الفرق بين المراجعتين لصفحة: «المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل»
سطر ٣١٤: | سطر ٣١٤: | ||
'''والسحر في مفهوم الأرواحيين نوعان:''' | '''والسحر في مفهوم الأرواحيين نوعان:''' | ||
*(1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه... | |||
*(2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق… | |||
وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين. | |||
يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر. | |||
ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!. | |||
كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت. | |||
والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم. | |||
ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول. | |||
ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:<Br/>حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..<Br/>وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.<Br/>REN DUMONT ''AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE''.P 250 | |||
كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي. | |||
وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين. | |||
وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر. | |||
سطر ٦٤٨: | سطر ٦٧٢: | ||
كانت هـناك حركات نشطة في مناطق مختلفة من السنغال تهدف كلها إلى ترسيخ قواعد الإسلام، منها: حركات خطت خطوات هـامة في سبيل تحقيق أهدافها، وحركات تكالبت عليها قوى الشر، من ذلك: ثورة الشيخ (( سيرن أنجاي سال )) الذي نجح في الوصول إلى الحكم في ( كاجور ) سنة 1663م، وحاول وضع البلاد في ظل الشريعة الإسلامية، وتقدم مشروعه إلى حدٍّ بعيد، ولم ينجح أعداء الإسلام في القضاء على نظامه إلاّ بعد أن استغاثوا بأمير ( سالوم ). وفي القرن الثامن عشر -في المنطقة ذاتها- قام المسلمون بثورة مماثلة، وكان من سوء الحظ أن أحدق بهم الأعادي من كل جانب، ففشلت ثورتهم بعد أن أبلوا البلاء الحسن، وكانت الإجراءات التي اتخذت ضدهم قاسية حيث بيع بعضهم وفر بعضهم الآخر إلى إقليم الرأس الأخضر . | كانت هـناك حركات نشطة في مناطق مختلفة من السنغال تهدف كلها إلى ترسيخ قواعد الإسلام، منها: حركات خطت خطوات هـامة في سبيل تحقيق أهدافها، وحركات تكالبت عليها قوى الشر، من ذلك: ثورة الشيخ (( سيرن أنجاي سال )) الذي نجح في الوصول إلى الحكم في ( كاجور ) سنة 1663م، وحاول وضع البلاد في ظل الشريعة الإسلامية، وتقدم مشروعه إلى حدٍّ بعيد، ولم ينجح أعداء الإسلام في القضاء على نظامه إلاّ بعد أن استغاثوا بأمير ( سالوم ). وفي القرن الثامن عشر -في المنطقة ذاتها- قام المسلمون بثورة مماثلة، وكان من سوء الحظ أن أحدق بهم الأعادي من كل جانب، ففشلت ثورتهم بعد أن أبلوا البلاء الحسن، وكانت الإجراءات التي اتخذت ضدهم قاسية حيث بيع بعضهم وفر بعضهم الآخر إلى إقليم الرأس الأخضر . | ||
== الفصل الثالث: الإستعمار وانتشار الإسلام في السّنغال == | |||
== الفصل الثالث: الإستعمار وانتشار الإسلام في السّنغال == | == الفصل الثالث: الإستعمار وانتشار الإسلام في السّنغال == |
مراجعة ١٦:٣٤، ١٣ أكتوبر ٢٠١١
المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل
كتاب لـ: عبد القادر محمد سيلا
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وجعل ميزان الكرامة فيما دعا إليه: التقوى والعمل الصالح، فكانت المساواة وإلغاء الفوارق والتمييز العنصري واللوني روح الحضارة الإسلامية، التي جاءت نسيجًا متشابك العطاء من حيث المساهمات البشرية؛ إلى درجة لا يمكن معها أن تصطبغ بغير اللون الإسلامي والعطاء الإنساني ﴿ صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة ﴾ .
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثاني عشر (المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل ) للأستاذ عبد القادر سيلا ، في سلسلة الكتب التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر ، مساهمة منها في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، إلى جانب العطاء الصحفي والدور الإعلامي الإسلامي الذي تضطلع به مجلة ((الأمة))... يأتي لونًا جديدًا، ويشكل إضافة نوعية نرجو الله تعالى أن تكون باكورة لمجموعة من الدراسات الميدانية لحاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين في العالم، ولعلّ مجموعة الاستطلاعات المصوّرة التي قدمتها ((الأمّة)) في هـذا المجال قد حققت قدرًا لا بد منه من المعرفة بأحوال المسلمين ومشكلاتهم والتحديات التي تواجههم؛ والتي نأمل أن نتمكن من جمعها وترتيبها وتقديمها في سلسلة كتاب الأمة مستقبلًا إن شاء الله، إلاّ أنّ البحث المتخصص في كتاب يبقى له من الشمول والإحاطة والاستقراء الكامل ما يجعله ذا عطاء متميز، خاصة إذا كان المؤلِّف من أبناء المنطقة، و ((أهل مكة أدرى بشعابها))
ولا بد لنا من الاعتراف بالتخلف المخجل في مجال الدراسات الاجتماعية، وحسبنا في ذلك معرّةً أن تكون دراسات غير المسلمين عن حاضر العالم الإسلامي هـي التي تغطي الجانب الكبير من مصادرنا للمعلومات، ودليلنا إلى المعرفة...
أما بالنسبة لأفريقيا بالذات -التي نزعم أنها القارة المسلمة- فمعظم مصادرنا للمعلومات والإحصاءات السكانية، ودليلنا إلى معرفة العبادات والعادات القبلية تكاد تكون كنسية محضة، في الوقت الذي لا يزال كثير منَّا لا يرى آفاقًا للعمل الإسلامي إلا بالوقوف طوابير أمام الأبواب المغلقة والجدران المسدودة. ونكاد نقول هـنا بأنَّ هـذا الواقع البائس الذي نحن عليه، وهذه الإحباطات المستمرة التي نعاني منها إنما جاءت نتيجة لعدم وجود الدراسات المتأنية والدقيقة لعالم المسلمين وقضايا العالم بشكل عام، ذلك أننا نحاول التحرك في عالم لا ندرك أبعاده تمام الإدراك على أحسن الأحوال، وكثيرًا ما تكون انتصاراتنا لقضايا كثيرة انتصارات عاطفية بعيدة عن أية معرفة وبصيرة؛ وحسبنا هـنا أن نأتي بأنموذج واحد من عمل غير المسلمين إلى جانب مئات النماذج والألوف من الدراسات التي تتعهدها الدول أحيانًا، وتستقل بها بعض المعاهد والمؤسسات الخاصة المتخصصة أحيانًا أخرى؛ ففي دراسة إحصائية حول الأديان أصدرت جامعة ((أوكسفورد)) موسوعة أسهم فيها أكثر من خمسمائة خبير في الأديان، تجولوا في مائتين واثنتي عشرة دولة ومقاطعة في العالم لأخذ العينات وإجراء الدراسات الإحصائية، واستمر هـؤلاء الخبراء في العمل حوالي أربع عشرة سنة متواصلة، وكان مما جاء في هـذه الدراسة أن الدوائر الكنسية قلقة جدًّا من ظاهرة المدّ الإسلامي في القارة الأفريقية، إذ أنَّ الإسلام ينتشر فيها بسرعة مذهلة، وقد بلغ معدّل نمو الدين الإسلامي 235% وينبع التخوف الكنسي من ظاهرة المدّ الإسلامي في أفريقيا من إدراك الأعداء أن الإسلام يلقى قبولًا سريعًا لدى الإنسان الأفريقي، لأنه دين الفطرة الذي جاء بالمساواة وإلحاق الرحمة بالناس؛ بعيدا عن التمييز العنصري و أوضار الاستعمار اللذين ترافقا مع الوجود النصراني.
والحقيقة أنَّ الخارطة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لأفريقيا بالشكل المطلوب لا تزال غائبة عن المسلمين بشكل عام وعن المؤسسات والجمعيات والجماعات المعنية بشؤون الدعوة الإسلامية بشكل خاص. ولقد آن الأوان لتأخذ وسائلنا في العمل الإسلامي شكلًا مدروسًا يأتي استجابة لرؤية صحيحة عن الواقع الذي نتعامل معه، وقد يكون من الأمور المؤسفة أن الكثير من الدراسات والتقارير التي تقدم عن أفريقيا -والتي نحاول فيها تقليد أعداء الإسلام- تحفظ في الأدراج، ويلفّها الإهمال والنسيان، ولا تجد طريقها إلى التحليل والدراسة، ومن ثم وضع الخطط على ضوئها. ومع ذلك نبكي على ضياع أفريقيا بين الأطماع الاستعمارية والمؤسسات التنصيرية والاستلاب الصهيوني.
ولعلّ من أبسط متطلبات الدعوة إلى الإسلام اليوم في أفريقيا، وفي العالم بأسره: تشكيل الأقسام واللجان المتخصصة بقضايا أفريقية ونكاد نقول: تشكيل اللجان المتخصصة بكل دولة من دولها بل بكل قبيلة من قبائلها لتعد الدراسات الدقيقة وتضع دليل العمل الذي يمكّن من فهم طبيعة الإنسان المخاطب، وذلك بدراسة الخلفية التاريخية لثقافته وعقيدته واهتماماته، واستحضار تاريخه بشكل عام؛ حتى نتمكن من معرفة المداخل الصحيحة لشخصيته، وحتى يأتي الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، وحتى نخاطب الناس على قدر عقولهم، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه، خشية أن يفتتن الناس ويكذّب الله عزّ وجلّ ورسوله : ﴿ خاطبوا النّاس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ ﴾
وكم أسفت أثناء زيارتي لبعض المؤسسات المعنية بشؤون الدعوة في غربي أفريقيا عندما طلبت إليها إطلاعي على ما لديها من دراسات أستطيع بواسطتها الإفادة من الزمن المقرر للزيارة والدخول إلى تلك البلاد من الأبواب الصحيحة، فلم أظفر بأكثر من ملاحظات عامة قد يمتلكها عامة المسلمين لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث لم تقدم لي جديدا. وقد يكون مفيدًا هـنا أن نأتي على ذكر بعض النماذج من مسالك أعدائنا في هـذا المجال... فإلى جانب الدراسات والبحوث كلها وعمليات المسح الاجتماعي والتحليل الثقافي الموجهة التي قدمتها الكنيسة ومن ورائها الاستعمار عن أفريقيا ، والتي تعتبر إلى حدٍّ بعيد دليل عملٍ لكل من يفكر بالتعامل مع هـذه القارة التي يُعاد تشكيلها من جديد، فإنَّ هـناك دورات تدريبية لمدة أربعة أشهر أو سنة تُقام في معظم الدول الاستعمارية خاصة الولايات المتحدة ، تدرب فيها العناصر المهيأة للذهاب إلى أفريقيا، وتزود بكل المعرفة المطلوبة حول المناخ والبيئة، وحول السكان وطبائعهم وعقائدهم ولهجاتهم المحلية، وما يثيرهم وما يرضيهم؛ ومن ثمَّ يسافر المبعوث إلى هـناك، ويختص بمعايشة قبيلة والانتساب إليها وحمل اسمها والحياة معها والحديث بلهجتها المحلية وكأنه جزء منها، ومن ثم يكون قادرًا على أداء رسالته التي جاء من أجلها، ويقدم دراسات تعتبر إضافة حقيقية لعمل من سبقوه في هـذا المجال. وفي محاولة لإلغاء كل نسب بين أفريقيا والإسلام تكرس اللهجات المحلية، وتوضع لها أبجديات بالحروف اللاتينية بعد أن ألغي الحرف العربي -كما هـو الشأن في تركيا والملايو وغيرهما من بلاد المسلمين- وتصنف المعاجم، ويوفر المستعمر المتخصصين ويقيم مخابر لتطوير اللغات المحلية المتعددة وتأصيلها؛ ومن المفارقات العجيبة أن تكون لغة المستعمر -الفرنسية- هـي اللغة الرسمية في السنغال وفي بقية الدول الأفريقية التي كانت تخضع لهذا الاستعمار ، في الوقت الذي تحرم فيه العربية وحرفها،وهي لغة العقيدة والدين لشعب السنغال، وعدد المسلمين فيه يربو على 95% من مجموعه: والسنغال قديم عهد بالإسلام منذ أن انطلقت منه حركة المرابطين من ألف سنة تقريبًا. ولكن، ربّ ضارة نافعة -كما يقولون- ذلك أنّ التحدي الثقافي والضربات الموجعة أسهمت إلى حدّ بعيد بيقظة الأمة، وأعطت حركة المد الإسلامي زخمًا جديدًا بعد أن استشعرت هـذا التحدي، فقامت المدارس العربية الإسلامية التي تعتبر بحق حصون الإسلام ولغة التنزيل، ولقد أثبتت وجودها حتى على المستوى الرسمي.
وأمر آخر لا يقل خطورة عن أمر اللغة، وإنما هـو مكمل لها، وقد ركزه المستعمر على يد بعض الأفارقة أنفسهم، وهو الدعوة إلى الإسلام الأسود ؛ ليكون إسلامًا خاصًا بالأفريقي، ولقد تركزت هـذه الدعوة في السنغال ، وأمر التركيز على السنغال ليس خافيًا على أحد؛ لما يتمتع به من الموقع والتأثير على غربي أفريقيا خاصة وعلى سائر أفريقيا عامة، يقول (( بول مارثي )): (إنَّ ثوب الإسلام أيا كانت بساطته ولياقته، لم يفصَّل للسود، فهؤلاء يفصِّلونه من جديد لمقاييسهم، ويزينونه حسب ذوقهم... إنّ الإسلام الأسود بحكم اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي مغاير لإسلام العرب ) وقد ألَّف (( فينسان مونتي )) كتابًا في الستينيات تحت عنوان ((الإسلام الأسود)) هـذا إلى جانب الدعوات إلى الإقليمية التي تحاول تسوية النصرانية بالإسلام، واعتبار كل منهما دينًا طارئًا على أفريقيا، والدعوة إلى العودة بالأفارقة إلى أديانهم القديمة.
ومحاولة الانحراف بالإسلام من داخله عند العجز عن مواجهته ليست جديدة ولا مبتدعة، وما الأفاعيل التي دبرت لحركة المسلمين السود في الولايات المتحدة عنَّا ببعيدة، ومع أن الإسلام في أفريقيا بخير، والمسلمين يكافحون بوسائلهم البسيطة، ويواجهون أعظم التحديات المزوَّدة بأكبر الإمكانات والدراسات المتقدمة، حيث يصدق فيهم قول الرسول : ﴿ درهم سبق ألف درهم ﴾
إلاَّ أنَّ ضرورة الالتفات إلى أفريقيا بشكل سليم ومدروس أصبح أمرًا لا يحتمل التأخير؛ وقد يكون المطلوب مزيدًا من الدراية وفقه المجتمع ومشكلاته التاريخية، وفي تقديرنا أنه لا تتوفر الحكمة المطلوبة في أمر الدعوة ما لم تتحقق تلك الدراية وتتحصل المعرفة والتصور الكامل والدقيق للواقع الذي انتهى إليه الناس هـناك، لأنَّ الحكمة في أبسط مدلولاتها هـي: وضع الأمور في مواضعها؛ فكيف تتأتى الحكمة في معالجة القضايا والمشكلات إذا لم نتمكن من معرفة أبعاد هـذه القضايا، وأسباب تلك المشكلات وتاريخها، والعمر الذي تُووضعت من خلاله؟ وكيف يمكننا توفير المقدمات والعناصر التي تقودنا إلى الحكمة في الدعوة والمعالجة؟ ومن المعروف تاريخيًّا أن انتشار الإسلام في بعض مناطق أفريقيا كان عن طريق التجار والمسافرين، وكان سلوكهم الإسلامي المتميز يبعث على الإيمان ويثير الاقتداء عند الإنسان الأفريقي الذي أشعره الإسلام بقيمته ومساواته بالآخرين، وقد لا يكون هـؤلاء على درجة كافية من الفقه والعلم بدين الله تعالى إلى جانب عوامل أخرى مما أورث اختلاط الإسلام ببعض العقائد والعادات الأفريقية القديمة، واعتبر الكثير منها من الإسلام؛ ولا بد هـنا من الحكمة البالغة في المعالجة؛ وقد تكون المعالجة الأخطر والأكثر ضررًا في التفكير الذي يمارسه بعض الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية بعقل ضيق، ونظر عليل، وفقه قليل، فيوزعون السكان بين التنصير والتكفير ، ويحاصرون أنفسهم فلا يجدون مجالًا لدعوتهم وكأن بعض من تصدوا لأمر الدعوة الإسلامية تخصصوا بتفريق وحدة المسلمين!!
