على معطيات جديدة يتفطن إليها العقل أو تكشفها حقائق العلم، فيؤدي هذا النظر إلى العدول عن أدلة الترجيح وقرائنه القديمة إلى أدلة وقرائن أخرى ترجح احتمالا آخر، فينشأ فهم جديد.
- وأما الأفهام التي تتصف بالإطلاق الزمني فهي على ضربين: الأفهام الناشئة من النظر في نصوص ظنية ولكنها حظيت بإجماع الصحابة عليها، فهذا الإجماع من الصحابة يسبغ على فهم النص الظني ديمومة زمنية، ولذلك كان الإجماع أصلا من أصول التشريع عند سائر المسلمين، على معنى أن الفهم الذي يحصل عليه الإجماع يصير أصلا ثابتا تبنى عليه الأحكام. وفي المسألة خلاف في الاعتبار بين إجماع الصحابة وإجماع المجتهدين.
الأفهام الناشئة من النظر في النصوص القطعية، فهذه النصوص لما كانت الدلالة فيها منحصرة في وجه واحد من المعاني، كان الفهم فيها منحصرا في ذلك الوجه دون أن يناله التغيير على مر الزمان. فهذه الأفهام الثابتة لا تتعرض للتغيير بحسب الأزمان، ونحن لا نفرق بين مقاصد الوحي وبين الأساليب التي جاء الوحي للأمر بتحقيقها في حياة الإنسان، ونحن نتمسك بالمسالك والأساليب واتباع الوسائل المحددة في النصوص، فلا يمكن الفصل إذا بين المقاصد الشرعية وبين الأساليب والأشكال، على معنى أنها لا تتحقق إلا بتلك الأساليب المنصوص عليها.
ونحن نؤمن بعمومية الخطاب التشريعي ولا نرى اختصاص النص بظروف نزوله وأسبابه، فمنهاج الخلافة الذي جاءت نصوص الوحي تحدد مسالكه، لم يكلف به قوم دون قوم، ولا أهل زمن دون أهل زمن آخر، فإن عمومية الخطاب بالوحي تقتضي أن يتعامل المكلفون به في كل زمن مع مقتضيات اللسان العربي الذي جاء في ضبط التكاليف بما يفيد العموم إلزاما للإنسان مطلقا عن الزمان والمكان، ولا يقوم دليل قط ـ لا عقلي ولا نصي ـ على أن هذه النصوص يخص بالتكليف من تعلقت به ظروف نزولها دون غيرها، إلا أن تكون حالات معدودة ورد فيها تنصيص جلي على التخصيص. لذلك ورد إجماع الأصوليين على القوم بأن العبرة في الخطاب بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ونحن نرى أن الأوضاع السائدة بقيمها ومفاهيمها لا تحدد أوجه الفهم في النصوص القطعية "كالتعدد في الزواج ـ الحدود ـ منع الربا الخ"، فلا يتأسس عندنا الفهم العقلي على معطيات الواقع الإنساني فحسب. ونحن نعتبر الاجتهاد في الفهم مفتوحا بابه وليس قصرا على جيل دون جيل ولا زمن دون آخر إذا توفرت شروط الاجتهاد. وليس معنى الاجتهاد أن نهمل الفقه الموروث أو نحط من قيمته، وإنما المقصود من ذلك أن نعيد النظر في تراثنا الفقهي العظيم بمختلف مدارسه ومذاهبه وأقواله المعتبرة في شتى العصور لاختيار أرجح الأقوال فيها وأليقها بتحقيق مقاصد الشريعة وإقامة مصالح الأمة في عصرنا في ضوء ما جد من ظروف وأوضاع.
كما أننا نعني بالاجتهاد العودة إلى المنابع الأصلية وهي نصوص الوحي الثابتة والتفقه فيها على ضوء المقاصد العامة للشريعة، كما نعني بالاجتهاد أيضا استنباط الأحكام المناسبة في ضوء الأدلة الشرعية للمسائل والأوضاع الجديدة التي لم يعرفها فقهاؤنا الماضون.
وأما على مستوى الاستدلال وهو طلب الدليل الشرعي للتوصل بالنظر الصحيح إلى الحكم الشرعي، فنحن نقول إن أدلة الأحكام بمعنى أصول التشريع ومصادره ليست كلها في مرتبة واحدة، بل هي متفاوتة المراتب في الاستدلال بها. فالأدلة نوعان:
أدلة أصلية:
وهي القرآن والسنة: ولا تتوقف دلالتهما على الأحكام على دليل آراء. والدليل الأول هو الكتاب أو القرآن، وهو كلام الله تعالى الذي نزل به جبريل الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم باللفظ العربي المنقول إلينا بالتواتر المكتوب بالمصاحف المتعبد بتلاوتها، المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس.
فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع، ويجب العمل بما ورد فيه والرجوع إليه لمعرفة حكم الله تعالى، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره من مصادر التشريع إلا إذا لم يقف العالم على الحكم في القرآن الكريم، فهو أساس الشريعة الإسلامية وأصلها ومعتمدها في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، وإنه المرجع الأول في كل ذلك، وإنه المحتكم إليه عند الاختلاف.
والدليل الثاني هو السنة المطهرة، وهي ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فالسنة الصحيحة الثابتة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد التشريع حجة على المسلمين وهي حجة كاملة في ثبوت الأحكام، وهي مصدر تشريعي مستقل تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم.
أدلة ثابتة:
وتتوقف دلالتها واعتبارها على سند شرعي، وأهمها الإجماع والقياس، وقد زاد أصوليون أنواعا أخرى مختلف فيها بين الأئمة كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب وغيرها. ومع هذا الاختلاف في العد والاعتبار، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، فهما المصدران الأساسيان اللذان تراجع إليهما كل المصادر الأخرى، وأن كل نزاع أو خلاف فمرده إليهما، بل إن كتاب الله هو أصل الأصول ومصدر المصادر وهو الحكم في كل شيء. ثم يجيء بعد الكتاب والسنة.. الإجماع، إن تحقق ونقل نقلا صحيحا، ثم الرأي والاجتهاد الذي يتنوع إلى أنواع.
2 - منهج تطبيق الوحي
ونحن إذ نؤكد على أهمية مرحلة الفهم التي تصل أحكام الوحي بالعقل تصورا واستيعابا للمراد الإلهي، فإننا نعتبرها مرحلة أساسية تمهد لمرحلة التطبيق التي تصل الأحكام بالواقع الإنساني بغاية الانسجام بينهما، ذلك أن الوحي لم ينزل لمجرد الاستيعاب والتمثل في العقل فحسب، وإنما نزل بغاية إجراء أفعال الإنسان على أحكامه بما يحقق مصلحته الشاملة.
وهذه الغاية تتحقق بالتزام منهج في تطبيق أحكام الوحي على الواقع يحقق صلاح نظم الشريعة لكل زمان ومكان. ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدة، وإنما أتت بأمور كلية وأحكام عامة تتناول أعدادا لا تنحصر من الأعمال في الواقع، لذلك وجب الاجتهاد في إلحاق الأفعال وجزئياتها بأجناسها كحركة الربا والظلم ووجوب الشورى والعدل.
ونحن نقدر هذا العمل الاجتهادي حق قدره، إذ أن تطبيق أحكام الوحي تطبيقا آليا بدون وعي بمقاصدها وطبيعة الواقع المنزلة فيه قد يؤدي إلى فوات مصلحة أو إلحاق ضرر بالناس من حيث قصد الشارع تحقيق النفع لهم، ولذلك فإننا نقيم منهج تطبيق الوحي على أساسين رئيسيين هما: العلم بعلل الأحكام، والعلم بالواقع المنزلة عليه الأحكام.
أ ـ العلم بعلل الأحكام:
إننا كما نفهم نصوص الوحي على أساس مقاصدها فإننا نتقصى علل الأحكام في التطبيق، ذلك أن هذه العلل هي مقاصد قريبة تنتهي إلى تحقيق المقصد العام، والعلة هي وصف مناسب لظاهرة منضبطة أناط الشارع به الحكم، والأحكام تناط بعللها وتدور معها وجودا وعدما، وهذه العلل يجتهد العقل في ترتيبها وتنقيحها وتحقيقها، فمنها ما هو واضح تنصيصا أو إشارة بالوحي، ومنها ما يستلزم البحث والتقصي على ضوء المقاصد العامة للشريعة، ولا سبيل لأن يقال على هذا الأساس بتعطيل حكم شرعي اعتمادا على مقصد فرعي مع إهمال مقصد كلي، ذلك أن المقصد العام مقدم على المقصد الخاص. لذلك فإننا نعمل على تحري مقاصد الأحكام في نصوص الوحي قدر الطاقة باعتباره أصلا في تنزيل الأحكام على الوقائع.