يحدث هـذا في الوقت الذي تفعل الكنيسة ما تفعله من قبول للعادات الأفريقية ابتداءً، لتكون الوسيلة إلى جذب هـؤلاء الأفارقة إلى النصرانية ، ويوالي البابا زياراته للقارة الأفريقية لمواجهة المد الإسلامي ومحاولة انتزاع أفريقيا من المسلمين.
واليوم تتابع النصرانية المدعومة ماديًّا ومعنويًّا من أوروبا وأمريكا توسعها في أفريقيا ، وتتغلب على المصاعب التي عاقت تقدمها، خاصة قضية ارتباطها بالثقافة الاستعمارية الغربية؛ فتبذل الجهود لصبغ النصرانية بالصبغة المحلية، وإقامة (مسيحية أفريقية ) فالبروفيسور (( مبيتي )) يقول: إنه حان الوقت لكي تتصالح المسيحية مع الديانات الأفريقية وأساليبها، وأن يكون طابعها (صنعت في أفريقيا )، كما قال بابا الفاتيكان في زيارته لأوغندا عام 1969م: ((إنّ تكييف الحياة المسيحية في المجالات الدعوية، وفي مجالات الطقوس والنشاطات التعليمية والروحية، ليس ممكنًا فقط؛ ولكن الكنيسة تشجعه، وتجديد أساليب القداس هـو مثال حي على ذلك، وفي هـذا الاتجاه يمكنكم ويجب عليكم أن تكون لكم مسيحية أفريقية)).
ولقد قام المنصِّرون باستثمار طويل الأجل، وحضَّروا الأطر المطلوبة لعهد ما بعد الاستعمار عندما أشرفوا على التربية والتعليم في عهد الاستعمار، وحاولت الكنائس المشاركة في مشاكل وطموحات الشعوب الأفريقية، مثل الاستقلال الوطني، وإنهاء التفرقة العنصرية لتأمين استمرارية دورها في عهد الاستقلال، وقد شعرت هـذه الكنائس بالحاجة إلى التعاون والتنسيق فيما بين مختلف مذاهبها، وها هـي الآن تعمل مع بعضها في هـيئات، مثل: المجلس الوطني المسيحي في كينيا ، والمجلس المسيحي التنزاني، ومجلس كنائس جنوبي أفريقيا، ومجلس الكنائس في زيمبابوي ؛ بل إنَّ هـناك محاولات لإزالة الفروق المذهبية بين مختلف المذاهب المسيحية في أفريقيا... كمخطط للاستقرار والتوسع في المستقبل.
ونحن بهذا لا نقر الخطأ، ولا نريد الإبقاء على الواقع، لكننا لا يجوز بحال من الأحوال أن نخطئ الوسيلة في المعالجة فنعمل على تصليب الواقع وتنفير الناس بالمواجهة المباشرة، بل لا بد من أن نبدأ بالتعليم الصحيح المرتكز إلى الكتاب والسنة، وأن نستفيد من العاطفة الإسلامية في بناء أجيال جديدة ابتداءً، لتنحسر -شيئًا فشيئًا، وجيلًا فجيلًا- دائرة الخرافات والبدع، وبذلك تتم التصفية تلقائيًّا فالعلل المزمنة التي مرَّت عليها القرون لا يمكن أن تعالج بخطبة أو بدرس بعيدًا عن سنة التدرج.
ومما لا شك فيه أن للحركة الصوفية دورًا كبيرًا غير منكور ضد المستعمر، وفي نشر الإسلام وحمايته أيضًا، ولها اليوم رصيد كبير من الأتباع والمريدين؛ ولا شك أيضًا أن بعض شيوخها الأوائل كانوا على درجة من العلم، وإن انحدرت الأمور بالوراثة في بعض الأحيان إلى أحفاد قد لا يكون لبعضهم نصيب من ذلك، وإنما جاءت المحافظة عليها بدافع بناء الزعامات وتحصيل المنافع؛ والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن بعض الحكام، ومن قبلهم المستعمر -شأنه في كل مكان من العالم الإسلامي- استغلوا جهل بعض من انتهت إليهم زعامة الطرق الصوفية ، وكان هـذا الجهل مدخلهم لاحتواء هـذه الطرق، وتنميتها والإغداق عليها، وتوظيف أتباعها لأغراض ليست خافية على أحد، حيث ينعمون على شيوخها بالهدايا والأوسمة، مما يشوه الصور الجهادية التاريخية والدور الكبير في حماية ونشر الإسلام في أفريقيا، ويكرس صور الانحراف لمحاربة الإسلام الصحيح.
وبعد؛ فقد يرى بعض الإخوة القرَّاء في الكتاب الذي نقدمه استطرادات كان بالإمكان الاستغناء عنها، كما يرى بعضهم الآخر ضرورة الاقتصار على الملامح المضيئة لإثارة التفاؤل وبعث الأمل في النفوس، ورغبة منَّا في تقديم الصورة كاملة، ومن جميع جوانبها آثرنا الإبقاء على جميع أجزائها.
ونقطة أخرى قد لا تحتاج إلى التأكيد وهي أنَّ للمؤلِّف وجهة نظره في تقويم بعض ظواهر العمل الإسلامي في السنغال ، وهذا لا يعني بالضرورة وجهة نظر ((الأمّة))فمن الحقائق الثابتة أن السنغال تشكيل مركز الثقل والمحور الأساسي بالنسبة للمسلمين في غربي أفريقيا خاصة، وفي أفريقيا عامة، وهو يعد بحق بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ونحن في ((الأمّة))نعتز غاية الاعتزاز بتقديم هـذه الدراسة المستقصية عن الإسلام والمسلمين في السنغال لتكون نواة وباكورة لدراسات جادة عن حاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين، تقدم الصورة الدقيقة والأمينة، وتتحقق بالحضور التاريخي، وتستشرف آفاق المستقبل لتكون دليلًا يهتدي به المسلمون الذين يمارسون الدعوة اليوم؛ خاصة وأنها جاءت بقلم أحد أبناء السنغال، الأخ عبد القادر سيلا ، ولعلَّ تقديم هـذا الكتاب بقلم أخ من البلد نفسه دليل على عالمية المنهج الذي عزمت ((الأمّة)) الالتزام به في أن تكون لجميع المسلمين، وأن تنطلق من مفهوم الأخوة إسلامية الشاملة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي هـدانا لهذا وما كُنَّا لنهتدِيَ لولا أن هـدانا الله ﴾ (الأعراف: 43)
وصلى الله على نبيه الكريم وسلم تسليمًا كثيرًا.
يغمرنا الأمل أن يساهم هـذا الكتاب في التعريف بالإسلام في السنغال تعريفًا من شأنه أن يقرّب إلى ذهن غير المتخصص وضع العقيدة الإسلامية في ذلك القطر الإسلامي، ويعكس -بكل صدق وأمانة- رؤية واضحة عن ماضي وحاضر ومستقبل الإسلام هـناك.
وقد ارتأينا ألاَّ نورّط أنفسنا في نقل صور زاهية متألقة باهية تدغدغ عواطف القارئ، وتستحوذ على مجامع مشاعره، وتدخل البهجة والحبور على نفسه، دون أن تبلّ غليله، أو تشبع رغبة الاطلاع لديه، لأنها لا تعكس الواقع المعاش، بل تطمره وتشوّهه بالتمويه والتزيين والتهويل، مما يحول دون معرفة الحقائق، ويثبط العزم عن تهيئة ظروفٍ لمعالجة ما يستحق العلاج.
وليس المقصد هـنا طرح مختلف أوجه القضايا الإسلامية في السنغال على بساط الدرس والتحليل، وإنما رائدنا أن نعرض -جهد المستطاع- لبعض الأمور المطروحة في الحقل الإسلامي بهذا البلد كي يسترشد بها العاملون في هـذا الميدان.
وقد تعرضنا قصدًا لعدد من العثرات لدى مسلمي السنغال، علّ هـذا أن يساهم في إنارة الطريق أمام أولئك الذين سيتصدّوْن لتدارك ما لا يستحيل تداركه، ويصلحون ما لا مناص من إصلاحه، ويواصلون العمل لترسيخ قواعد العقيدة الإسلامية السليمة؛ إذ الإحساس بالثلم والثغرات ومعرفة مواقع الهفوات من شأنه أن يحفز على الاطلاع عليها، واستيعاب أبعادها، واحتوائها ثم إيجاد حلّ لها.
هذا ولا يتمارى اثنان في توفر العدد العريض بجانب الإسلام في السنغال -حوالي 95%- وفي اكتظاظ المساجد فيه بمن يعمرها، مما يبرهن على تشبث أهله بتلابيب شعائر دينهم.
إذا ترى ماذا يعوز الإسلام في هـذا البلد ما دام مسلموه ملتزمين بالشعائر؟
لا مراء أن في السنغال أقلية تنتسب إلى المعتقدات التقليدية ينبغي تجنيد القوى لإبلاغها دعوة التوحيد وجذبها نحو العقيدة الإسلامية، وسدّ الطريق على المنصِّرين الذين يعمل معظمهم لصالح الاستعمار ، بيد أن هـناك أولوية لا تقل شأنًا عن دعوة عناصر جديد إلى الإسلام، ألا وهي: العمل من أجل العودة بالأغلبية المسلمة إلى حظيرة دينها، وتنقية العقيدة من الشوائب، وغربلة المفاهيم الخاطئة، وإنقاذ المسلم من المعاناة الروحية والارتباك في الولاء.
لا يجهد الزائر للسنغال ملاحظة اهتزاز مواقف المسلم السنغالي من جراء عوامل داخلية وخارجية، يحمل بعضها سمة قيم مجتمع تقليدي أخنى عليها الدهر، أما بعضها الآخر فقد نجم عن طغيان المادة وسيطرة نمط الحياة الأوروبية بفعل رسوبات الاستعمار، فخلف كل ذلك عقلية تجعل المسلم السنغالي يرضى بازدواجية الانتماء وثنائية الولاء، إذ كان أمامه خياران:
إمّا أن يستكين للانصهار والذوبان في بوتقة الحضارة الغربية النصرانية التي تمحو هـويته الإسلامية، ويضيع في خضم الثقافة المادية الماجنة؛ وإمّا أن يرضى بالإسلام دينًا ويلتزم بما يترتب على ذلك من أمور؛ ويعتبر هـذا من مشكلات الإسلام والمسلمين في السنغال.
على أننا لا نعتقد، أنها في كل صورها وألوانها وأبعادها خصائص ينفرد بها مسلم السنغال، بل هـي قاسم مشترك بينه وبين إخوة له في عدد من الأقطار الإسلامية الممتدة من جناحها الغربي؛ السنغال، إلى ما وراء إندونيسيا شرقًا، إذ قلما يخلو بلد من بلاد المسلمين من بعض ما يعانيه هـذا البلد الأفريقي، سواء تعلّق الأمر بالحقل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي.
وفيما يخص السنغال، هـناك بصيص من الأمل، بل هـناك أمل كبير في أن يتم تصحيح الأوضاع بما يرضي الإسلام -إن شاء الله تعالى- وذلك بفضل الصحوة الإسلامية المباركة التي ظهرت طلائعها في الأفق، والتي يسندها جو من الحرية السائدة في البلاد.
عبد القادر محمد سيلا
الفصل الأول: المـعطيات الجغرافيـة والبشريــة
الموقــــع
تقع جمهورية السنغال في أقصى نقطة من غربي القارة الأفريقية بمنطقة ((بين مدارين)) بين درجتي عرض شمالًا 12.30 درجة و 16.30 درجة، وبين درجتي طول 11.30 درجة و 17.30 درجة.
المساحة والمناخ
تبلغ مساحة السنغال: (196 , 197 ) كيلو مترًا مربعًا.
والبلاد عبارة عن سهول منبسطة تقل فيها التضاريس باستثناء مرتفعات ((كيدوغو)) [KEDOUGOU ] وهضبات: تياس [THIES ].
ووقوعها في منطقة ((بين مدارين)) جعلها ذات مناخ متنوع حيث تتميز المناطق الداخلية بارتفاع كبير في درجة الحرارة التي تصل أحيانًا إلى (40 ) درجة مئوية، في حين تتمتع المناطق الساحلية -وبالأخص إقليم الرأس الأخضر حيث تقع العاصمة- باعتدال نسبي في درجة الحرارة إذ تتراوح ما بين 17 و 25 في فترة ما بين ديسمبر ويونيو.
ويمتاز فصل الصيف بهطول الأمطار ابتداءً من شهر يونيو إلى شهر أكتوبر، وتتناقص كمية الأمطار كلما ابتعدنا من الجنوب نحو الشمال، والشمال الغربي اللذين هـما في طريق التصحر.
وتنقسم البلاد إلى مناطق طبيعية أساسية:
- منطقة حوض السنغال.
- منطقة ((فيرلو)) [FERLO ] وتقع في الوسط الشرقي.
- منطقة الوسط الغربي.
- منطقة الشاطئ ونياني [NIANYES. ]
- منطقة كازامنسا [CASAmANCE ]
- منطقة السافان [SAVANE ]
الأنهــار
يعتبر نهر السنغال من أكبر أنهار البلاد، إذ يبلغ طوله (1.750) كيلو مترًا، ينبع من (( غينيا ))، ويجتاز (( مالي )) حيث رافديه ((بافين)) [BAFING ]، و ((باكوي)) ـ [BAKOI ]ونهر السنغال صالح للملاحة في بعض أجزائه في بعض فصول السنة.
• ويأتي بعده نهر ((كازامنسا)) ـ [CASAmANCE ] البالغ طوله (300 ) كيلو متر، ويصلح للملاحة طول السنة.
• ونهر غامبيا: ويبلغ من الطول (1.050 ) كيلو متر، ولا يعبر السنغال إلاّ قسم يسير منه. إلى جانب هـذه الأنهار يوجد ((سين)) و ((سالوم)) وهما ساعدان للمحيط الأطلسي.
ويطل السنغال على المحيط الأطلسي بحوالي (500 ) كيلو متر. وموقعه الاستراتيجي جعله الباب الأمامي لأوروبا نحو غربي أفريقيا وأمريكا الجنوبية .
الحدود والســـكان
يحد السنغال شرقًا: مالي، وغربًا: المحيط الأطلسي، وجنوبًا: الغينيتان [ كونكري وبيساو ] وشمالًا: موريتانيا .
(أ ) السـكان
أ- يبلغ تعداد سكان السنغال ستة ملايين نسمة [1982 ] نسبة الشباب منهم 52% كما توجد نسبة عالية من غير السنغاليين (مليون تقريبًا) على رأسهم الجالية الموريتانية واللبنانية، ثم المهاجرون من مالي والرأس الأخضر .
ب- التمثيل السكاني من حيث الانتماء العرقي والديني
يتركب الشعب السنغالي من جماعات متساكنة من عهود عريقة في القدم، لكنها جماعات لم يكن يجمعها وحدة سياسية أو لغوية، بل احتفظت كل جماعة باستقلالها السياسي ومقوماتها الثقافية وقيمها الأخلاقية، ويمكن ملاحظة تلك الفروق حتى يومنا هـذا.
على أن مما يثلج الفؤاد أن ظروفًا موضوعية في طريق التوفير لتكوين وحدة وطنية تسمح باندماج مختلف العناصر التي يتشكل منها الشعب السنغالي، وذلك بفضل سهولة المواصلات والاتصالات وانتشار الإسلام، موحد الشعوب. ومن نتائج هـذه العوامل أن إحدى الجماعات العرقية ولغتها سيطرتا على الساحة السنغالية منذ قرن تقريبًا، فساعد ذلك على تجانس الشعب، وقضى إلى حد بعيد على التنافر القبلي السائد في مناطق عديدة من القارة الأفريقية. علاوة على أن الجماعات العرقية أو اللغوية لا قيمة لها، حيث لا تتعدى اللغات المحلية -وهي تعكس عدد الجماعات العرقية- سبعًا، من بينها: أربع لها أهمية باعتبار تعداد الناطقين بها. النصرانية بعض الأتباع من ((السرير))، كما لا تزال المعتقدات التقليدية حية فيها، ولها أتباعها وكهنتها، لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام تقدم الإسلام. وينتسب مسلمو ((السرير)) إلى الطريقة التجانية والمريدية .
(ج) ((بول وتكلور)) [PAUL]
الـ ((بول)) أو فلاتة، رعاة أبقار غير متمركزين بعدد وافر بإقليم بعينه، وتميل بشرتهم إلى البياض، وملامحهم وسيمة يشبهون الإثيوبيين. دخل الفلاتيون الإسلام من عهد بعيد، غير أن طائفة ((توكلور)) -وهي تتكلم بلغة ((بولار)) مثل: ((بول - الرعاة))- تسكن أصلًا حول ضفاف نهر السنغال ، وبالأخص في القسم الغربي منه، وقد أسلمت قبل وصول المرابطين المنطقة، وأدّت دورًا هـامًا في نشر الإسلام في المناطق المجاورة لها، وتشتغل بالزراعة، وبفعل جفاف شمالي السنغال هـاجر عدد من أفرادها إلى مناطق أخرى. وينتمي حوالي 90% من التوكلور والبول إلى الطريقة التجانية.
(د) جماعة ((جولا)) [DIOLA]
توجد ((جولا)) في جنوبي السنغال المعروف باسم ((كازامنسا))- [CASAmANCE ] وتتعاطى الزراعة، وخصوصًا زراعة الأرز، وتم إدخالها في الإسلام على يد جارتها ((ماندنكي))، وتبلغ نسبة الإسلام بينها 70% على أن الإرساليات التنصيرية بدأت تبذل جهدًا كبيرًا لنشر النصرانية بين ظهرانيها، وخصوصًا في مقاطعة ((ووسوي ـ OUSSOUYE)) ومنذ فترة قريبة، بدأت جهات إسلامية سنغالية تهتم بالمنطقة لنشر الإسلام فيها، ومنافسة البعثات الكاثوليكية (هـ) جماعة ماندنيكي)) (([mANDINKE],,
وجاخانكي [DIAKHANKE ] وبامبارا [BAmBARA ] لا تتجاوز نسبة هـذه الجماعة 7% من مجموع السكان، يقطن معظمها في جنوبي وشرقي البلاد. وتتعاطى الزراعة والتجارة، ويعود إسلامها إلى عهد إمبراطورية مالي ، وتنتسب أغلبيتها إلى الطريقة القادرية .
(و) هـناك مجموعات عرقية ولغوية متميزة
تحتل مراكز دنيا من حيث عدد أفرادها لكن بعضها يؤدي دورًا لا يستهان به في مجال التجارة كجماعة سراخولي [SARAKHOULE ] وتقطن في أقصى الشمال الشرقي من السنغال، ولها ماضٍ مجيد في الإسلام حيث إنها مؤسسة مملكة ((غانا)) التاريخية في القرون الوسطى.
الأديان (الإسلام والنصرانية والمعتقدات التقليدية)
وقد اتضح من خلال هـذه اللوحة التي رسمناها لتعكس التشكيلات العرقية ومواطن كل جماعة ونشاطها ونسبة انتشار الإسلام بينها، أن الديانة الإسلامية تستقطب ما لا يقل عن 95% من السكان في الوقت الذي لا يصل عدد النصارى على مختلف نحلهم ومللهم (200.000 ) نسمة من أصل (6.000.000 ) نسمة.
وتحسن الإشارة إلى أن النصرانية تجد الأتباع من بين جماعتي: ((جولا والسرير)) على أنه لا تزال السباق على جميع الأوراق الرابحة لكسب المعركة، أضف إلى ذلك أن هـذه الفئة في سبيل الانقراض والتلاشي نهائيًّا لنفور الشباب من تلك المعتقدات البالية.
الطبقات الاجتماعية
الطبقات الاجتماعية، موضوع الحديث هـنا، لا تعني بالضرورة تفاوتًا في مستوى الدخل، وليس أساسها غنى وثروة فئة، وفقر وحرمان فئات أخرى من المجتمع الواحد.
فمفهوم الطبقة في المجتمع السنغالي، وفي عدد من المجتمعات في غربي أفريقيا أساسه أصلا تقسيم الأدوار و المهام داخل المجتمع الواحد.
ونظرًا للتحديد الدقيق لتلك الأدوار برزت حدود وأسوار لا سبيل لتخطيها بين أفراد المجتمع الواحد نتيجة تباين مناهج حياتهم، وهكذا وجدت طبقة المحاربين والحدادين والنساجين والصيّادين والعبيد... كل فئة تقوم بمهمة في المجتمع تختلف عن مهام طائفة أخرى.
وتختلف أسماء هـذه الفئات الاجتماعية من جماعة لأخرى، لكن تتفق تقريبًا على وجود الطوائف التالية:
- طبقة النبلاء، وتتألف من الأمراء والأعيان وكبار رجال الدولة، وتقوم بأعباء السلطة السياسية.
- طبقة الأحرار، وتشمل الفلاحين والمشايخ، وعامة الشعب ويطلق عليها لدى بعض الجماعات ((بادولو)) [BADOLO ] وتعني: الفقراء والمستضعفين...
- طبقة الحرفيين، وتشمل طوائف عديدة: نساجين، صيادين، إسكافيين ومغنين...
- طبقة العبيد، وهي على نوعين: عبيد الملك، وعبيد آخرين، حيث إن الأولين باعتبارهم ركيزة عرش الملوك ليسوا مملوكين إلا بالاسم.
على أن تقسيمات ثانوية تحصل داخل بعض الفئات لا محل للتعرض لها هـنا.
ومع مرور الزمن اختفى الأصل المهني لهذه الفئات، فأصبحت حقائق اجتماعية لها وقعها في تصرفات الأفراد والجماعات وعلاقاتهم.
ورغم التطور الحاصل في عقلية السنغاليين، فلا تزال هـذه الفروق حقيقة اجتماعية معاشة، وخصوصًا في الأوساط المحافظة وبالأخص منها في الريف؛ فلا تقبل طبقة الأحرار مصاهرة طبقة الحرفيين مثلًا.
وتجد الإشارة إلى أن الاستعمار الفرنسي استعان بالطبقات الاجتماعية الدنيا لتحطيم الطبقات العليا التي قاومته، وذلك لإهانتها على يد الطوائف التي كانت مهانة من قبل.
المعطى الاقتصادي
السنغال دولة زراعية أساسًا، وزراعتها تقليدية تقادم عهدها حيث تتمحور على قوة عضلات الفلاح دون تدخل المحراث التقليدي؛ فضلًا عن الأدوات الميكانيكية المتطورة ويعد ذلك أحد أمراض البلاد المزمنة.
وإذا كان الاكتفاء الذاتي أساس الاقتصاد السنغالي قبل عهد الاستعمار ، فإن الإدارة الأجنبية لم تغير شيئًا ذا قيمة كبيرة، فلم تتطور زراعة المواد الغذائية الاستهلاكية بل تم تشجيع إنتاج الفول السوداني المهيأ للتصدير، وفي الوقت ذاته أهملت المحصولات الأخرى، ولم يتزامن ذلك كله مع صناعات متطورة ومتنامية.
على أن هـناك بعض المصانع، وخصوصًا في إقليم الرأس الأخضر الذي يتمتع بعدد كبير من المصانع مما جعله في الصف الأول من المناطق الصناعية في غربي أفريقيا.
أما جوف الأرض فيحتوي على بعض الثروات المعدنية التي لم يُستغل أكثرها مثل: الفوسفات، الحديد، المرمر، الذهب.
كما تتمتع البلاد بثروة سمكية هـائلة، ويشتغل 10% من السكان بصيد الأسماك.
التراث الثقافـي
تبعًا لتغاير أصول ولغات وتاريخ الشعوب المتساكنة في السنغال ، فإن الحديث عن التراث الثقافي في هـذا البلد متشعب، غير أن مما يسهل المعضلة وجود تشابه ملحوظ بين مختلف ألوان التراث الثقافي لهذه الشعوب، فضلًا عن الاتجاه القوي نحو توحيد وسائل التعبير عن هـذه الثقافة منذ زمن؛ وذلك لتدخُّل عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها حين الحديث عن التركيب السكاني.
وتتميز هـذه الثقافة بالشفوية ، أي: أنها لم تدون؛ إذ لم تدخل الكتابة إلى السنغال إلا بعد انتشار الإسلام، فأغلب ما تمت كتابته كان باللغة العربية أو باللغات المحلية بالحروف العربية ويغلب عليه طابع الإسلام.
وتحتل القصص والأمثال والشعر والأغاني والموسيقى وآلات الطرب مركز الصدارة.
ويعتبر فن القصص أهم مقومات الأدب الشعبي . والتراث القصصي عبارة عن أساطير وأقاصيص تقوم الحيوانات بدور الأبطال فيها، وتتقمص دور الإنسان، وتتصرف تصرفاته، وتتكلم بلسانه؛ داخلة في خفايا نفسه، منتقدة تارة المجتمع، وحاثَّةً طورًا آخر على عمل الخير ومكارم الأخلاق والرفق بالأيتام والضعفاء، وتنتهي الأقاصيص بالعبر والحكم، وقد تأثر بعض هـذه القصص بالإسلام فأصبح يستعير منه لونه ومادته.
وكان ولا يزال حتى يومنا هـذا -خصوصًا في الأرياف- يتحلق الرجال والنساء والولدان حول ضوء النار، يوقدونها للمسامرة، وخلالها يستمعون إلى القاصّ يحكي لهم أقاصيص وأساطير شيقة تخلب الأفئدة، وتستحوذ على مجامع القلوب.
والى جانب الأقاصيص تحتل الملاحم درجة عالية في التراث الشعبي، وتدور غالبًا حول شخصيات تاريخية حقيقية أو أسطورية. وتعد ملحمة (( محمد تشام )) بلغة ((بولار)) أغزر وأغنى ملحمة في هـذا الباب، فهي تروي حياة ومعارك المجاهد (( عمر الفوتي ))؛ وكان المؤلف قد شارك شخصيًا في جميع حملات الفوتي العديدة، فهي في نظر بعض العارفين لا تقل قيمة عن ملاحم (( هـوميروس )).
ويعكس ذلك كله تنوع وثراء (( الفولكلور )) السنغالي الذي يسير في طريق التأصيل والحفظ والثبات... هذا وسيأتي الكلام في فصل مستقل عن اللغة العربية باعتبارها أهم مكونات التراث الثقافي السنغالي.
نبذة عن التاريخ السياسي للسنغال
ليس القصد هـنا عقد دراسة مستفيضة عن تاريخ السنغال ، بل الهدف إعطاء فكرة عن الشكل السياسي السائد قبل الاحتلال الفرنسي، مما يساعدنا على استيعاب الظروف التي اكتنفت انتشار الإسلام.
على أن تاريخ السنغال مرتبط إلى حد ما بتاريخ بعض الأقطار المجاورة له، مثل: (( مالي )) التي كانت تسيطر في فترة ما على أجزاء شاسعة من غربي أفريقيا، ومناطق من شرقي وجنوبي السنغال، ولا بد أن يعترف الدارس أنه ما كانت هـناك وحدة سياسية حقيقية بين الأراضي التي يطلق عليها اليوم اسم السنغال، وإنما كانت مقسمة إلى دويلات لا تجمعها إلاّ صلات واهية، وأهم هـذه الوحدات السياسية هـي:
مملكة ((جولوف)) [DIOLOF]
تقع جولوف في الوسط الغربي من السنغال، وتقطنها جماعتا ((أولوف)) و ((بول)) ـفلاتةـ وكانت أقاليم عديدة تابعة لها ثم انفصلت عنها بسبب اضطرابات داخلية، وعاصمتها ((يانغ ـ يانغ)) [YANG-YANG ] ويحمل ملكها لقب ((بوربا)) [DOURBA].
مملكة ((والـو)) [WALO]
وتقع في منطقة الفيضانات ما بين مدينتي (( بودور )) PODOR و (( أندر )) N'DAR، وتقطنها جماعة ((أولوف)) أساسًا وكانت عاصمتها (( أندير )) N'DER.
وقد كان الفرنسيون يدفعون لها إتاوة منذ استقرارهم بمدينة ((أندير)) سنة 1659م إلى أن تم ضمها إلى المستعمرات الفرنسية عام 1856م.
مملكة ((كاجـــور)) [DIOR]
وتحتل سهلًا واسعًا بين المحيط الأطلسي وأقاليم (( جولوه )) و (( سين )) و (( سالوم )) وكانت لامباية [LAmBAYE ] مقرَّ بعض ملوكها.
كانت تسكن هـذه المملكة بصفة أساسية جماعة ((أولوف)) وكانت مسرحًا لمعارك عديدة في القرن التاسع عشر ضد الاستعمار إلى أن سقطت بيده عام 1886م.
فوتا -الإمامة- "fouta - toro"
تقع فوتا على ضفاف نهر السنغال، وتمتاز عن غيرها من المناطق السنغالية بأنها عرفت الإسلام قبل سواها، وقامت فيها أول حكومة إسلامية تطبق شريعة الله تعالى.
فبعد فساد وانحلال نظام ((ساتيك)) ساتيك : اسم النظام السائد في (فوتا) قبل حركة المسلمين الهادفة إلى تصحيح الوضع.
قامت حركة مباركة بقيادة (( سليمان بال )) و (( عبد القادر كان ))، فأطاحت بحكم الاستبداد.
وكان من محاسن نظام الإمامة أنه قام بنشر الإسلام ورعاية المساجد وتشجيع مجالس العلم. ويحسن أن يُسجل هـنا بكل اعتزاز ما كتبه أحد المستعمرين المعاصرين للإمامة وهو (( بيتيون )) [PETION ] بخصوص تحريم أئمة ((فوتا)) ممارسة النخاسة في مملكتهم باعتبار ذلك منافيًا لمبادئ الإسلام ﴿ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ﴾ فقد كتب ((بيتيون)): ((رفض الإمام ـملك بولـ هـدايا الشركة، محرمًا بيع رعاياه، ومانعًا مرور قوافل العبيد)).
وفي الحقيقة حملت ((فوتا)) أمانة نشر الإسلام في الأقاليم المجاورة لها، وهي التي أمدت السنغال كذلك بأهم رجالاته الدينية والفكرية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن الحالي، أمثال: عمر الفوتي ـ 1864م، مابا جاخوبا ـ 1867م، مالك سي ـ 1822م، أحمد بامبا ـ 1927م.
ممالك كازا منسا
وتعتبر جماعة ((بينونك ـ [BAINONKE ] ـوهي في طريق الانقراض ـ أقدم سكان جنوبي السنغال، ومؤسسة مملكة كازامانسا وقد قامت جماعتا ((مانديكنكي وجولا)) باحتوائها.
أما جماعة ((جولا)) فلم تشتهر بمؤسسات سياسية منظمة ذات قيمة تاريخية تستحق الذكر، في حين شيدت جماعة ((ماندينكي)) في إطار إمبراطورية مالي أو خارجها ممالك في ((كازامنسا وغامبيا ونياني ونيومي ووولي )) وكانت قد جاءت بالإسلام من مالي، وبطول العهد ضعف عندها الوازع الإسلامي، وظهرت لدى أمرائها المعتقدات التقليدية الأرواحية.
والقاسم المشترك لهذه المؤسسات السياسية كلها باستثناء نظام الإمامة في ((فوتا تورو)) أن صلاحيات ملوكها كانت في الأساس ضيقة ومحدودة، ومع مرور الزمن اتسع نطاقها حتى أصبح نظام طغيان واستبداد ليصل إلى ذروته مع طلوع القرن التاسع عشر.