ب ـ العلم بالواقع:
انطلاقا من وعينا بتطور المجتمعات وعدم ثباتها على نسق واحد، فإننا نؤمن بأن تطبيق الأحكام الشرعية على الواقع يجب أن يسبق بعلم واسع بواقع الأفعال الإنسانية المعينة، يشمل مختلف أحوالها وأسبابها ودوافعها وتأثرها وتأثيرها، ونستخدم في ذلك جملة من وسائل المعرفة الباحثة في هذا الواقع مثل علوم النفس والاجتماع والإحصاء والاقتصاد ونهدف بهذا البحث في الواقع إلى تحديد ما إذا كان الفعل يتدرج تحت الحكم المعين ليطبق عليه أو يندرج تحت حكم آخر. وتقدير ما إذا كان هذا الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل تطبيق الحكم عليه مؤديا إلى تحقيق المقصد القريب فيطبق، أو غير محقق فلا يطبق، ونحن نقدر كذلك أن الجهل بالواقع الإنساني في تطبيق أحكام الوحي قد يفضي إلى فوات مصلحة الإنسان وحصول الضرر.
وعبر هذين الأساسين ينطلق العمل الاجتهادي بهدف الملاءمة بين التكاليف الواردة في الأوامر والنواهي، وبين المقاصد الشرعية وبين صور وأشكال عملية لأفعال الناس، نظرا إلى تعدد واختلاف الأفعال الإنسانية في جزئياتها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، فإن هذا العمل الاجتهادي لا يداخله التقليد بوجه من الوجوه إلا أن يكون استضاءة بأحكام سابقة من المفتين والعلماء طبقوها على أحداث ووقائع مشابهة، وهذا يقتضي أن يحدد النظر الاجتهادي في كل وضع واقعي جديد، سواء تمثل في حالات فردية أو في مظاهر عامة.
وبناء على هذا يتحدد منهج الحركة في تصور التراث، فهي تعتبر ماضي الأمة متشابكاً مع حاضرها، فالفكر الإسلامي إنما ينمو ويتكامل بإضافة اللاحقين إلى ما بناه السابقون، لا بهدمه أو تركه جملة. وهذه الإضافة قد تتخذ شكل التهذيب والتنقيح أو الانتقاء والترجيح أو التصحيح والتعديل أو التكميل والتجديد.
فلا تلغي الحركة ثراء تراثنا، بل تعتبر أن فهم كثير من القضايا يمر عبر فهم التراث واستيعابه بدرجة أولى بدل إهماله أو احتقاره، كما أن الحركة لا تعتبر ما لا يندرج ضمن التشريع نموذجا يجب احتذاؤه وإسقاط قيمه وأشكاله العملية على الواقع على وجه الالتزام "كأشكال الحكم التي سادت ـ أساليب توزيع الثورة ـ علاقة الرجل بالمرأة ـ الملكية ..." بل لقد كان تاريخ الأمة حقلا لتجارب بشرية في مجال الفكر والاجتماع والسياسة، تفاعلت مع الإسلام بطريقتها الخاصة والمتأثرة بخصوصيات الظرف التاريخي، مما طبع كل تصوراتها وأوضاعها بطابع قد لا يتحمله الحاضر، ومن باب أولى المستقبل. ونحن نتعامل مع هذه التجارب من منظور تحليلي نقدي يفهم عوامل التخلف والانحطاط فيها ـ وهي كثيرة ـ، ويستلهم من جوانبها الإيجابية ما يؤصل هويتنا ويطور واقعنا ويثري نهضتنا.
ونحن واعون تمام الوعي بالفرق الجوهري بين هذا التراث بتطبيقاته التاريخية وبين الوحي بنصوصه المطلقة إذ الوحي جاء بغاية أن يصبح حياة للناس، وأن تكون أوامره ونواهيه سيرة عملية للخلق. وفي طبيعة خطابه المتصفة بالعموم والشمول والإطلاق فسحة للاجتهاد في تنزيل الأفهام على واقع الحياة تبيانا لما يندرج تحت كل حكم من وقائع، وتثبتا من استجماع الوقائع للشروط التي تخول تنزيل الأحكام عليها. فلقد حصل خلط عند البعض بين مستويين في تعامل العقل مع الوحي: مستوى الفهم ومستوى التنزيل، وجعلت تبعا لذلك الإمكانية المطلقة للتطبيق الفعلي في كل الأزمان قيمة على أصول الفهم، فيكون الفهم بذلك تابعا لإمكانية التطبيق. ويتوهم هؤلاء أنهم يحاكون عمر بين الخطاب رضي الله عنه، والحق أن فهمه رضي الله عنه لبعض الأحكام لا يعد تعطيلا ولا تغييرا، ولكنه رأى أن شروط التنزيل على الواقع أصابها خلل ـ اجتهادا منه في التطبيق وليس تعطيلا في فهم النص القطعي.