وهذه الإمارات التي أثبتنا أسماءها ومواقعها نماذج لإمارات أخرى لم نتعرض لها، كما أنها جميعًا ـعدا الإمامة في فوتاـ تطغى عليها الأرواحية كدين رسمي كان يتعايش مع الإسلام.
المعتقدات
لم يكن الإسلام سائدًا في أي إمارة من الإمارات المذكورة، وإن كان حضوره ملموسًا في جميعها، حيث كانت الجالية الإسلامية تكوّن كتلة اجتماعية متماسكة مشكّلة جماعة ضغط سياسي هـام وعنصر تطور، وركيزة للإدارة الحكومية.
وتكمن أهمية الوقوف على بعض المعتقدات الأرواحية في أنه يساعد على فهم عقلية المسلم السنغالي الحالي، وتعليل بعض مواقفه وتصرفاته التي قد تتنافى مع مبادئ الإسلام، فهي مواقف وتصرفات يستغربها من يجهل حقائق اجتماعية وتاريخية كانت خلفية لها.
فالإنسان السنغالي، شأن غيره من الأفارقة، متشبث بالقيم الروحية ، فقلما يقوم بحركة هـامة أو تافهة دون أن تسبقها فكرة دينية. بل الأمر كما قال (( دولافوص )) [DELA FOSSE ] ((لا وجود لأية مؤسسة في أفريقيا السوداء، سواء أكانت في الميدان الاجتماعي أو السياسي، بل حتى في مجال النشاط الاقتصادي، لا تنبني على تصور ديني، أو لا يكون الدين حجر الزاوية فيها. فهذه الشعوب التي يستنكر أن يكون لها دين هـي، في الواقع، من بين الشعوب المتدينة على وجه الأرض)) ((أديان أفريقيا السوداء)) : ديشام DE SCHAmPS الأرواحيـة [L'ANmISmE ]
الأرواحية هـي الاعتقاد بقوة روحية في الأشياء، أي: اعتقاد أن للأشياء أرواحًا مشابهة لتلك التي لدى الإنسان.
ويعتقد أتباع الأرواحية أن الروح هـي مبدأ الفكر والحياة العضوية في آنٍ واحد. وتهدف العبادة عند معتقديها إلى تزويد الحياة البشرية بمدد من القوة، وضمان بقاء الإنسان لأطول مدة. أما المرض والإعياء والفشل... فأعراض تدل على نقص القوة الحية.
وتتركب أهم عناصر تلك المعتقدات من:
- إله سام خالق للأكوان، بعيد عن العالم الأرضي؛ مما حمله على إنابة الكهان عنه
- آلهة من درجة دنيا، وهي مندمجة في قوة الطبيعة.
- أجداد الجماعات، وهم بمنزلة الأرباب.
- قوة خفية تتمثل في التعاويذ والتمائم .
ويعيش المعتقد بالقوة الحيوية في محيط تؤطره الغيبيات في مختلف أكناف حياته، وتدفعه عقيدته إلى اعتبار العالم المحيط به ألغازًا غامضة وأسرارًا دفينة لا يتطاول إلى كشف كنهها إلا عقول خاصة لها استعداد خاص لتلقيها من ((اللامرئي))...
لا أمن ولا سلامة لغير الموهوبين الذين رؤيتهم معتمة، ولا مندوحة لهم إلا الالتجاء إلى الكهنة والسحرة ، و إلى الطقوس والقرابين والتمائم والتعاويذ لاستعطاف قوة الطبيعة، واتقاء شرها، والتقرب إليها زلفى، واستدرار رحمتها...
وتتمثل المؤشرات غير المرئية في أرواح الجدود، ضامنة استمرارية حياة القبيلة أو العشيرة المنتمية إليهم، وفي أرواح الموتى بصفة عامة، وفي الطلاسم والتعاويذ التي يصنعها الكهان، زاعمين أنها ذات أو السيئة. فأساس فكرة عبادة أرواح الأسلاف ـالتي يُعتقد أنها وسيطة بين الأحياء والآلهة وأنها شفيعةـ هـو أن الحياة على الأرض لا تتوقف بمفارقة الروح للجسم، بل هـي استمرار سرمدي للفعالية والحيوية، إذ ليس الموت حدثًا يسبب قطع الصلاة بين الأحياء والأموات، إنما هـو غفوة وارتخاء من جراء ضعضعة في القوة الحيوية…
على أن غموض الطبيعة وصعوبة فك ألغازها حدا بالإنسان الذي هـذا معتقده إلى الاستنجاد بالكهنة طلبًا لتفسير أو تعليل مظاهر الطبيعة، والارتماء في أحضان صانعي التمائم والتعاويذ، وجعله متشائمًا، محاطًا بأنواعٍ لا تحصر من الخرافات تعتّم عليه حياته.
ومن سوء حظ أتباع الأرواحية أنهم لا يضعون فاصلًا بين الروح والمادة، فالإنسان والموجودات الأخرى ليسوا سوى قوة حية ذات فاعلية تخضع ـفي اعتقادهمـ لمشيئة طبيعة فاعلة…
ويكون الوسيط بين الإله والأحياء جدّ الجماعة الأسطوري، أو تمثالًا أو قناعًا أو حجرًا أو حيوانًا أو شجرًا، أو أي مظهر آخر من مظاهر الطبيعة، ويتباين دور الآلهة الوسطاء وعددهم وأهميتهم من منطقة لأخرى، ومن جماعة لجماعة ثانية…
وتعتبر عبادة الحيوانات من أقدم العبادات المعروفة في غربي أفريقيا. فلدى بعض الجماعات في السنغال ـقبل إسلامهاـ اعتقاد مفاده أن الجماعة ونوعًا من الحيوان من جرثومة واحدة. ونجد بقايا هـذا الاعتقاد ليومنا هـذا لدى بعض القبائل السنغالية المنحدرة من إمبراطورية مالي . فقد جاء في سيرة حياة الكاتب الغيني (( لاي كامارا )) [LAYEKAmARA ] أن والده قال له ذات يوم:
عشيرتنا. فقد ظهرت لي في جيلنا هـذا، وبعد أن شرح الوالد لابنه كيف تم لقاؤه مع جنية عشيرته قص عليه الحوار الذي دار بينهما؛ حيث قالت له الحية: ((قدمت، كما نبهتك سابقًا لكنك لم ترحب بي، بل لاحظتك وأنت تتهيأ لأسوأ استقبال لي، فقد لمحت ذلك في عينيك، لماذا تنظر إليّ هـكذا؟ أنا جنية أجدادك، وبصفتي كذلك قدمت نفسي إليك لأهليتك. إذن لا تخف مني؛ واحذر من طردي فإنني جالبة لك النجاح)) LAYE KAmARA:((LENFT NOIR((14,16 et 17
وتحت وابل من الأسئلة وإلحاح شديد من ((لاي كامارا)) الذي كان طفلًا صغيرًا رأى أباه يداعب حية صغيرة الحجم ذات مساءٍ، حكى عليه القصة، وهي على جمالها تعكس جانبًا واقعيًا من حياة هـذه الشعوب التي اعتنقت الديانة الإسلامية منذ عهود قديمة وظلت تحتفظ ببعض بقايا معتقدات مجتمع ما قبل الإسلام.
يرتبط الحيوان بالإنسان بالعهود، ويتحاور معه، ويساعده على تذليل الحياة، مقابل تقديمه وتنظيم طقوس له. فهو يجسّد جنية العشيرة، فقتله أو مسّه بأذًى بجلب المصائب والنوائب للفرد والجماعة معًا، بينما استرضاؤه يؤدي إلى الرفاهية والنجاح، فوق ذلك كله فليس الحيوان أخرس ولا أعجم بل له لغة يتفاهم عن طريقها مع خواص الناس، ويعقد عهودًا ومواثيق تبقى سارية إلى أبد الآبدين… في زعمهم.
ولم تكن الحيوانات وحدها محل عبادة وتقديس لدى معتقدي القوة الحيوانية وإنما يعبدون بعض النباتات والمعادن.
يحتوي الشجر على روح فعالة؛ فإنه ـعند اجتثاثه ـ يجب استرضاؤه بالقرابين والأدعية؛ خصوصًا إذا كان دوحًا وذلك قصد إبطال رد فعله، وتتصرف الجنُّ في المعادن تمنحها لمن يتخذها أولياء وأخلاء، وتمنعها عمن لا يسترضيها.
والمعدن بحد ذاته كائن حي يستطيع أن ينفع ويؤذي. وبقصد اتقاء شره ينبغي لطائفة الحدادين أن يكون لهم استعداد تام لمواجهته، فهم لذلك يتسلحون بالأسرار والأدعية يخيفون بها القوى المعادية في المعدن. وكذلك يتحصن الصيادون ـفي البر والبحرـ بالأدعية تقيهم من شر فرائسهم، وكان كبار الصيادين من أمهر وأكبر الكهنة والسحرة.
الطقوس وأماكن العبـادات
تتركب الطقوس من عناصر عدة، منها: الرقص على إيقاعات الطبول ـ تم ـ تم ـ والغناء الذي يستغرق جزءًا هـامًّا منها، ثم القرابين التي تقدم إلى أرواح الجدود في مناسبات عندما يصيب المرض أحد أفراد الأسرة، أو حين يستعد الفلاح للبذر، أو حينما يحل موسم الحصاد، أو يلمُّ بالبلاد جفاف، ففي هـذه المناسبات يتقرب الأرواحيُّ بدجاج أو غنم أو بقر فيذبحه على قبر أسلافه.
وتعد ثمرة ((الكولا KOLA)) الكولا: البندق الأفريقي، يعتقد كثير من علماء السنغال أنه هـو الطنبول ـ وكذلك علماء غربي أفريقيا عموماـ وهو خلاف ذلك، ولقد استعملنا الكلمة الأجنبية لشهرتها. مقدسة ورمزًا للاحترام، وتقدم حتمًا في الحفلات الدينية، وقد تأثر المسلمون بهذه العادة فأصبحت عنصرًا هـامًا في حفلاتهم في السنغال.
وهناك ممارسات معقدة وشائكة تقوم بها فئة من الكهنة، فضلًا عن أن الطقوس متشعبة ومتعددة، لا قانونًا محدودًا يربطها، حيث تختلف شعائر شعب عن آخر، وجماعة أو منطقة عن أخرى، بل حتى بين قريتين متجاورتين؛ ونتيجة لفقدان ضوابط لها، وخشونة بعض مظاهرها وتعددها، وعدم هـيمنة واحدة منها فإنها أصبحت تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام قوة الإسلام موحد الشعوب.
وما استطاعت الأرواحية ـإلا نادرًاـ تأسيس هـياكل للعبادة، إذ غالبًا ما يكون المعبد عبارة عن محراب صغير، أو زاوية في بيت رئيس الأسرة يمارس فيها أفرادها شعائر الأرواحية. وقد يكون ضريح زعيم الجماعة موضح تقديس حيث تصب عليه الألبان والمياه وتذبح عليه القرابين…
ظاهرة الخوف من الطبيعة والسحر والسحرة
تتكون تصورات المجتمع التقليدي السنغالي ومدركاته من تجارب كثيرة، منها: تلك التي تأتي من العالم المرئي، أي: من ظواهر الطبيعة المباشرة. فليست الطبيعة مجرد مادة ترى وتلمس وتحس بل وراءها قوة فاعلة متحركة ومحركة تتصرف في مجاري الأمور حبذا لو اعتقدوا أن القوة للرب الواحد الأحد.
يخضع لها الإنسان ويرتبط بها ارتباطًا لا فكاك له، فرخاء الهيئة الاجتماعية وسلامة أعضائها وحياة كل فرد خاصة أو عامة من صحة ومرض ونجاح وفشل وسعادة وشقاء تتوقف على التأثيرات الطيبة أو السيئة الآتية من العالم غير المرئي. وهم لذلك لا يرون أملًا للوصول بمشروع من مشاريعهم إلى مرافئ النجاح إلا إذا أمنوا شر قوى الطبيعة التي تطاردهم وتلاحقهم ولا تدعهم يتنفسون لحظة.
وسوف نرى أن الخوف من ثوران الطبيعة، والعمل على ابتغاء مرضاتها، والتحصن ضدها لم يختف في السنغال رغم انتشار الديانة الإسلامية بين ظهراني أهله.
السـحر في مفهوم الأرواحـيين
والسحر في مفهوم الأرواحيين نوعان:
- (1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه...
- (2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق…
وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين.
يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر.
ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!.
كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت.
والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم. ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول.
ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:
حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..
وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.
REN DUMONT AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE.P 250
كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي.
وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين.
وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر.
- (1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه...
- (2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق…
وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين.
يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر.
ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!.
كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت.
والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم. ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول.
ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:
حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..
وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.
REN DUMONT AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE.P 250
كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي.
وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين.
وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر.
الفصل الثاني: طرق انتشار الإسلام في غربي أفريقيا
(أ) الإرهاصات الأولى
ظهرت الدعوة الإسلامية في بداية القرن السابع الميلادي بقلب الجزيرة العربية في فترة من التاريخ كانت البشرية فيها بأمس الحاجة إلى رسالة من السماء تنقذ المجتمعات من الانهيار، وتصفي القلوب من شوائب الشرك، وتوجه العقول نحو عقيدة الوحدانية، وكانت الأقطار الأفريقية بعيدة كل البعد عن الحركة الدينية الجديدة، اللهم إلا ما كان من هـجرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى الحبشة ( إثيوبيا اليوم ) بإيعاز من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه ﴾ سيرة ابن هـشام..
وقام بعض الصحابة رضوان الله عليهم بهجرتين إلى الحبشة، وهما هـجرتان لم تخلفا أثرًا ذا بال على المجتمع الحبشي، لأن المهاجرين ـلأسباب خاصةـ كانوا يعتبرون لاجئين سياسيين، كما في مصطلحات العصر الحديث، فلم تكن هـجرتهم من موطنهم نتيجة اقتراف جريمة يعاقب عليها القانون، بل ابتعادهم من قلة كان لأسباب عقيدية، وسياسية؛ لأن الدعوة الإسلامية كانت تهدف أساسًا إلى تغيير القواعد التي تنبني عليها المؤسسات الدينية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الجاهلي…
(ب) انتشار الإسلام في غربي أفريقيا
إذا كانت الطلائع الأولى من الصحابة رضوان الله عليهم، لم يتمكنوا من القيام بالدعوة إلى الإسلام في فجر البعثة بأفريقيا، فإن المسلمين الأوائل عرفوا العالم الأفريقي قبل انتشار الإسلام في القارة الأفريقية. فقد كانت الصلات بين العالمين العربي والأفريقي قديمة وسابقة لظهور الإسلام: فقد كان جزيرة العرب على صلة اقتصادية ودينية وسياسية بشرقيّ أفريقيا، ولم يكن الحضور الأفريقي مقتصرًا على العبيد الذين يجلبون من القارة السوداء، بل كانت للحبشة ارتباطات وثيقة باليمن جنوبي الجزيرة العربية.
لذلك لا يدهشنا اهتمام الإسلام الباكر بأفريقيا باعتباره استمرارًا طبيعيًّا لتلك العلاقات التاريخية وتطورًا حتميًّا لها.
على أن الإسلام اختار ـخلال تقدمه نحو أفريقياـ مسلكين اثنين:
- أولهما مائي: وهو طريق باب المندب المحاذي لساحل شرقي أفريقيا، حين كان المسلمون يعبرون البحر الأحمر للتوجه نحو الصومال والحبشة وزنجبار … وكان الاتصال بين هـذه المناطق الأفريقية وشبه الجزيرة العربية مباشرة. وتبعًا لذلك كان شرقي أفريقيا متأثرًا في شؤون دينه بمناطق الخليج العربي، ويتجلى ذلك في انتشار المذاهب الفقهية والطرق الصوفية التي كان يتمذهب بها سكان الجزيرة.
- ثانيهما بري: اتخذه الإسلام للدخول في شمالي وغربي أفريقيا ـوهو بيت القصيدة هـناـ وهو معبر سيناء الذي اختاره عمرو بن العاص رضي الله عنه لفتح مصر، ولما استتب الأمر لجيوش الإسلام بأرض الكنانة تطلعت إلى فتح شمالي أفريقيا، حيث اتجهت صوب برقة فتونس فالجزائر ثم المغرب ، وتراخت الدعوة في شمالي أفريقيا برهة من الزمن بحكم أنها ظلت هـناك بين مد وجزر، وما أن استقرت في المغرب حتى بدأت تتبلور في جنوبي الصحراء الكبرى ويقال : إن بعض السود شاركوا في فتح الأندلس، وإن القوط أسروا جنديا أسودا من جنود المسلمين، وكانوا لم يسبق لهم أن عاينوا إنسانا أسود، فسخنوا ماء كثير ورموه فيه، وجعلوا يحكون بشرته ظنا منهم أن سواده ناجم عن صدأ التصق به..
(ج) مسالك قوافل المسلمين من شمالي أفريقيا
كانت هـناك عدة مراكز هـامة في شمالي أفريقيا ينطلق منها الدعاة المسلمون نحو غربي القارة، وسيؤدى ((المغرب العربي)) دورًا طليعيًّا في نشر عقيدة وحضارة الإسلام فيما وراء الصحراء الكبرى، وسيؤثر أيما تأثير على مسلمي تلك البلاد: فمن شمالي أفريقيا والأندلس جاء وساد المذهب المالكي ، ومنه وفدت الطرق الصوفية: القادرية ، والتيجانية ، والشاذلية ، كما سيأتي بيان ذلك في محله.
أما تحديد تاريخ موثوق به لوصول الإسلام إلى غربي أفريقيا فليس بالسهولة بمكان لعلة بسيطة؛ هـي أن اعتناق غالبية الشعوب الأفريقية للإسلام لم يتم عن طريق حملة عسكرية ليؤرخ له بسقوط مملكة ما وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام دخل غانا قبل وصول المرابطين إليها وسقوط تلك المملكة على أيديهم.، أو هـزيمة جيوش معادية للمسلمين في واقعة ما، وقيام نظام الإسلام على أنقاضها، إنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك المناطق بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، وجهود الشيوخ السياح القادمين من شمالي أفريقيا، وبفضل تفاني الأفريقيين الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.
على أن التاريخ احتفظ لنا بأسماء مراكز تجارية تقع على الطرف الشمالي من الصحراء الكبرى، كانت تنطلق منها قوافل التجار المحملة بالبضائع ـمنسوجات وخرزـ يقايضونها بالذهب والعاج والعبيد...
وها هـي بعض مراكز الانطلاق:
- (1) برقة بليبيا : كانت قوافل المسلمين تغادر برقة محملة بالبضائع وتتوجه صوب بيلما [BILmA ] حتى تصل منطقة بحيرة تشاد ، وقد تصل القوافل نفسها بلاد برنو [ BORNO ]
- (2) القيروان بتونس : كان التجار المسلمون يغادرون القيروان بجمالهم المحملة بمنتجات ((أفريقية)) إلى (( نكيدة )) حيث تقع مناجم النحاس، ومنها تقصد كانو [KANO ] في بلاد (( الهوسا )) بنيجيريا .
- (3) تلمسان بالجزائر : كانت قوافل التجار المسلمين تنطلق من تلمسان إلى ثنية نهر النيجر حيث تقع مدينتا تمبكتو وغاو الشهيرتان.
- (4) طريق لمتونة : وهي الآتية من المغرب الأقصى على امتداد ساحل المحيط الأطلسي إلى حوض نهر السنغال .
ويبدو أن الإسلام سلك الطريق الثالث والرابع للوصول إلى السنغال لارتباط هـذا الأخير تاريخيًّا وجغرافيًّا بإمبراطوريتي غانا ومالي اللتين كانتا على صلة وثيقة بالجزائر والمغرب، فضلًا عن أن حركة عبد الله بن عباس ياسن رابطت فترة من الزمن في جزيرة سنغالية قد تكون (( أندر )) ((N'DAR)) هـي مدينة تقع في جزيرة من المحيط الأطلسي بشمال غربي السنغال.
مملكة غانــا لا ينطبق موقع جمهورية غانا الحالية على المملكة التي كانت تحمل هـذا الاسم.
ليس من السهولة بمكان تحديد موقع غانا جغرافيًّا بشكل دقيق، إذ يظهر أن كل المؤرخين ـ وهم جميعًا عرب- الذين كتبوا عنها في القرون الوسطى لم يعاينوها، وإنما نقلوا أخبارها عن غيرهم انظر بهذا الصدد كتاب ( مونتي (L'ISLA NOIR:mONTEIL.P.60. ، وكادت الروايات الشفهية أن تنسى غانا يقول المؤرخ (تسير نيان) في كتابه ( سون جاتا) : إن غانا كانت تعرف لدى شعب ( ماندين )باسم ( واغادو WAGADU) انظر الصفحة 62 من الكتاب المذكور. ويبدو أنها كانت قوية وثرية ارتبطت بعلاقات وثيقة مع بربر الصحراء الكبرى، وقد تكون حدودها الشمالية وراء مدينة (( أودغشت )) الغنية بالملح، وقد يكون بعض أطراف السنغال جزءًا منها.
وكانت تشتمل على جزء هـام من موريتانيا الحالية ومناطق من غربي مالي ، وكانت (( أودغشت )) الواقعة في قلب الصحراء قد احتلتها غانا سنة 990م وظلت تحت سيطرتها إلى أن فتحها المرابطون سنة 1054م.
وكانت عاصمة غانا هـي ـكومبي صالح- القريبة من مدينة نيرو ، وكانت العائلة المالكة تحمل الاسم العشيري ((سيسي)) [CUSSE ] وهي من جماعة ((سونينكي))؛ ولم ينتشر الإسلام بين أفراد الطبقة الأرستقراطية الحاكمة غير أن صلتها بالمسلمين كانت قوية.
الإسلام في غانـا
إن اختلاف التجار المسلمين على بلاد غانا، وتكاثف التبادل، والوفود والتسامح الديني الذي كان يتحلى به النظام القائم، ساعد ذلك كله على تغلغل العقيدة الإسلامية بين الأهالي سلميًّا؛ وبلغ الأمر إلى أن أفرادًا من الجالية الإسلامية تقلدوا وظائف عليا في البلاط الملكي؛ وكانت معرفة المسلمين بالكتابة والقراءة عاملا حاسمًا في هـيمنتهم على مرافق هـامة من جهاز الإدارة العامة والحياة الاقتصادية؛ وبمرور الزمن ازدادت أهمية الجالية الإسلامية في غانا إلى درجة أن كان لها حي خاص بها بعاصمة المملكة فيه اثنا عشر مسجدًا.
وظلت غانا محتفظة باستقلالها السياسي إلى أن لاحت في الأفق حركة عبد الله بن ياسن الإسلامية.
نهاية غانــــا
تاق المرابطون إلى فتح مملكة غانا، فبعثوا أولًا جيشًا بقيادة يحيى ابن عمر سنة 1054م، فاستولى على (( أودغشت )) وطرد منها الحامية الأفريقية. ومن ((أودغشت)) توجهت جحافل لمتونة نحو عاصمة غانا (( كومبى صالح )).
وكان المرابطون يستهدفون نشر الإسلام في منطقة لم يكن الإسلام معروفًا لأهلها جميعًا في ذلك العهد، وهذا خلاف ما يزعمه بعض المؤرخين أن لعاب قادة المسلمين كان يسيل لَدَى ذكر ثروة غانا، حيث ينبت الذهب مثلما ينبت العشب، فاندفعوا إلى فتحها. وعندما تولى أبو بكر بن عمر زعامة جيوش المرابطين في الصحراء، نجح في الاستيلاء على ((كومبي صالح)) سنة 1076م.
ويلاحظ أن سيطرة المرابطين على غانا لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما قامت انتفاضات وثورات ، ليست ضد الإسلام الذي جاءت به جماعة أبي بكر بن عمر، بل كانت تستهدف تحقيق إدارة غانية.
ففي غضون ذلك، استشهد ابن عمر أثناء اشتباكات مع الغانيين، وبوفاته اضمحلت سلطة المرابطين السياسية، في الوقت الذي كان يحقق ابن عمه يوسف بن تاشفين انتصارات باهرة في المغرب والأندلس .
لم تكن انتصارات أصحاب عبد الله بن ياسن ذات بال من الناحية العسكرية والسياسية، إذ لم يدم وجودهم في غانا أكثر من خمس عشرة سنة، لكن هـذا الحضور الخاطف ترك أثرًا طيبًا للإسلام في المنطقة كلها لمساهمته في توصيل صدى الإسلام إلى نواحٍ بعيدة من غربي أفريقيا لم يكن قد وصلها من قبل، مما مهد الطرق أمام دعاة حققوا ما لم تحققه الحملة العسكرية. وخليق بنا أن نلمح إلى أن بعض المصادر تشير إلى أن ملك تكرور (( وارانجاي ))[ WAR N'DIAYE ] الملقب بأبي الدرداء قد أخذ نصيبًا وافرًا في حملات المرابطين بعد أن أسلم.
والخلاصة أن حملة المرابطين على غانا لم يترتب عليها ترسيخ مباشر لدعائم الإسلام بقوة السلاح في تلك البلاد، إنما تمخض عنها أن طائفة من سكان المدن الذين لم يسلموا قبل الحملة المرابطية اعتنقوا الإسلام؛ إضافة إلى تشبث شعب ((سونينكي)) بالعقيدة الإسلامية من ذلك العهد إلى يومنا هـذا.
ورغم جهود المرابطين ومسلمي غانا بقي الإسلام محصورًا في رقعة جغرافية صغيرة إلى أن برزت مملكة مالي في الساحة السياسية في المنطقة والتي حملت الدين الإسلامي إلى أدغال ومجاهل غربي أفريقيا كله.
مملكة مالـي [mALI]
يبدو أن كلمة مالي تحريف لماندين، وهذه الأخيرة تعني شعب مالي في لغتها الأصلية.
خلاف مملكة غانا، ظلت أخبار إمبراطورية مالي راسخة في الذاكرة الجماعية من شعب ((ماندين)) مثلما نقل أحوالها سياح وتجار العرب والبربر المسلمين الذين جابوا الصحراء الكبرى واتصلوا بأنفسهم بشعوب وأمراء مالي. وتم وصول أخبار هـذه المملكة السودانية إلى العالم الإسلامي خلال رحلات ملوكها نحو الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وكانت مملكة مالي واسعة؛ حيث تصل حدودها إلى ما وراء (( غاو )) شرقًا، والسنغال غربًا، وسيكاسو جنوبًا، وولاتة شمالًا. وينتسب ملوكها إلى جماعة ((ماندين أو ماندينكا))ـ [mANDING ] التي تعيش حول نهر النيجر وبالأخص في الجزء الغربي منه، وشرقي السنغال وجنوبيه، وعلى ضفتي وادي غامبيا الذي يعتبر واديًا ماندنيكيًّا، وغينيا بيساو ، وغينيا كوناكري ، وبوركينا فاسو ، وساحل العاجل وسيراليون … وقد يربو تعداد الناطقين بلغة ((ماندين)) بغربي أفريقيا على عشرة ملايين نسمة، وقد انعكس تباعد مساكنهم على لهجاتهم، لكنها لهجات متقاربة يتفاهم الناطقون بها دونما صعوبة.
ينتمي أربعة وتسعون في المائة من هـذه الجماعة إلى الإسلام، بينما تتمسك فئة منها بالديانات التقليدية الأفريقية؛ وخليق بالملاحظة بهذا الخصوص أن هـذه المعتقدات تحتوي على عناصر عديدة من أصل إسلام، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بأن الديانة الإسلامية عمت فعلًا شعب ماندين خلال فترة من تاريخه، ثم تسرب إلى إسلامه التدني والضعف والفتور بفعل انقطاع بعض جماعاته عن موجات التجديد، وبحكم انعزالها عن الحركات الإسلامية.
وتكمن أهمية جماعة ماندين في أنها قامت بنشاط دائب وحافل طوال عهود عديدة لنشر الإسلام في غربي أفريقيا، وذلك على صعيدين:
- على مستوى السلطات الرسمية، [ملوك مالي].
- وعلى مستوى الأفراد ((التجار المتجولين الدعاة)) جولا كلمة (جولا) هـذه لا يحسن خلها بكلمة مشابهة؛ أعنى ( جولان DIOA ( التي هـي اسم لإحدى الجماعات بجنوبي السنغال، في حين أن ( جولا) التي نحن بصدد الحديث عن دورها في نشر الإسلام بغربي أفريقيا تنتسب إلى جماعة ماندين، وتتعاطى التجارة أساسا في نشاطاتها. [DIOULA ]
يعزى دخول الإسلام إلى بلاد ماندين إلى حادثة طريفة، مفادها أنه حوالي سنة 1050م أصاب قحط شديد أرض ماندين، فانقطع المطر وأشرف الحرث والنسل على التلف، وكانت العادة تقتضي في مثل هـذه النازلة أن يتدخل الكهنة والسحرة لاستعطاف الآلهة، وكان (( برا ماندانا )) [BARAMENDANA ] أميرًا لماندين وقتئذٍ، فنهض بنفسه لتنظيم طقوس عديدة، تم خلالها تقديم القرابين، فلم يُجْدِ ذلك كله نفعًا.
وكان ينزل في (( كانغابا )) [KANGABA ] عاصمة إمارة ماندين، رجل مسلم لم يشاطر الأمير وشعبه طقوسهم، ولما لاحظ فشل المحاولات كلها وبطلان الوسائل المستعملة جميعها، وتمكن البؤس واليأس والأسى من نفوس أهل مالي، عرض على الأمير مساهمته في التضرع مقابل إسلام ((برا ماندانا)) فقبل هـذا الأخير العرض، واعتنق الدين الإسلامي، ثم تعلم ما تيسر له من مبادئه، ثم خرج الرجلان نحو ربوة تطل على ((كانغابا)) فصليا صلاة الاستسقاء، ولدى الانتهاء منها جعل الشيخ يدعو رافعًا يديه إلى السماء والأمير يؤمن. وما كان ينهيان تضرعهما حتى هـبت ريح باردة مبشرة، وملأت السحب الداكنة السماء مثقلة بالبركة، فهطلت أمطار غزيرة عمت أرجاء البلاد، وامتلأت الأودية، وفاضت الشعاب، وارتوت الحقول، وحييت المزارع.
وما إن رأى الأمير الغيب يسقي مملكته حتى بادر إلى دعوة شعبه إلى الدين الجديد، ومن ذلك التاريخ البعيد بدأ انتشار الإسلام بين ظهراني شعب ماندين.
ويبدو أن (( سون جاتا كيتا )) [SON DIATTA KEITA ] كان المؤسس الحقيقي لمملكة مالي؛ على أنه على الرغم من وجود ملحمة شهيرة تدور حول شخصيته تصدح بها شعوب ماندين تخليدًا لذكراه، فإننا نجهل حياته الحقيقية غير الأسطورية، وبالأخص ما يتعلق بإسلامه.
في حين خلد التاريخ ذكرى أولاده وأحفاده لما نهضوا به من أعمال جلّى لدفع عجلة الإسلام إلى الأمام في منطقة غربي أفريقيا؛ وسجل التاريخ بالخصوص أسماء مانسا : في لغة ماندين تعني الملك، ويلاحظ من ناحية أخرى أن ابن بطوطة يطلق كلمة مالي اسما لمدينة كان يقطنها منسا سليمان، أي : عاصمة مملكة مالي.
( منسا موسى وولي ) [SON DIATTA KEITA ] (1255-1270م )، أحد أبناء (( سون جاتا ))، وكان ((موسى وولي)) قد حج بيت الله في موكب حافل.
ويعد (( موسى كانكو ))[KANKOU ] أو كانكا [KANKA ] من أشهر ملوك مملكة مالي وأكثرهم نفعًا للإسلام في تلك الحقبة، وكان على جانب من الذكاء والفطنة والعلم، وكان يتكلم اللغة العربية بطلاقة؛ وقيل: إنه ألف كتابًا في الفقه المالكي.
قام ((منسا موسى)) هـذا برحلة إلى المشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج سنة 1324م فتركت في العالم كله صدىً كبيرًا لما تميزت به من أبهة؛ ولما قيل عن ثروة هـذا الملك الأفريقي، ومما زاد في صدى هـذه الرحلة أن منسا موسى اصطحب معه ستمائة رقيق كانوا يحملون على ظهورهم الذهب والتبر الخالص، وأنه أنفق أموالًا طائلة على المساكين والمعوزين بمكة والمدينة .
ولم تقتصر هـذه الرحلة التاريخية على جانب أداء المناسك؛ بل إلى جانب ذلك كانت رحلة تبادل ثقافي في واسع النطاق؛ أولى((منسا موسى)) خلالها عناية خاصة بالعلماء، فاتصل بنخبة منهم بالقاهرة التي عرج عليها، فتباحث معهم حول قضايا مختلفة تهم العالم الإسلامي، كما اهتبل فرصة وجوده في تلك الديار المعروفة بالعلم لاقتناء كمية وافرة من كتب فقه المالكية ، وأبدى اهتمامًا خاصًا بالفن المعماري الإسلامي الأصيل، فاتصل خلال تنقلاته في المغرب والمشرق الإسلاميين بمهندسين معماريين للاستفادة بهم والأخذ عنهم. وقد نجح فعلًا في إبرام عقد عمل مع أحد المهندسين المعماريين من عرب الأندلس ، هـو الشاعر أبو إسحاق الساحلي الأندلسي انظر بهذا الصدد كتاب السيد حسن إبراهيم ( انتشار الإسلام في القارة الأفريقية ) حيث يقول فيه : إن الفضل يعود إلى أبي إسحق في إدخال فن البناء بالآجر في غربي السودان، وقد وافته المنية أثناء عودته إلى بلاده.، الذي قبل أن يصحب ((منسا موسى كانكو)) إلى مملكته حيث أشرف على تشييد مبانٍ عمومية عديدة في كل من ( نيامي )، عاصمة مالي يومذاك، وفي مدن أخرى هـامة من تلك البلاد.
ولما أنهى أبو إسحاق المهام المنوطة به، وصله((منسا موسى)) بصلات باهظة تقدر باثني عشر ألف مثقالٍ ذهبًا ! واقتدى بـ((منسا موسى)) خلفاؤه، فاعتنوا بالعلم وأهله؛ وكان ابن بطوطة ، الرحالة المغربي، الذي زار مملكة مالي سنة 1352م، أيام حكم (( منسا سليمان ))-أخي موسى كانكو- شاهد عيان للنهضة الثقافية والعمرانية، وانتشار الإسلام والرقي الاجتماعي في مالي، حيث يقول:
((إن أهل مالي كانوا يربطون أولادهم بالقيود ولا يفكون وثاقهم إلى أن يحفظوا كتاب الله عن ظهر قلب))
وبخصوص التشبث بالعبادات يقول الرحالة المغربي:
((إذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر المرء إلى المسجد فإنه لن يجد مكانًا يصلي فيه، وذلك لشدة الزحام وكثرة إقبال الناس على أماكن العبادة.
أما استتاب الأمن فحدث عنه ولا حرج، فقد كان أهل مالي يتمتعون بمستوىً أخلاقي رفيع، لدرجة أن المرء لا ينزعج إذا ما ضاع له مباع لأنه متأكد من العثور عليه حيث أضاعه؛ سالمًا من أي أذى))
ومن خلال شهادة ابن بطوطة نستطيع أن نتعرف على ملامح الإسلام في مملكة مالي، وعلى مدى تمكنه من نفوس شعب ( ماندين ) حيث أصبح دين الدولة الرسمي.
إلى جانب السلطة الرسمية المتمثلة بملوك مالي أنفسهم، فإن الموجات البشرية التي هـاجرت من مالي في أوج عظمتها نحو غامبيا وغينيا بيساو بزعامة أحد جنرالات ((سون جاتا كيتا))، هـو (( تيراما خان تراوري )). ((TIRAmA KHAN TRAOURE)) ((الذي حمل جنوده معهم الديانة الإسلامية خلال حماتهم في (( جولوف )) وغامبيا وجنوبي السنغال، ثم توالت هـجرات الجماعات من مالي نحو ما يعرف بـ (( تليجي ))TILIDJI)) ((أي الغرب، وخصوصًا بعد اضمحلال هـذه المملكة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. حيث رحل عدد كبير من مسلمي مالي إلى غامبيا وغينيا اللتين كانتا تابعتين له، يضاف إلى هـذه الهجرات دور التجار الماندينكيين المعروفين بـ((جولا)) وكان لهؤلاء دور في نقل الإسلام إلى المناطق الغابوية الصعبة الولوج للمزيد من الاطلاع على دور جماعة ماندين في نشر الإسلام بجنوبي السنغال، راجع مذكرتنا المقدمة لنيل دبلوم المدرسة الوطنية للإدارة والقضاء بعنوان : تأملات حول الإسلام لدى ماندين في كاسا منبسا ـ سنة1978م داكار ـ باللغة الفرنسية.
ظهور الإسـلام في السـنغال
وقد ضربنا صفحًا عن ذكر مملكة (( سنغاي )) التي قامت على أنقاض مملكة مالي، والتي قام ملوكها بنشاط هـام لنشر الإسلام بغربي أفريقيا، ويعتقد أن شأنها شأن مالي، كانت تحكم بعض أجزاء السنغال خصوصًا شماليّه؛ (( فوتا )) التي تعتبر أول منطقة تمكن فيها الإسلام في هـذا البلد منذ بداية القرن العاشر الميلادي.
وقد يكون (( وارانجاي OURAN'DJAYE)) أول أمير سنغالي يعتنق الديانة الإسلامية. وقيل: إن ابنه (( لابي LABI)) الذي اعتلى العرش بعد وفاة والده، كنت له يد طولى في انتصار المرابطين سنة 1056م على خصومهم من قبيلة ((أكدالة)) البربرية.
وباستثناء شرقي وجنوبي السنغال -للأسباب التاريخية السالفة الذكر- فإن باقي مناطق البلاد مدين لـ((فوتا)) بإسلامه.
العوامل التي ساعدت على انتشار الإسـلام في السـنغال
تضافرت عدة عوامل فساعدت على انتشار الإسلام سلميًّا في القطر السنغالي، وكان بعضها عائدًا إلى طبيعة الدين الإسلامي نفسه، وبعضها الآخر راجعًا إلى عوامل استجدت في الساحة السنغالية. ونتعرض فيما يلي لأهم تلك العوامل:
جاذبية العقيدة الإسـلامية
تستهوي الأرواحي نحو الإسلام وحدته وتجانسه وتناسقه وتماسك المسلمين وتشابههم؛ إذ يتقاسم جميع أفراد الجماعة الإسلامية عقيدة واحدة وعبادات متحدة لا تتغاير مهما تباين مكان وزمان ممارسيها، ومهما تباعدت أصول ولغات وألوان وظروف حياة أتباعها.
لهذا اعترف ( أنتيامبا ANTIAmBA - ) من جماعة (دوغون (DOGON ) دوغون قبيلة في جمهورية مالي مشهورة بصناعة الأقنعة.
بعد تجوال طويل في عدد من القطار أحس أثناءه بالعزلة التامة والغربة والوحشة، وكان سبب ذلك بعده عن موطنه الأصلي الذي بمجرد أن غادره بدأ اعتباره أجنبيًّا في معتقده وفي طقوسه الدينية وعاداته حيث لم يشاهد أحدًا يمارس ما يمارسه، فلا يشارك أحدًا من الأرواحيين من مناطق أخرى في العبادة، والعكس بالعكس -قائلًا: ((يسوغ أن يكون الخطأ وحده المتعدد)) فروليش : مسلمو أفريقيا السوداء:ص91.
الرقي الاجتماعي الذي يخولّه الإسلام لأتباعه
علاوة على هـذه الوحدة الروحية فإن الإسلام يهيئ للفرد المسلم نوعًا من التفتح على العالم يكفل له استعدادًا فكرياًّ يوفر له عوامل تساعد على الرقي الاجتماعي، ويدفعه إلى التطلع إلى حياة أفضل، ويخرجه من وضع اجتماعي وثقافي واقتصادي متدن إلى وضع أعلى وأرقى: يبدأ أولًا من المظهر الخارجي؛ ملابس بيضاء ناصعة نظيفة جميلة تروق ناظريها، وجسم نزيف يفوح بالعطر يتعهده المسلم على مدى اليوم بالوضوء، ومساكن راقية -بالقياس إلى مساكن الأرواحي- ينبعث منها من حين لآخر أريج البخور… ويتعاطى المسلم النشاط التجاري مما سمح له أن يكوّن مركزًا اجتماعيًّا بفضل ثروته، أضف إلى ذلك أن المجتمع الإسلامي مهما كانت بساطته يتوفر على مؤسسات عمومية يتعهدها جميع أعضاء الجماعة دون تمييز: مساجد وجوامع ومدارس ومجالس العلم مما لا نظير له في المجتمع الأرواحي، ولا يحسن إهمال دور معرفة القراءة والكتابة التي يتمتع بها بعض أفراد المسلمين، فهما لغزان طالما حيّرا عقل الأرواحي الذي ظل يتطلع إلى كشف كنههما لأنهما الطريق الموصل إلى مصافّ الإنسان المتطور.
سهولة وبساطة العقيدة الإسلامية
على أن سهولة وبساطة عقيدة الإسلام ساهمتا في انتشاره بسرعة، فالإيمان بوحدانية الله تعالى، والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والالتزام بمقتضى هـذه العقيدة يجعل المرء كامل العضوية في الجماعة الإسلامية دونما قيد أو شرط، حيث إنه غير مطالب أن يتخلى عن زوجاته التي لا تتجاوز الأربع…
الصلاة جماعة
إن للصلاة جاذبيتها الكبيرة خصوصًا حين تؤدي جماعة: يؤُم الإمام الجماعة، ويرتل آيات من الذكر الحكيم، وعندما يقوم بحركة يتبعه المأمومون بحركات منسقة ومنظمة لا تصاحبها ضوضاء ولا صخب ولا هـرج، خلاف ما يقترن بطقوس الأرواحيين من فوضى…
دور التجار المتنقلين
لا يقل دور التجار شأنًا في هـذا المجال عن غيرهم؛ فهؤلاء وإن لم يكونوا دعاة متخصصين فهم أثناء عرض بضائعهم على الأرواحيين كانوا يقومون بالدعوة إلى الإسلام حيث يتعرف غير المسلم إلى الأصهار إلى دين أزواج بناتهم.
فهكذا استطاع التجار المسلمون ((جولا))المتنقلون تبليغ الدعوة إلى المناطق النائية و ((الغابوية)) من مجاهل أفريقيا، مما يفند المزاعم القائلة : إن الإسلام وقف على تخوم الغابات الكثيفة حيث لا تتجاسر أفراس العرب على التوغل فيها؛ زد على ذلك أن هـذه الأفراس ـإن وجدت في بعض مناطق القارة الأفريقيةـ لم تقم بأدنى دور في نشر الإسلام بغربي أفريقيا.
وكان جولا [DIOULA ] ولا يزالون يجوبون أرجاء غربي أفريقيا كلها، ويتصلون بشعوبها، وكانوا متخصصين في تجارة ثمرة ((كولا)) [KOLA ] وهي ثمرة شجر ينبت في المناطق الغابوية يلاحظ أن ثمرة ((كولا)) مقدسة لدى عدد من الشعوب غربي افريقيا، تقدم كهدايا، وتوزع بعد المآدب، وتكون جزاء هـاما من أدوات متعاطي الطلاسم، وتوضع على أضرحة من يعتقد فيهم الولاية، والاسم العربي الصحيح لها، هـو البندق الأفريقي، ويطلق عليها في بعض الأوساط الإسلامية المتعلمة كلمة : طنبول ولا أعتقد أنها هـي البندق الأفريقي، ويبدو لي أن استعمال كلمة ((كولا)) أقرب إلى الفهم عند الحاجة ، ومن المسلم به أن إشعاع الإسلام بدأ في المناطق الحضرية حيث كانت المراكز التجارية وطرق القوافل والمدن الهامة يروج فيها التبادل التجاري.
دور الشيوخ في نشر الإسلام في السنغال
لقد ثبت تاريخيًّا أن التجار المتنقلين ((جولا)) [DIOULA ] قاموا بنشر العقيدة الإسلامية أثناء أسفارهم وتجوالهم، لكن الدور الأول يرجع في ذلك إلى شيوخ أفارقة وعرب وبربر أبلوا البلاء الحسن في هـذا المجال، فقد ((عم الإسلام في المنطقة ـغربي أفريقياـ بفضل شجاعة وتفاني هـؤلاء الرجال المتواضعين من الشيوخ المخلصين المجهولين الذين كانوا يسلكون أوعر المسالك، حاملين عيابهم المليئة بالزاد والكتب)) سيدوباجان كوياتي، تعرض له مونتي في كتابه : الإسلام الأسود، المشار إليه سابقا.
وقد لاحظ أوروبيون كانوا يقومون بزيارة السنغال في القرن الخامس عشر الميلادي، حضور شيوخ من المغرب وتلمسان وموريتانيا في بلاط كل من ملك (( كاجور وجولوف وسين وسالوم ))… ويذكرنا هـذا الحضور بوجود المسلمين في قصور ملوك غانا ، وكذا بسبب اعتناق أمير مالي الإسلام على يد شيخ كان في عاصمته أثناء أزمة حادة.
وكانت الجالية الإسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي ذات شأن كبير في مختلف أقاليم السنغال، فلاحظ أحد الرحالة الأوروبيين سنة 1506م أن ((ملك وأعيان إمارة (( جولوف )) كانوا مسلمين، ولديهم شيوخ بيض من أئمة ودعاة الإسلام، وكانوا يعرفون القراءة والكتابة، ويأتي هـؤلاء الشيوخ من بلدان بعيدة من الداخل، ومن مملكة فاس والمغرب (كذا) ويقدمون بهدف إدخال السود إلى عقيدتهم عن طريق الدعوة)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.
وكان الشيوخ يقومون بالدعوة إلى الإسلام دونما قلق أو إزعاج يأتيهم من طرف السلطات الرسمية؛ ذلك بأنهم كانت تحيط بهم هـالة من التعظيم، فعلى الرغم من كون غالبية الأمراء لا يدينون بالإسلام، وكون المسلمين أقلية، فإن الأرواحيين على مختلف نحلهم ومللهم يحترمون الشيوخ ولا ينالونهم بسوء، وقد أشار إلى هـذه الحقيقة (( موللين )) [mOLLIEN ] أثناء زيارته لبعض أقاليم السنغال في القرن التاسع عشر: ((يحصل الإسلام كل يوم على تقدم، وسيصبح قريبًا الدين الوحيد لإقليم (( كاجور ))؛ إذ بقي القصر وحده متشبثًا بالوثنية)). ويعلل ((موللين)) نجاح الإسلام بـ ((الحصانة التي تجعل شخص الداعية المسلم مقدسًا عند الأمراء الوثنيين، مثل ما هـو محترم لدى المسلمين، مما يساعد على انتشار الإسلام عند هـذه الشعوب.)) شيخ تجاني سي: الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.
وخليق بنا أن نتدارك هـنا أن كلمة شيخ التي تقابل [mARRABOUT ] بالفرنسية، هـي عكس كلمة ((تبدو)) [TIEDO ]، التي تعني: الشخص الذي يشتغل بالعبادة، والدعوة ، وتكوين الناشئة، والذكر، وكبح الأهواء، والبعد عن المرح، والزهد في حطام الدنيا؛ ولا يتعاطي كل ما من شأنه أن يحدث فصلا بينه وبين نشاطه الديني.
طائفة ((تيدو))
كلمة ((تيدو)) هـذه لدى جماعة ((ولوف))تقابل ((سونينْكي))عند جماعة ((ماندنيكي)) وتعني: الخبث والوحشية والدناءة والخشونة والكفر، وهي فئة كانت ـ كما لا حظ (( بولان ))ـ : منتشرة في مختلف أنحاء السنغال وتشكل ((ميلشيات)) السلطات القائمة آنذاك، وكانت تعيش على السرقة والنهب وتمارس كل أنواع المنكرات والموبقات.
ويبدو لأول وهلة من التناقض الفاضح أن يعتبر أشخاص هـذه صفتهم مساهمين في نشر الإسلام، ولكن معرفة علاقة هـؤلاء بشعوبهم، وتصرفاتهم القاسية تجاهها، توضح جليًّا مدى دورهم عن غير قصد منهم في الدعوة إلى الإسلام، والتفاف الناس حوله، وذلك أن طائفة ((تيدو)) كانت تسطو على ممتلكات وأرواح ((بادولو)) بادولو بلغة ((ولوف)) تعني : الضعيف المغلوب على أمره؛ وتطلق على عامة الشعب. بسبب وبدون سبب، وتتحكم في حياتهم، وتتصرف فيها كل حق، وتثـقل كواهلهم بالضرائب التي يحلو لها أن تجبيها، ثم لا تمر إلا فترة وجيزة على ذلك حتى تعاود الكرة لتستولي على كل ما تقع عليه يدها من أموال وأمتعة وأثاث…
ولقد بلغت من غطرسة ( داو دمبا [DAW DEmBA ] ـ 1640 - 1647م )، أحد ملوك تيدو، أنه كان((يمنع السود ـ رعاياه ـ من الزواج)) ويطرد العجزة من حضرته، ويحظر على ((بادولو)) ارتداء السراويل، وتمليح ((الكسكس)) لأن الملح صالح للأمراء -وحدهم- ولم يهيأ لعامة الشعب.
وقد صور (( مير MAIRE)) ـ الذي زار إمارة ((والو)) في القرن السابع عشر الميلادي بشكل بشع استبداد (( براك BRAK))، ملك تلك الإمارة، حيث قال: ((إذا لم يتمكن -أي براك- من استعمال الاستبداد تجاه البلدان المجاورة فإنه يمارسه ضد شعبه؛ كان يجوب البلاد، يقيم يومين في قرية وثلاثة أيام في أخرى؛ حيث يكلف أهل القرى بتغذيته هـو وحاشيته المكونة من مائتي خبيث… ولأتفه إساءة يخربون القرى ويسترقّون بعض أهلها.)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.
من خلال استبداد وقساوة ((تيدو)) برزت الدعوة الإسلامية أمام ((بادولو)) منقذًا لهم مما هـم فيه، وحصنًا يصونهم من غلبة وقسر السلطة الاستبدادية، فكانت قرى وبيوت الشيوخ ملجأً للمستضعفين ومأوى لعامة الشعب.
لذلك كلما تفاقمت ضغوط ((تيدو))، تكاثف إقبال الناس على الإسلام وارتفع إحساس المسلمين بضرورة الذب عن الحق وحماية ((بادولو))حتى أصبح الاصطدام بين الطائفة الإسلامية وأنظمة ((تيدو)) أمرًا لا مناص منه. ولم تكن دواعي تلك النزاعات المسلحة -في أغلب الأحوال- إكراه الناس على اعتناق العقيدة الإسلامية، بل كان الدافع الموضوعي حماية المجتمع السنغالي ككل، والدفاع عن كيان الجماعة الإسلامية بصفة خاصة. وكان كلما ازدادت قوة أتباع الإسلام، نما خوف طائفة ((تيدو)) وصعَّدت مناوشتها للمسلمين. ولعل الحادثة التي تعرض لها الشيخ (( مابا جاخو با ))، وهو يومئذٍ طالب لدى أحد الشيوخ في ((كاجور)) من الدلائل على أسلوب القسر عند ((تيدو)). وملخص الحادثة أن الشيخ ((مابا جاخو با)) كان يعمل يومًا في ضيعة شيخه فإذا بأحد أفراد ((تيدو)) يسطو على الضيعة لاختلاس الغلال والأموال منها، فتعرض له الشيخ وما كان سوى جولات حتى أردى المعتدى قتيلًا.
وتدخل في هـذا الإطار ثورة الشيخ (( سيلا با ـ [CHEIKHSYLLABA])) بإقليم كازا منسا، التي تعود أسبابها إلى أن قد تكون جماعة ((بينونك)) أولى سكان جنوبي السنغال المعروف باسم كازا منسا.
((بينونك)) [BAINOUNK ] ـ وهي صاحبة السلطة في تلك البلاد ـ كانت تحول بين ((سيلا)) وتلامذته وأفراد الطائفة الإسلامية كافة في المنطقة وبين ممارسة شعائر الإسلام. وكان يأتي بعض أفراد ((بينونك)) وقت الإفطار في شهر رمضان فيصبون الخمور على موائد المسلمين، وأمام تعنت وتمادي هـذه الجماعة الطائشة اضطر الشيخ ((سيلا)) لمنازلتها وإعلان الجهاد المقدس ضدها، فانتصر عليها ومزقها شر ممزق، وكانت تلك الانتفاضة سببًا لانتصار الإسلام وانتشاره بجنوبي السنغال.
وحتى الإدارة الفرنسية الأجنبية كانت قد شجبت قساوة نظام ((تيدو))، وامتدحت جهود الشيخ ((مابا جاخو))، الذي كانت تعتبره ألد أعدائها، وذلك لدور هـذا الشيخ في استتاب الأمن في (( شالوم وسين ))، وعمله لتوفير الكرامة لشعبه، ودوره في ترسيخ قواعد العدالة في المنطقة التي كانت تحت نفوذه (أعتقد أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية ((تيدو)) ستكون مقبولة لدى شعب ((ولوف)) الخاضع للحيف ) ((بيني لا براد)) : أحد حكام فرنسا في السنغال، كان قد دارت بينه وبين الشيخ مابا جاخوبا معارك ضارية كانت سجالا بينهما.
وهذا الكلام صادر من أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي في السنغال؛ الذي لم ير بدّا من تعرية نظام ((تيدو)) الغاشم.
ويشير بعض المؤرخين إلى أن الأمير (( لاتجور LATDIOR)) لم يخذله قائده العسكري (( دمبا وارسال DEmBA WAR SALL)) إلاّ عندما حرم عليه وعلى أتباعه النهب والغصب والسطوة على أموال ((بادولو)).
ومن نافلة القول: الإلحاح على التدليل بأن المسلمين لم يحملوا السلاح لفرض دينهم على غيرهم بغربي أفريقيا، وإنما انجذب إلى الإسلام أناس نالوا من حيف وجور سلطة لا تدين بدين ولا تحترم عهدًا ولا ترضخ لسلطان قانون…
وكفى برهانًا على ما نقول؛ مراجعة الأوضاع السائدة في مختلف أقاليم السنغال، وخصوصًا في فوتا في القرن الثامن عشر قبل حركة الشيخ سليمان بال ، حيث نجد أن الظلم قد طفح والاستبداد بلغ كل مبلغ، ولم يصبح هـناك مندوحة سوى الاحتكام إلى حد السيف، ومما جعل الأمر يستفحل في فوتا أن حكامها (ساتيك ) [SATIK ] وهنوا واستكانوا إلى حد التنازل عن بعض سيادة البلاد لصالح جيرانهم من ترارزة منطقة في موريتانيا، مجاورة لـ ((فوتا تورو)).
والبيع في أسواق النخاسة. قام الأفارقة بدور في هـذه التجارة، حيث كانوا يبيعون بني جلدتهم غلبة وظلما.
ولما قويت شوكة (تور ودو ) [TORODO ] كلمة تورودو تطلق على النخبة المتعلمة من سكان فوتا تورو، التي كانت تكون الأرستقراطية الحاكمة في نظام الإمامة : الذي أقامه الشيخان : سليمان بال، وعبد القادر كان واستتب الأمر للمسلمين في فوتا ، وقامت دعائم الإمام (( ألماميا )) ((ألماميا)) أطلقت على أنظمة قامت في فترات متقاربة ومناطق متجاورة في ( فوتا جالون) غينيا حاليا، و( فوتا تورو) في السنغال؛ ويطلق على القائم بالأمر في تلك الأنظمة اسم (ألمامي) وهو تحريف لكلمة : الإمام.
، لم يفرض النظام الجديد عقيدة الإسلام على أحد، بل انصب اهتمامه على تعمير البلاد وتصعيد الدعوة إلى العقيدة الإسلامية، وتشييد المؤسسات الدينية، والسهر على مصالح رعاياه، وحمايتهم من تعسف الطغاة والظالمين، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على الحياة العامة.
حدثت عدة انتفاضات إسلامية في مناطق مختلفة من السنغال خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين ضد استبداد ((تيدو)).
ففي جنوبي السنغال قامت حركة إسلامية كبيرة باسم ((كاندايا [KANDAYA])) وخصوصًا بمنطقة (( باكاو [PAKAO ]))، وكانت رد فعل لظلم وتعسف ((سونينكي [SONINKE ] وكان القبطان)) بوللتيه [PELLETIE ] قد عايش جانبًا من تلك الحركة سنة 1843م فكتب عنها يقول: ((لم يصبح لـ (سونينكي) قيمة اليوم، حيث قتل المسلمون منهم قسمًا كبيرًا، والقليل الباقي منهم قَبِلَ بسيطرتهم، ولم يعد ملك (بوتيه BOUTHIE ) ذا وزن، شأنه شأن ( سونابا SOUNABA) زعيم (سندنير SANDINIER) الذي أعلن إسلامه)) كرستان روش : غزو ومقاومة شعوب كازا منسا CONQUETE REISISTANCE DES PEUPLES DE CASAmANCE.
ومما يؤسف له حقًّا أن نرى بعض المثقفين السنغاليين لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة وتدبر طبيعة النزاعات المسلحة التي دارت رحاها بين الطائفة الإسلامية وطغمة ((تيدو))، ففاتهم إمعان النظر في ملابسات تلك الحقبة الخطيرة من تاريخنا سيأتي الكلام على هـذا في الفصل المخصص للحركات الإسلامية.
، فانزلقوا يصفون حروب المسلمين الدفاعية بعدم الشرعية ؛ متأثرين بالنزعات الاستعمارية المعادية للإسلام التي كانت تبث السموم لتثبيط هـمم أبناء الإسلام حتى لا ينهضوا للدفاع عن حوزة دينهم، وفضلًا عن ذلك فقد قام الاستعمار بمحاربة حركات المقاومة الإسلامية الهادفة، وشجب مواقف قادتها البطولية، وقذف أعمالهم بكل أنواع القدح والقذع، وشوّه سيرة كل زعيم مسلم عارض مشاريع الاستعمار والاستغلال، فاتهم بعضهم بالاستبداد ، وبعضهم الآخر بالقسوة واستغلال الإسلام لأغراض شخصية… ومن هـنا وقع الأستاذ (( شيخ توري ))، رئيس الاتحاد الثقافي سابقًا في حبائل الدعاية الاستعمارية حينما صرح أمام مؤتمر عقد في مدينة (( أبيدجان )) في إبريل سنة 1962م قائلًا: ((إن كل الحروب التي حدثت في أفريقيا منذ وصول الإسلام حتى الآن مستنكرة وقابلة للانتقاد)) فنسان مونتي في كتابه : L'ISALm NOIR
هذه النسب بخصوص تكاثف الجماعات في السنغال تقريبية؛ إذ لا تعتمد على إحصاءات رسمية، وإنما اعتمدنا فيها على تقديرات عامة وملاحظة كثافة وجود جماعة من تلك الجماعات في منطقة ما فقدرنا نسبة عدد أفرادها بالقياس إلى الجماعات الأخرى.
الحركات الإسلامية في السنغال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر
هـناك حقيقة لا مناص من ذكرها: وهي أن الإسلام لم يتم انتشاره في السنغال بفعل أعمال عسكرية، وإنما عمّ هـذا البلد بفضل تضافر عدة عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها، ولا ينبغي لأي دارس بجدية أن يعبأ بادعاء ( ديشام ) [DESCHAmPS ] القائل: ((إنَّ الإسلام لجأ أحيانًا إلى الغزو الوحشي -كذا- وقد جرّ تعصب وكبرياء الفاتحين إلى احتقار الوثنيين وإخلاء سبيلهم ليعيشوا، وتارة إلى استعبادهم، وحينًا آخر إلى ترك الخيار لهم بين الإسلام والموت)) ديشام : أديان أفريقيا السوداء Deschamps:Les Religions D'Arique NOIRE. على أنَّ التاريخ يفند هـذه المزاعم بشهادة المستعمرين أنفسهم الذين اضطروا إلى الاعتراف بأهمية وعدالة الحركات الإسلامية ((أعتقد- يقول (( لا براد )) - أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية ((تيدو)) ستكون مقبولة لدى شعب ((ولوف)) الخاضع للحيف)) ( بيني لا براد) حاكم سابق لمستعمرة السنغال.
كانت هـذه الوحشية التي يتحدث عنها ((بيني لا براد)) أحد العوامل التي تسببت في قيام ثورات المسلمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.
ومن قدر الله عز وجل أن تلك الحركات الإسلامية على اختلاف أرضية انطلاقاتها ظهرت في فترات تاريخية متقاربة نسبياًّ، واستغرقت مدى قرن ونصف القرن، وبرزت جميعها بعد انحلال وانقراض الإمبراطوريات: غانا ومالي وسنغاي بغربي أفريقيا، وبعد انقطاع الصلات بين ضفتي الصحراء الكبرى تجدر الإشارة إلى أن بعض رجال الدولة المسلمين في غربي أفريقيا حولوا تجديد الاتصال بدول المغرب العربي، من ذلك مثلا: قيام ( أحمد الشيخ ) أحد سلاطين دولة ( الدينة ) في ( ماسينا ) بالكتابة إلى السلطان سيد عبد الرحمن أحد ملوك الدولة العلوية، وإلى العثمانيين في الجزائر لتقديم ولائه لهم، لكن رسائله ضاعت في رمال الصحراء، ولم تصل إلى أصحابها.
إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحول النشاط التجاري عن بعض أطراف البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم إلى حدّ ما في زعزعة دول شمالي أفريقيا، ونجم عن هـذا الوضع انصراف الأنظار عن ذهب ( بلاد السودان ) أي: غربي أفريقيا.
ومما زاد الطين بلة أن تزامن ذلك كلّه مع سقوط مدينة (( تمبكتو )) الشهيرة بالعلم على يد القائد العسكري المغربي (( جودر باشا )) والباشوات الذين حكموا هـذه المدينة من بعده، وكانت سيطرتهم على ((تمبكتو)) عامل تقهقر حضاري ، وتدهور اقتصادي ، وتأخر ثقافي ، لما كان لـ((تمبكتو)) من مركز إشعاعي هـام، ولكونها هـمزة وصل بين شماليّ أفريقيا وغربيّها؛ كما كانت محط رجال العلم، وموطن علماء كبار من سود وبيض، ومنار هـداية يقصدها طلبة العلم من كل حدب وصوب.
ولما استولى عليها((جودر)) ورجاله حوَّلوها إلى شبح مخيف، يعيث فيها العسكر فسادًا، ويفشون فيها الفجور؛ الأمر الذي جعل الحركة العلمية والثقافية تتردّى وتتدني، واصطدمت طغمة الباشا ((جودر)) بعلماء المدينة فأبعدت بعضهم من علماء تمبكتو الذين أبعدوا عنها : العلامة أحمد بابا السوداني، الذي لاقى الأهوال أثناء نقله لى مراكش، عاصمة أحمد الذهبي، وقد انكسرت رجله خلال الرحلة وقد تصدر للتدريس في جامع الكتبية بمراكش إبان وجوده في جنوبي المغرب كأسير...
ولا يخفى على أحد دور المغرب والمغاربة في ترسيخ دعائم العقيدة الإسلامية في غربي أفريقيا، حيث كانت دور العلم فيه ولا تزال، خاصة جامعة القرويين بفاس، محط رحال طلبة العلم من الأفارقة المسلمين، ومناهل عذبة للعرفان؛ وكاتب هـذه السطور واحد ممن درسوا في هـذه الجامعة سنتين كاملتين، ولا يبرح يحتفظ بذكريات عطرة عنها. ، واضطهدت بعضهم الآخر، الأمر الذي أدّى إلى اتساع رقعة الانقطاع بين شمالي وجنوبي الصحراء الكبرى؛ وكان لذلك كله انعكاسات وانتكاسات على الساحة الإسلامية في السنغال ، ثم تزامن ظهور المغاربة في مملكة سنغاي مع تقهقر الدعوة الإسلامية بغربي القارة الأفريقية، لأن هـذه الدولة كانت قاعدة قوية لنشر الإسلام حيث نشطت فيها الحركة الإسلامية تحت رعايتها.
أضف إلى ما سبق: تحوّل الأنظار عن بعض مناطق البحر الأبيض المتوسط بفعل تصاعد القوى الصناعية الناهضة بأوروبا ؛ التي أصبحت تتطلع إلى كشف أسواق جديدة توزع فيها منتجاتها الصناعية، ولتضمن توفر المواد الخام لمصانعها، وفي الوقت ذاته كانت ترنو بنهم إلى أراضي ما وراء البحار للاستيلاء عليها، واستغلال ثرواتها الطبيعية، واستعباد شعوبها.
وكانت مملكة سنغاي تستقطب شعوبًا عديدة من غربي أفريقيا، وتسيطر على أراضٍ شاسعة، وبعد انقراضها تفككت إلى إمارات ومشيخات صغيرة لا يضم بعضها إلاَّ رقعة من الأرض يسيرة، فتحولت غالبية حكوماتها إلى أنظمة استبدادية ، تمارس ضد شعوبها أبشع صور الطغيان ، فحينئذٍ ازداد شعورالمسلمين بالظلم، ونما إحساسهم بالاضطهاد الذي أصبحوا موضعًا له، فقاموا بمناهضته، وزاد من مقاومتهم له أنهم ينتمون إلى عالم يغاير عالم الأرواحية والاستبداد ، وكان لا بد والحالة هـذه من تغيير الوضع لصالح الجماعة الإسلامية.
ويسوغ تلخيص أهداف وأسباب قيام الحركات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين فيما يلي:
- حماية المسلمين من ظلم وغطرسة ((تيدو)).
- صيانة استقلال البلاد والحيلولة دون المساس بسيادتها.
- محاولة إعادة الوحدات السياسية على غرار مملكتي مالي ، وسنغاي .
- إعادة الكرامة الإنسانية لإنسان هـذه المنطقة دون نظر إلى أصوله ومعتقداته بعد أن كانت كرامته مداسة من قبل نظام ((تيدو)).
وكانت الحركة الإسلامية هـذه على وشك إنجاز أهدافها لولا أن عاجلها الاستعمار الصليبي الغربي، وفوّت على الإسلام فرصة ذهبية للانتشار الكلي في غربي أفريقيا، ولو انتشر الدين الإسلامي على يد سلطة زمنية تسهر عليه وترعاه لما عرف ما يعرفه النوم من تحريف وتشويه؛ لأنَّ وضعه الحالي ناجم عن كونه انتشر في ظل أنظمة كانت تجهد نفسها للإجهاز عليه، وعندما استعصى ذلك عليها، رحبت بكل ردّة إلى الأرواحية ، أو أي تحريف يموّه حقيقته وينحرف بالمسلم عنه.
بهدف تصحيح الأوضاع قامت الحركة الإسلامية في ( فوتا تورو ) وتأسست إثرها الإمامة ما بين عامي 1776م و 1881م.
وخليق بنا أن نبيِّن أن من مزايا هـذا النظام بعده عن الاستبداد، حيث كان يشترط فيمن يتقلد مهام الإمامة ((ألماميا)) أن تتوفر فيه صفات: العلم والاستقامة والتقوى ، والورع ، فضلًا عن أن المنصب غير وراثي؛ يتطاول إليه كل من اجتمعت فيه شروط الإمامة .
لا غرو حينئذٍ أن تحقق الإمامة في ((فوتا)) إنجازات في ميادين شتى: فقد حرمت النخاسة في أراضيها رفض الإمام ( ملك بول ) هـدايا الشركة، محرما بيع رعاياه، ومانعًا مرور قوافل العبيد شيخ تيجان سي المشار إليه سابقا.
وشجعت التعليم، واعتنت بمجالس العلم، وابتنت المساجد، وابتعثت طلبة العلم إلى موريتانيا المجاورة… ولم تكتف الإمامة بنشر العقيدة الإسلامية في ((فوتا)) فحسب بل عملت على توسيع دائرة الإسلام إلى ما وراء حدودها السياسية حيث انطلق الدعاة نحو الأقاليم المجاورة لدى شعبي ((ولوف وسيرير)) فأحرزوا نجاحًا أيما نجاح.
وأعطت ((فوتا)) السنغال عددًا من كبار رجالات السياسة والفكر والحرب من الطراز الأول، أمثال : الحاج عمر الفوتي ، والشيخ مابا جاخوبا ، والحاج مالك سي ، والشيخ أحمد بامباو ، والشيخ موسى كامارا ، وغيرهم…
الداعية الحاج عمر بن سعيد المعروف بالحاج عمر
(1212-1281هـ 1795-1864م)
ولد الحاج عمر ببلدة هـلواربمنطقة (( فوتاتورو )) سنة 1212 هـ وتوفي في كهف (( ديغمبري )) 1281هـ.
درس الفوتي في مقتبل عمره مبادئ اللغة العربية بعد حفظه لكتاب الله تعالى، ثم تفقه في المذهب المالكي السائد في غربي أفريقيا وشماليها، حتى نال حظاًّ وافرًا، وفي ريعان شبابه شدّ الرحال صوب (( فوتا جالون )) ( غينيا ) لطلب العلم، وما برح حتى يمم نحو الشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج، فأقام في الأراضي المقدسة ثلاث سنوات أو يزيد، التقى خلالها بكبار علماء الحجاز ، ومن ثم عرج على مصر حيث اتصل بشيوخ الجامع الأزهر الشريف، ولا نعرف ما إذا كان الفوتي تتلمذ على علماء الجامع الشهير، غير أن من المحتمل أن يكون قد استفاد مما شهده في أرض الكنانة؛ لأنَّ هـذه البلاد بدأت تحتك بالغرب بعد حملة نابليون ، ولا يستبعد أن نطلع الزائر السنغالي على معلومات تتعلق بتقدم أوروبا المادي الذي جعلها تبيت النيّة وتعمل على إخضاع البلدان الإسلامية لسيطرتها.
وبعد عودة الفوتي إلى بلاده كان يقول بصدد النصارى : ((إذا أتى البيض بالبضائع فعليهم أن يدفعوا رسومًا مرتفعة، وعندئذٍ يستطيعون الاتجار معنا بسلام)) انظر كتاب شيخ تيجان سي : L'A Confererie SENEGALAISES DEMOURIDES
إن احتكاك الفوتي بعدّة شعوب إسلامية في القرن الثالث عشر الهجري، ومعرفته الدقيقة بأحوالها، ودراسته الطويلة للتاريخ الإسلامي أحدث تحوّلًا كبيرًا في تفكيره وتحليله لقضايا الإسلام، فجعله يفكر في ضرورة تغيير الأوضاع، حيث وعى بثاقب فكره أن دور المسلم لا ينبغي أن يقف عند أداء الشعائر الدينية -كما كان شأن كثير من شيوخ عصره- في الوقت الذي تتردى فيه شئون المسلمين، إذ لا يليق بالشيوخ الركون والاستكانة والتمسك، والابتعاد عن مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتفرج على ظلم وتعسف الأمراء الوثنيين الذين يسومون المسلمين أشد الإهانة والقهر.
لقد اندهش الفوتي لدى مقدمه من الشرق الإسلامي من فتور الوازع الديني لدى المسلمين، وتشتت قواهم، وتفشي الجهل فيهم، مما يبعث على الرثاء، واعتقد أن من واجبه أن يهب لنصرة بني دينه ما وجد لذلك سبيلًا ((وهذا الموقف ـ يقول (( ديمون )) [DUMONT] ـ ليس له تعليل سوى نمو السمات الآتية في الفوتي منذ صباه: الإيمان، والرغبة في نشر العقيدة الإسلامية، وحماية الإسلام من سوء الفهم الذي أصابه في أفريقيا بسبب جهل العامة المجردين من كل تعليم، وغير القادرين على الرجوع إلى نصوص الشريعة، إضافة إلى تسرب بقايا الوثنية الخفية)) فرناند دومان : FERNAND DUMONT:L'ANTI SUL TAN OU AL HAD
OmAR TAL DU FOUTA. COmBATTANT DE LAFOI.ولما عاد الفوتي إلى غربي أفريقيا ركّز اهتمامه على نشر الإسلام في المناطق التي لم يعمّها بعد، وعلى تطهيره من الشوائب في الأقطار التي يكوّن فيها المسلمون الأغلبية.
لتحقيق هـذه الأهداف أقام في منطقة في ( غينيا ) متاخمة للسنغال ومالي ، وهناك انضم إليه عدد كبير من الشباب الإسلامي الذين وفدوا إليه للاستزادة من المعرفة، فكوّن منهم جيشًا عرمرمًا. ويمكن إيجاز أهداف الفوتي بالأمور التالية:
1- إبعاد خطر النصارى (الدول الاستعمارية ) عن غربي أفريقيا حيث كان الأوروبيون يتاجرون مع أهل هـذه المنطقة، ويحاولون مدّ نفوذهم السياسي والاقتصادي، وربما فرض النصرانية ـ دينهم ـ عليها.
2- العمل على نشر الإسلام في المناطق غير الإسلامية، وتصحيح ما انحرف من عقيدة المسلمين، وتطهيرها من الشوائب والخزعبلات والممارسات الغريبة والبعيدة عن الإسلام الصحيح.
3- وكان يرى أنَّ إحياء الإسلام لن يتم بالطريقة القادرية التي أصبحت فاترة، والتي تُبالغ في التسامح مع الوثنية وتتقاعس عن الجهاد المقدس.
4- وكان يعتقد -وهو على صواب- أنه لا بد أن تكون هـناك قوة مادية رادعة ومنظمة تقوم بمهمة حماية مكتسبات الإسلام ورعاية شؤون المسلمين.
لقد نجح الفوتي إلى حدٍّ بعيد في تحقيق خططه؛ حيث استطاع خلال فترة وجيزة أن يجمع تحت راية الإسلام رقعة واسعة من منطقة ما حول نهري السنغال والنيجر.
الشيخ مابا جاخو با (1809 ـ 1867م)
قامت حركة ـ أو على الأصح ثورة كان( بيني لابراد ) أول من أطلق كلمة ( ثورة ) على حركة الشيخ مابا جاخو الإسلامية
-الشيخ مابا جاخوبا في منتصف القرن التاسع عشر كردّ فعل لتصاعد تعسف ((تيدو)) ضد مواطنيهم؛ وكان الشيخ مابا قد التقى بالحاج عمر الفوتي سنة 1848م الذي توسم فيه خيرًا، وبشّره قائلًا: ((ستصبح في مستقبل قريب -بإذن الله- من المجاهدين، وستكون وبالًا على كفرة المشرق والمغرب؛ أعلن الجهاد ولتكن ((سين)) آخر هـدف لك؛ لأنَّ ((سيرير سين)) وإن كانوا وثنيين فإنهم شرفاء ونشطون، لذلك فهم يستحقون الاحترام)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين.
إن هـذا التصريح المنسوب إلى الحاج عمر الفوتي يفنّد افتراءات أولئك الذين يزعمون أن حركة الشيخ مابا وأمثالها قامت أساسًا على استفزاز وعدوان مبيت ضد أتباع الأرواحية ، بل هـو تأكيد صادق وتعليل موضوعي لأسباب تلك الانتفاضات الإسلامية، فهي لم تقم إلاّ لمقاومة الفساد والظلم لا لقهر النزهاء والعاملين مهما كانت عقيدتهم.
ولدى استقراء الوضع السائد في (( سالوم وكاجور وباديبو )) يظهر جليًّا تدني الأمن العام وتعاسة ((بادولو)) الأمر الذي جعل قيام حركة مابا جاخو حتمية لا مفر منها لرفع الظلم. ولتحقيق النجاح لمثل تلك الحركة لا بد من توفر حدّ أدني من الوحدة، وقيادة سياسية قوية وحكيمة، وشاء الله تعالى أن اجتمع ذلك كله في شخص الشيخ مابا، فاستطاع أن يقطع شوطًا بعيدًا في توحيد أقاليم (( ريب )) و (( سالوم )) و (( باديبو )) وأوشك أن يضم (( سين )) إلى مملكته لولا أن تصدت له القوى الاستعمارية تحت ستار ((كومبا أندفين جوف فماك)) فوضعت حدًّا للمد الإسلامي سنة 1867م في معركة مشهورة باسم معركة ((صومب)) انظر مقالنا حول معركة ( صومب) في جريدة المسيرة التي تصدرها وزارة الإعلام بجمهورية السنغال. حيث استشهد الشيخ مابا جاخوبا ؛ لكن حركته لم تخمد بوفاته إذ حمل لواءها أخوه ونجله من بعده.
الإمام فودي كبا دومبويا ( 1818ـ1901م)
لقد تركت حركة الشيخ مابا صدىً كبيرًا في غربي أفريقيا كله، وساهمت في إبراز قيادات، وخاصة في السنغال ، منها: حركة الإمام ((فودي كبا دومبويا)) الذي كان قد استنجد في بداية أمره بالشيخ (( مابا جاخوبا )) حينما اعتدى بعض المعتدين عليه هـو وطلبته بمنطقة كازامانسا ، وأدّى تعاونه مع الشيخ مابا إلى نتائج مثمرة حيث ساعد على حماية الجماعة الإسلامية ورفع معنوياتها.
ركّز ((فودي كبا)) جلّ اهتمامه على جماعة (جولا ) التي كانت إلى ذلك العهد، لم ينتشر في صفوفها الدين الإسلامي، وبفضل جهوده كلّل الله تعالى مساعيه بالنجاح بدخول عدد كبير من أبناء هـذه الجماعة في الإسلام، ونجح في بناء أسس الثقافة الإسلامية في تلك البلاد.
ولعلَّ أروع بطولة سجلها في تاريخ الحركة الإسلامية في السنغال هـو رفضه رفضًا قاطعًا للمساومة حينما التجأ إليه مسلمون فارون من الاحتلال الإنجليزي إثر نزاع نشب بينهم وبين المحتلين الأجانب، وكان هـؤلاء قد طالبو الإمام ((فودي كبا)) بعدم حماية المسلمين وبضرورة تسليمهم إليهم؛ وكانت حمايته لأولئك المسلمين سببًا لنشوب معارك ضارية بينهم وبين ائتلاف مكوّن من الفرنسيين وحلفائهم من الخونة، أثناء تلك الاصطدامات استشهد الإمام ((فودي كبا)) سنة 1901م بعد حياة حافلة بالأعمال البطولية في خدمة العقيدة الإسلاميةانظر بهذا الخصوص مذكرتنا المشار إليها سابقا..
كانت هـناك حركات نشطة في مناطق مختلفة من السنغال تهدف كلها إلى ترسيخ قواعد الإسلام، منها: حركات خطت خطوات هـامة في سبيل تحقيق أهدافها، وحركات تكالبت عليها قوى الشر، من ذلك: ثورة الشيخ (( سيرن أنجاي سال )) الذي نجح في الوصول إلى الحكم في ( كاجور ) سنة 1663م، وحاول وضع البلاد في ظل الشريعة الإسلامية، وتقدم مشروعه إلى حدٍّ بعيد، ولم ينجح أعداء الإسلام في القضاء على نظامه إلاّ بعد أن استغاثوا بأمير ( سالوم ). وفي القرن الثامن عشر -في المنطقة ذاتها- قام المسلمون بثورة مماثلة، وكان من سوء الحظ أن أحدق بهم الأعادي من كل جانب، ففشلت ثورتهم بعد أن أبلوا البلاء الحسن، وكانت الإجراءات التي اتخذت ضدهم قاسية حيث بيع بعضهم وفر بعضهم الآخر إلى إقليم الرأس الأخضر .